أنا مش هنام دلوقت
بين التوقع والرهان
نعم، كنت أريد أن أخط كتابة تاريخية، يتذكرني من خلالها الشاعر وديوانه،
ويأتي قادم الأيام؛ كي يقول الناس: لم يحدث أن قـُرأت العامية هكذا. لكن يا ربما
في القراءة الثانية ويجوز الثالثة، بدت القصة أكبر من الكتابة، ولم ألحظ سر تورطي
العفوي في إبداء دفوع تخص ما طالعته إجمالا. وليس من أجل توريط التجربة في اتهام
لا تستحقه.
نعم ربما لا توجد قراءة بريئة للأدب. ومؤكد محبتي للرجل قد تدفعني دفعا
لهذا. لذا لم أستطع صياغة مقدمة لهذه الإطلالة تعبر مبدئيا عن أمتناني للشاعر الذي
وضع ثقته أن أدلو بدلوي حيال ديوانه الأول. والذي أتمنى مخلصا أن لا يكون الأخير.
هذا من جهة، وفي ذات الوقت لم تأخذني الرغبة أن أدخل في تهويمات، ربما لن تضيف
شيئا إلى ما قرأته هنا. لذا كان هذا الحوار....
*هل ترى مثلي أن شاعرية "محمد مخيمر" -على حد تعبيرك- أكبر من
هذا الديوان؟
** لعلك تلاحظ أن العامية الآن تقف في منعطف مربك، وأقصد هنا الشعراء
المعنيين بضرب النموذج والاختلاف، وقوف قد طال أمده. بين عامية يؤسس لها دعاة
البساطة وأحيانا الاستسهال، وعامية أخرى تريد أن تحلق وتتجاوز، دون أن يفهم من
حديثي أن الطقس إجمالا قد قُسم إلى ثلاثة أنماط:
العامية في ثوب العادي، العامية المثال التي تسعى لإدراك القصيدة الحلم،
عامية الحل الوسط التي لا هي إلى هذه أو تلك.. لكن بطبيعة الحال قد أقف بعض الوقت
عند هذا الثالوث لعلة في نفسي، فرضتها فرضا تجربة شاعرنا هنا.
*
وكأنك تريد أن تلمح أن ما
طالعناه هنا هو الحل الوسط في خطاب العامية؟
** ليس بالصورة التي تقصدها ، لكن أزعم أن رصيد التجربة والموهبة،
والامتلاك شبه الكامل للأدوات قد وقف حيال مواجيد الذات موقفا محايدا، بل يا ربما
كان الديوان في واحدة من تجلياته يؤسس للحل الوسط في خطاب العامية، فلا هي إلى
البساطة الفارهة، التي فرضتها آليات السوق إذا جاز التعبير، ولا هي على الضفة
الأخرى صاغت القصيدة الحلم، بما تمتلكه من مقدرات.
بلا مواربة، لم تركن الشاعرية هنا لخبرتها وموهبتها؛ كي تصوغ نصا يتسق مع
نفسها وعالمها بالكلية، في آلية أكبر من الوصف والانسلال الخجل لممارسة بعض
التعرية والمحاكمة لواقعها وتفاصيله. وأزمة هذه الكتابة إنها تحرض الذائقة للأسئلة
التي إن طُرحت تستهدف الذاتية وتحولاتها، إلى درجة قد تستفز الذائقة أن تحاكم..
إلى أي مدى كانت الغنائية في صالح الشعر ومعاييره الإنسانية، وهذا يقينا قد يطرحه
أصحاب القراءات البريئة للأدب.
من غير تبرير
هتكمل بصة طويلة على البلكونة
وتكبت التنهيدة اللي ف صدرك
وتسيب أحلامك ع الترابيزة
وتقوم
من غير ما تخلص فنجان القهوة
* إننا لم نلحظ موقفا واضحا من العالم ولم نتبين الأزمة التي ينطوي عليها
شعر الرجل؟
** ولِماذا الأزمة، أو التورط الطوعي في تنظير الواقع المعاش. تعال نطرح
معطيات أو أسئلة افتراضية على هامش هذه الكتابة، أو نستنطق نوايا النص بعيدا عن
إنتاج أحكام قيمة، لا الشعر يحتاجها، ولا النقد بقادر على صياغتها، على ضوء نشاط
إبداعي، هو بالضرورة يحتفل بنسبية الرؤى المنبثقة من الذات، ويستفز كذلك آرائنا
الانطباعية بدورها، والتي تحاول بلورة نفسها لِما يخدم عاميتنا. فإذا عدنا لعنوان الديوان لأدركنا على سبيل
الابتداء وفي تقرير جدير بالنظر " أنا مش هنام دلوقت" فلا توجد حمولة
دلالية لهذا العنوان أكبر من الرغبة في السهر، أو على الأقل انعدام دافع النوم،
إذن فالأجواء هنا ليلية بامتياز، وربما ذلك ما يفسر حضور مفردة(قهوة) بشكل لافت في
قاموس هذه التجربة.
بالانتقال إلى ما يمكن تسميته خطاطة الكتابة، فلقد عبرت من خلال المقدمة
عدة ومضات رائعة ومكثفة، ومن ثم تم الانتقال إلى تقسيم ثلاثي : هو(45 صفحة) هي(28 صفحة)
الراوي(54 صفحة) وأزعم أن هذه الخطاطة قد تفض الاشتباك حال القراءة
المتأنية لهذا الديوان، فلقد اتضحت معالمه منذ أول لقاء، كونه منبثقا من ذات عاشقة
أو خطاب غزلي شفيف، يتوجه لهذه الـ هي، وإن لم يخلُ من بعض ما يميز خطاب الأزمة من
مواجيد الفقد والحرمان أو عدم القدرة على التصريح والإبانة حيال هذه الـ هي.
* أرى نية لمجاملة الرجل؟!
** إننا لا نملك جسارة أن نصادر على ما أرادته الشاعرية حال انتخاب
مواضيعها. فالرجل قد ذهب طوعا لخطاب عشق، يجيد التحرك فيه بمقدراته الشعرية في هذه
اللحظة على الأقل. وإن كنت تلمح لذلك التقسيم الثلاثي الذي يبدأ من شاعر اتسق مع
عالمه وكتب من خلاله وآخر تجاوزه من كم ما لاقاه من إحباطات، وأسس قصيدته الحلم،
أو ذاك الذي أصر على تشويه الواقع وتفاصيله في خطاب شعري يغلب عليه معنى الكتابة
الانتقامية. فما المانع أن نتجه بديوانه لمعنى الاتساق وكذلك التسامي فوق الأزمة
بخطاب عاشق.
لو يفضل لي ف قلب الدنيا شوية مية
مش عاوزاهم
أنا هاشربهم جوة كفوفك
أنا عارفاك بتحب عيوني وبتعشقني
هتصدقني
لقد كنا نستطيع تفسير حضور السينما الرومانسية في منتصف التسعينات، كردة
فعل متسقة مع ارتفاع معدلات سينما الجريمة والعنف والحركة والرعب. ومن سوء التأويل
أن تكون الأزمة في خطاب العامية الآن هي كل ما يمكن أن يقال. وليس مقبولا على الدرجة نفسها أن تتهم هذه
الكتابة بأنها لقتل الوقت، أو تعبير عن رفاهية أو غياب اليقين المتحقق في أزمات
الواقع، فهنا تهمة طاعنة ولا شك.
* إنه الدكتور والشاعر؟!
** لا لا ، لا يمكن قراءة منجز شعري استنادا للكوادر الوظيفية، ولاسيما أن
الرجل على غلاف الديوان لم يأتِ اسمه مسبوقا بهذه (الدال) التي يحرص عليها
الآخرون.
إن هذا السؤال على ضفاف شاعرية "محمد مخيمر" في المبتدأ وليس على
ضفاف هذا الديوان، ورغم ما ينطوي عليه من طرافة لا مكان لها، لكنها قد تفجر سؤالا
إشكاليا إذا كنت حريصا على الفهم. فربما لو طرح الرجل في ثنايا عاميته خطابا
مأزوما لصادف أزمة تصديق لما يطرحه؛ استنادا لهذا الكادر الوظيفي. ولواجهته بسؤال
لا يقل طرافة.. من أين تأتيه الأزمة؟ ومن يدريك، فالكثير من الشعراء يؤسسون لخطاب
الأزمة ولكن منهم من يبتذل الأزمة ذاتها، في نصوص قد لا يتفق عليها في نهاية البحث
والتأمل.
* لقد قلت إن هذا الديوان مشكل وإشكالي في آن. ماذا كنت تقصد؟
** لا أريد لحديثي معك أن يشوبه نوع من التناقض، فلقد بررت أو حاولت تأسيس
أرض جديدة ومستحقة للخطاب الغزلي العاشق، ومبرراته الآنية في هذا الكم اللانهائي
من الأزمات، وكأنه ردة فعل طبيعية. لكنه مشكل لنفس السبب تقريبا. أو لنفصل بين
سؤالين على درجة من التباين. لماذا هذه الكتابة؟ ولماذا الآن؟
لماذا هذه الكتابة فلقد أفضت هنا إنها قد تكون ردة فعل للتسامي فوق مركبات
الأزمة. بيد أن لماذا الآن.. فهذه من طبيعة الديوان كونه مشكلا. فمضمونه الرؤيوي
على معايير اللحظة قد يكون نوعا من الجسارة. لن أحسبه قد تجرد من طبيعة الأزمة
والحديث عنها، وانحرف واعيا أن لا يتورط فيها. لكن الواقع الآن لا يطرح نفسه كواقع
مأزوم وحسب، لكنه يكشف عن تحولات يجوز توصيفها تاريخية. لذا سأحيلك إلى التهم
الجاهزة والبريئة إذا جاز التعبير أن الديوان بلا موقف واضح من العالم أو بلا
إشارات لعالم مواز تمثله القصيدة الحلم، لتهمة أخرى، عنصر الوقت فقط من يشير
لمشروعيتها.. إن كتابة بهذه الروح قد تتبلور عند مستوى معين من الذائقة وكأنها
كتابة فصامية. أو إذا شئنا الدقة انفصلت واعية أن تدلو بدلوها في مرحلة للصدق لا
ينقصها السيولة. أستطيع أن أدافع هنا وأقول: إن سيولة الأوضاع لم تساعد الشاعر أن
يبلور موقفا واضحا. لكن ما أريد أن أشير إليه على الدرجة نفسها. ولماذا ننتظر
الكتابة متى تشكلت المفاهيم والتحولات، ولاسيما أن الشعر في قمة ذهنيته ليس معنيا
بتنظير حاسم للواقع وما يستجد عليه.
هذا الديوان إشكالي لكثير من معطيات عدم الاتفاق، لا على الطريقة التي طرح الرجل
بها مواجيده، ولا على الجو العام لقصائده، وللكثير من المعطيات الجاهزة التي
تستطيع أن تحاكم على ضوءها التجربة كي تتهمها بهذه التهم على ضوء شيوع عامية
الأزمة.
* وكأنك تشير لعامل السن دون تصريح؟
** كيف تفهم هذا وعندنا تجربة"رامبو" التي توقفت دون العشرين،
وتجربة الشابي الذي مات يقينا في الخامسة والعشرين. إن ذائقة شعر العامية لا تفكر
بهذه الطريقة، واستجلاء موقف الشاعرية من العالم تقوله النصوص، وليس التجارب
الكبرى إلا فيما ندر، بل وقد أذهب إلى أبعد من ذلك أن غياب المظلة النقدية عن شعر
العامية وأطروحاتها، لم يؤسس ماهية البحث عن ذلك الموقف، إن هي إلا أحاديث
يتداولها شعراء العامية أنفسهم في معرض تدارسهم لتجارب بعضهم البعض.
* إذن ما هي مثالب هذا الديوان. وكأنك قد رضيت بعد أن توارى الحديث كي
يتحول إلى دفاع؟
** دعنا نتفق إنه لا كتابة بلا مثالب، لكن في بعض الأحيان محاولة الانتصار
لعامية مختلفة، قد يعمينا عن بعض الأمور، ولاسيما حين نتورط في المصادرة على نوايا
خالق الحالة الشعرية.
ملامحها إزاي تتشكل وأنت بعيد
وعيونك ليه ماخدتش الجومة ومسحت
طعم عيونها الفلوماستر من رسوماتك
لساك متعقد من خرم الشيش؟
وبتعمل دقة قلبك صامت
لا أريد هنا أن أطرح عليك سؤالا عبثيا ربما، من هو "محمد مخيمر"
في يقين قراءه؟
هو يقينا شاعر العامية الذي تنازل طوعا عن بعض من منجزه بين دفتي ديوان.
وفي الدائرة الأقرب هو من يؤسس جيلا من الشعراء من منطلق قيادته لورشة هدفها الشعر
وإتقانه. المعنى الأول مؤكد لا يمكن الخلاف عليه. لكن للثاني تبعات، تستطيع حال
معرفتك إنه بصدد نشر ديوان أن تذهب مع خيالاتك إن ستطالع العامية النموذج. لذلك
ستتولد عندك قدرة متطرفة على عدم المغفرة لأي سقطة أو زلة، بل وستقرأ منجز الرجل
عموما وأنت غير مسلح بالتسامح مع الخطأ متى وجد.
إن هذا الشاهد وغيره كثير في الحقيقة، يجوز التعاطي معه كونه عامية بلا
أخطاء. بل يوجد متون شعرية بذاتها قد تطرفت في الإجادة وتتسق مع ما هو معلوم يقينا
عن شاعرية الرجل، ولا أحسب أن هناك من يملك جسارة أن يسلب الرجل شاعريته أو يقلل
من مقدراته وملكاته. لكن من العدل أن نقول أو كما كنت دائما أتحايل؛ كي لا أقول
رأيا سلبيا في منجز أي شاعر: إنه ورغم كل شيء تظل شاعرية محمد مخيمر الذي أعرفه
أكبر بكثير من هذا الديوان. ولأسباب ربما لا تخو من طرافة وإن كانت تنطوي على
موضوعية لها أنياب أحسبه سيقبلها.
اعترف إنني لم أكن أحلم بملاقاة العامية النموذج استنادا لشكل معرفتنا
اليقينية بشاعرية الرجل. لكن ربما أخذني الأمل أن أجد تجريبا أو يكاد يجرد اللغة
من دلالاتها الوظيفية، فلقد انتخب الرجل لغته من أكثر قواميس اللغة رهافة وبساطة،
فلم نجد رموزا مستغلقة أو سياقات مشفرة تنتحل تهويمات لها ما يبررها. فخطاطة
الديوان وهدفه ومنظوره التفاعلي مع خطاب العشق والغزل كانت الغطاء المرجعي لهذه
اللغة، التي أصرت بضراوة أن تكون لغة إنجاز. وليست اللغة المعنية بمغادرة دلالتها
المستقرة يقينا. وهذا الغطاء قد شكل بدوره مع ثبات نسبي للقاموس أن نجد ظواهر نصية
لن أقول حريصة على ضرب النموذج أو مغادرة ما يمكن اعتباره نمطيا، بل كانت ظواهر
متسقة مع الهدف الرئيس من الكتابة، وما استلزمه هذا من مفردات وسياقات لغوية وصلت
إلى الحد الذي بدت فيه اللغة لا تنجز دلالتها المعجمية البسيطة بقدر ما كانت تجتر
نفسها، والغريب لأداء نفس الدور في هذا النص أو ذاك. الأمر الذي أفرز مع القراءة
المتأنية مفردات مفتاحية فالتسبيب عند الرجل بات أسيرا لـ (علشان) و(عشان) مراعاة
للوزن. مع عدم الانتباه للتكرار، ولاسيما في النفي بـ ( مفيش/ مش).
حاولت جهدي في الحقيقة أن أبرر هذا استنادا لشاعرية الرجل، وجدت إن زاوية
الرؤية للخطاب العاشق حتى في تحولاته من الـ (هو) إلى الـ (هي) ومن ثم الراوي. لم
يشهد تحولات يجوز نعتها حدية في لغة الديوان، بل قد استعير هنا مصطلحا في نقد
الرواية وأقول ثبات النبر. بل ولست أدري أين أنا من الحقيقة فلست متبحرا في علوم
الأوزان. أن الشاعر هنا قد استند على بحور قد يجوز الاختلاف بين بينتها الإيقاعية
ليس كبيرا. نعم يجوز أن تميل الشاعرية لإيقاع محدد، تحب طوعا أن تبث مواجيدها من
خلاله. لكن ربما مع التقسيم الثلاثي الذي طالعناه. كنا نراهن على حدوث ثمة ما يشير
للاختلاف ولو نسبيا.
* وكيف تتسق هذه اللغة مع ثبات الفكرة الرئيسية وتراهن على حدوث الاختلاف؟
** لأن الرهانات أصلا كبيرة والمتوقع ثري بالضرورة، فقد أغفر مرجعية
الكتابة إذا توفرت نية تثبيت الهدف منها، لكن ما لا أغفره هو ثبات التعاطي. نعم هو
شاعر ثري بالضرورة، ومن نافلة القول الحديث مجددا عن موهبته وملكاته، بيد أن ما
تألمت له حقا أن يسلم ظهور قصائده لهذا الجلد، ومن خلال هذا التثبيت الذي أدي لما
يمكن أن يكون اجترارا مع عدم التعالي على التكرار. الأمر الذي أدي إلى ظهور عناصر
شاعريته دون تألقها المعهود. فالتناصات قد حضرت بدلالتها{ أنا باعشقك} ولم يتم
التحايل عليها بأي حيلة تنجز مفارقة أكبر من حضورها{ أنت عمري} كان مجرد عنوان يا
ربما شرحته القصيدة{ هنومة} الباب الحديد، كان هذا التناص محاولة للانفلات ربما
اغتالها بعض غموض الإشارات، والتي جاء آخر النص بنجاح ليمنحها بعض المشروعية.
* وهل انعكس ذلك بدوره على التصوير؟
** تدري؟ إن هذا الملمح في ذلك الديوان هو إشكاليته الأكثر بروزا، شعرت في
القراءة الثانية أن المسافة التي تقطعها الشاعرية لإنجاز خطابها العامي قد تبدو
أطول، فحضور محمد مخيمر كشاعر فصحى على الدرجة نفسها كان يلقي بظلاله؛ ليكشف عن
معاناة لن أقول معاناة خلق، بل من السهل أن ننعتها: اختلاف يقين المعالجة. ففي
رأيي العامية كتابة يقين، بينما تظل الفصحى كتابة رؤية ورؤيا. تمنحك التصور الكلي
للحياة وتأتي العامية كي تفتت هذه الكليات في سياقات شعرية أكثر قربا من الأرض.
نستطع القول إن الصورة الشعرية قد نأت بنفسها من مشكل الثبات النسبي الذي
أسست له فكرة الديوان، ولغته.
متلخبط بين القطر العايم في محيط
وسفينة بتجري على القضبان
في هذا الشاهد لا تملك الذائقة سوى أن تتمعن في اغتيال المنطقية التي حملها
سطران من الشعر، كي يتجلى مفهوم المفارقة في أبهى صورة. هنا تغادر الصورة الشعرية
مفهوم التصميم؛ كي تعرض نفسها كتجليات. لا ندري أي لاوعي هذا الذي يؤسسها هكذا.
{ كانت عينيه فوق الدموع متعكزة} { وبيمسح الشمس اللي بلت لحيته}{ قومي استعيذي م البنات/ واتوضي من حلم الهوى}.
إن هذه الشواهد وغيرها كثير، بيد أن الأمر هنا بدا لي متفوقا أكثر على منحى
العفوية والبكارة. هنا يقين شاعر الفصحى وليس شاعر العامية.
* هل يمكن اختزال ديوان في صورة شعرية مدهشة؟
** يمكن، ولاسيما أن هناك جانبا مفردا، دائما وأبدا يكون هو السمة الأبرز
فيما يمكن تسميته الفاعلية الشعرية. لكنك تصر في وضوح أن تشير لشاعرية الرجل
وكأنها لم تترك لنا خيارا. فالصورة الشعرية عنده وإن كانت متسقة مع كونه يجيد
الفصحى في مضمار مختلف، لكن هذا لا يعني بأي حال تصنيف الملكات والمقدرات بين الفصحى
والعامية، وإبراز أن هناك ثمة اختلافا، وكأن حظيرة الإبداع الشعري تختلف من حيث
الأدوات هنا أو هناك. بيد أن العامية في هذا الديوان على الأقل كانت أكثر إقناعا
حين تم عرضها مختزلة، ولعلك تلاحظ كم التشعير في الومضات إذا ما قورن بالنصوص
الطويلة نسبيا. أو النصوص الطويلة التي تم ترقيم متونها. وربما أحيلك لقراءة هذا
النص المعنون: قلبي.
إن التوازي الذي تبحث عنه كي تسم هذا الديوان بالمكتمل فنيا أو يكاد، سيكون
هلاميا إلى درجة وليس للأسباب التي سقناه في بداية حديثنا، من كون خطابا عاشقا، بل
في زعمي إنه بتنحية الجانب النفسي الذي يؤسس له يقيننا بالفرق بين: ديوان أول
وكتابة أولى مؤكد لن يأتي في صالح الشاعر. هو يقينا ديوان أول، كنه ولاشك ليس
كتابة أولى تمنحك أن تصوب ما يمكن أن يقال على الكتابة الأولى من مثالب، ففي هذا
ظلم كبير للشاعر ومنجزه.
نعم تفوقت الصورة في كثير من متون الديوان على نفسها، وكانت أبرز العناصر
الجمالية فيه، لم تؤسس على التراسل وتبديل الوظائف والأدوار فيما بين ما هو مادي
ومعنوي وبالعكس، لكنها كانت تتألق في ضرب التوقع بمفارقات دالة لا ينقصها الإدهاش.
محفظتك
مليانة بأوراق وفلوس
لكن قلبي
( قاعد ويا الفكة)
جوة الدرج
* إذن هو ديوان جيد؟
** سيء الحظ النقد الأدبي أو ما يشبه الممارسة النقدية حين يتحدث عن ديوان
وفقا لمعايير الإجادة، فالديوان قد خرج للناس فعلا. بل أستطيع أن أذهب معك إلى
أبعد من ذلك. فيقينا – رأي شخصي- هو ديوان جيد فعلا. لكن تعال وبين يدينا منجز الرجل
نسأل سؤالا أكثر عمقا. هل إنتاج ديوان جيد هو منتهى الطموح لشاعر في قيمة محمد
مخيمر؟
قد أفقد موضوعيتي هنا وأقول: إن المتوقع من شاعرنا ديوان مؤثر ومختلف. ربما
ظلم الرجل الطقس العام الذي تمارس فيه العامية. مؤكد تشكلات الذائقة التي تقف
موقفا عدائيا من دعاة الاختلاف. تأسيس نص يغادر عناصر إشكاليات الكتابة الآن. أو
عدم جاهزية الشعر لأن يعلن موقفه من العالم. وأشهد هنا إنني صادفت شعرا حقيقيا،
وإن لم يأتِ على مستوى رهاناتي، وإن حاولت أن انتصر لك، ولمذهبك الذي تحبه وأورد
هنا موقفا يرضيك.. سأقولها وبعيدا عن منجز الرجل: إن المبالغة في صياغة كتابة بلا
أخطاء هي قمة الخطأ. والمواهب الشعرية الحقيقية ما كانت لتتسم بهذا الوسم إلا
لكونها ضدا لكل ما هو عادي ونمطي وسلطوي أحيانا.