الاثنين، 9 مايو 2022

إبراهيم عيسى.. محاولة للفهم.

 

منذ فترة ليست بالقصيرة، وأنا منشغل بهذه الظاهرة. وهل إبراهيم عيسى ظاهرة؟

في حقيقة الأمر إن الرجل يحقق في يقيني ما يشير لأزمة، لاحظتها منذ اقتربت من مجتمع المثقفين في مصر. وهي إشكالية التحصيل والتأصيل. فغالبا ما كنت أصادف من قرأ كثيرا، وهذه النوعية تمتلك شهوة الكلام؛ كي تبرز ذلك الكم الكبير من القراءات. بينما يظل التأصيل هو محاولة جادة لتحويل هذه القراءة لموقف أو اتجاه. يتبلور لما يمكن أن نسميه أيدلوجية خاصة قد تستطيع أن تعبر عن نفسها في محيط ذلك الرجل القائم بفعل التأصيل، والذي لم يعتمد على ما قرأ بقدر ما حوّل المقروء لنظرية قد تنجح في بسط معطياتها، أو كسب المتعاطفين معها. لكن تظل أزمة مراجعة هذه الأفكار، وتكرار اختبارها بين الحين والآخر مسألة أعمق بكثير من فكرة تبني الأفكار وكأنها تنطوي على قدر من القداسة. 

من هنا اعترف طوعا أو كرها أن إبراهيم عيسى كنموذج للمثقف. مؤكد قد قرأ كثيرا، ويبدو إنه قد أصَّل قراءاته، وحولها بعد جهد لموقف أيدلوجي يعبر عن قناعاته. 

 

بحسابات الظاهر من أفكار الرجل، والتي وجدت طريقها للناس عبر الوسائل المختلفة. يبدو أنه في خصومة حادة مع التراث. وفي القلب منه الإسلامي. وربما لديه اليقين أن ذلك التراث لم يعد صالحا لإدارة الراهن العربي. وربما يجب الآن أن نبحث عن أيدلوجية بديلة، ولما كنا إجمالا عاجزين عن إدراك هذه الأطروحة الجديدة في أرضنا، فلا أقل من أن نبحث عنها في حظيرة الآخر. الآخر الذي بات ينجز حضارته دون أن يتورط من قريب أو بعيد مع أي جدلية تبدأ أو تنتهي من المُقدس. ربما يدفعني هذا التصور لمغبة التصنيف دون أن أدري، فالرجل علماني أو يكاد، أو هو بالفعل مثقف ليبرالي. مؤمن بالنموذج الغربي الذي تجاوز الجدل العقيم الدائر على أرض العرب، والذي مازالت تحكمه مركبات الماضي وتداعياته. وهنا لا أملك نية المعارضة لأفكاره. إذا صدق ظني فيه كونه ليبراليا أو علمانيا. وربما فسرت الأمر على هذا النحو وخاصة زمن معارضته لمبارك. فدولة مبارك لم تمنح أي مثقف حقيقة البوصلة التي نسير عليها لإدارة الدولة. فقط تكريس للعناوين الهلامية والمصطلحات الطنانة، نؤسلم الدولة متى احتجنا لأسلمتها، ونجرِّدها من تراثها متى تورطنا في ذلك. ودون الدخول في متاهات التفسير، جاءت مقالاته على اختلاف توجهها؛ كي تثبت أن الرجل ليس متسقا مع مبارك وشكل إدارته. وهنا للمرة الثانية سأتفق معه. لكن إلى حين.

 

كان الوضع حتى يناير متكلسا بالنسبة لي. ففقدت شغف متابعة ما يكتبه. بيد أن الظرفية التاريخية التي أثمرت الثورة. دفعتني من جديد لإعادة التفكير فيه. لكن هذه المرة ليس لأنه إبراهيم عيسى المثقف الكبير؛ صاحب التحصيل والتأصيل المتميز، ولكن للرجل كنموذج للمثقف البراجماتي الذي  ظل يضاجع رؤوسنا طيلة ثلاثين عاما(حقبة مبارك) دون أن يحرك الوضع قيد أنملة. ولا يقنعني من أحد إنه كان يراهن على الناس كوقود لعملية تغيير شاملة وحاسمة. بل إن الثورة قد أدهشت المثقفين قبل أن تدهش مبارك ونظامه. وقد أتزيد هنا إذا قلت إنها أشعرت من يدعون أنهم مثقفون بشيء من الحرج. ولاسيما أن زمن مبارك قد أدرك سدنة نظامه - بذكاء لا أعرف مصدره-  معنى الانحطاط في شخصية معظم المثقفين المصرين، والذي ما كان لهم أن يقوموا بتأصيل أفكارهم في نظام سلطوي حد الصدمة، لكنهم استثمروا الوضع كي يؤسسوا وجودهم في المقام الأول، ومن ثم وتحت نفس الدوافع تم تجنيدهم لكي ينتجوا أمرين:

 تأسيس عملية خداع شاملة لوعي الجماهير. وعلى الجانب الآخر التحرش بالاتجاهات السياسية ذات التوجه الإسلامي، وإثبات عدم جدارة هذه الاتجاهات لإنتاج أيدلوجية بديلة للراهن بكل تفاصيله، والمنافية بدورها لأي توجه ليبرالي أو حتى حداثي. ولقد ساعدهم في ذلك انتشار ظاهرة الإرهاب، وسهولة ربطها بهذه التيارات. وغياب التأصيل الثقافي داخل هذه الجماعات نفسها، والتي لم تنتبه للعبة التأصيل من فرط انشغالها بالبعد الوجودي، والذي ظل مُقدما على فكرة التأصيل ذاتها. فتحولت جماعة كجماعة الإخوان لجماعة ضغط سياسي، أو للدقة "لوبي" يساوم السلطة على وجوده؛ في سبيل أن تسمح له السُلطة بالحركة دون أن تنمو هذه الحركة لتشمل محاولة الوثوب على السلطة. الغريب أن ما قيل زمن الثورة عن الاستقطاب كان موجودا قبل الثورة بسنوات، وربما بطول حقبة مبارك كلها. والذي كان زمنه هو زمن تجريد المعاني من دلالتها. فلم تكن هناك سياسة بالمعنى، ولا أحزاب، ولا قنوات شرعية للتغيير، ولا حتى الوصول لمعنى المعارضة الحقيقية؛ كي تصوب السلطة من شكل إدارتها لحياة الناس.

 

في طقس كهذا لا مكان لحلم أو ثقافة أو مشروع. فقط استثمار خطاب السلطة وتوجهاته، ومن ثم التحدث بلغة يرضى عنها النظام المؤمن بالثنائية القطبية الأشهر في حياة العرب: من ليس معي فهو بالضرورة ضدي. لكن إبراهيم عيسى في تجربة الدستور كان يبدو –ظاهريا- معارضا فعلا. فكيف يمكن ربطه بذاك التماهي مع خطاب السلطة، والرجل يقف على يسارها بمقالات أقل ما توصف به إنها صادمة ومُحرضة؟

 

لم يكن من الصعب تفسير موقف المثقفين من يناير، وبعيدا عن الدهشة من هبّة المصريين وقتها يمكن القول إن كل من ذاع صيته كمعارض لمبارك كان ينتحل المعارضة انتحالا. بل إن الركون لمعنى الصدام مع السلطة لم يكن يتناسب مع حدية الخطاب المتسم بالمعارضة. مؤكد هناك ثلة من الكتاب ظلوا يبثون خطاب الرفض عن قناعة، لكن ظلت الأغلبية منهم تمارس المعارضة كنوع من التسرية عن الشعب. أو كما سميتها معارضة المرهم الأسود، الذي يستخدم لإخراج القيح والصديد، لكنه أعجز من أن يزيل أسباب الصديد بقصد منع تكونه مستقبلا. فلا تخاريف محمد صبحي كانت معارضة، ولا منافيستوهات عادل إمام في طيور الظلام واللعب مع الكبار انتقاد مرير يتجاوز لمحاولة التغيير. والشواهد خارج الإطار المصري كثيرة وكاشفة. فلم نر دريد لحام أو أودنيس قد وقفا من بشار ما يدل على الرفض، ولو بشيء من الخجل المنضبط. قد يكون الرهان غير متحقق على زوال هذه الأنظمة، ومن هنا يصبح الرهان على الجماهير شبه منعدم. ويصبح الجوار مع السلطة هو الضامن الوحيد على الوجود الآمن. لكن حتى مع بزوغ الثورات المختلفة لم يحول المثقف بوصلة توجهاته، بل اتخذ معظمهم سياسة انتظر لترى، وكأن القصة صراع محتدم بين سلطة وجماهير، صراع لا يخص المثقف من قريب أو بعيد.

 للصدق كانت الصورة مرتبكة. فمع زوال مبارك اندفع البعض لتبني مفهوم التغيير. وظهرت الانتقادات الصارخة، والحديث عن الثروات المنهوبة وغيرها من ضلالات ذلك النظام. وبمجرد أن توقف قطار الثورة انقسم المعسكر لفريقين: فريق كبير نسبيا لم يكن يخجل من العودة للنفاق القديم، وآخرون - وهم قلة - وجدوا أن من العار أن يعودوا لمركبات خوفهم مع يقينهم إنهم سيدفعون الثمن غاليا لما يتبنونه من مواقف.

 

في صدفة قدرية التقيت بالمترجم المُهم طلعت الشايب، وكان صديقا مقربا من رجل سكندري مولعا بالسينما. لم أجد ما أتحدث به مع الرجل غير أن سألته سؤالا مؤرقا بالنسبة لي: لماذا شعرت أن كتابيه المثقفون لبول جونسون، ومن دفع للزمار كتابان ما كان لهما أن يترجما في مصر، ولاسيما أن جوهر الكتابين يصور كيف تدار علاقة المثقف بالسلطة. فالكتاب ليس لبث المعلومات بقدر ما هو فضيحة أو تكاد. ولست أدري سر الدهشة التي كست ملامح الرجل، ولا هذا الخوف الغير مبرر ساعتها. لكن كنت أستطيع الربط  يوم سمعت أن إبراهيم عيسى بصدد أن يلقي بشهادة تنفي أن مبارك قد أعطى أوامره بقتل المتظاهرين. لأن الصورة الذهنية المستقرة في ذهن الناس ستدفعهم لتصديق شهادته، فألد أعداء مبارك (ظاهريا) إن شهد شهادة في حق الرجل، فهي بلا شك موضوعية وصادقة، وهنا تذكرت ما جاء في كتاب من دفع للزمار يوم كانت أمريكا تستقطب غلاة الشيوعية كي ينتقدوا الشيوعية نفسها. لكن قبل هذا الاستقطاب كانت تمنحهم الجوائز التي تثبت أن الغرب المجابه للمفكرة الشيوعية يثمن جهدهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأيدلوجية. وهذا المعنى أكثر فاعلية من غيره إذا ما قمنا بنقد أي تجربة من الخارج، بل إن نقد الإخوان من إخواني مارق يظل أهم من نقدهم من خارج الجماعة. ومن ثم فإن يشهد إبراهيم عيسى لصالح مبارك قد تفسر  الشهادة على إنها تجرد وموضوعية. وهنا كنت أستطيع رؤية الرجل من زاوية أحسبها مهمة لتفسير مشكلته. لكن تظل أسئلة التيه الكبير في رأيي.. هل كان إبراهيم عيسى معارضا فعلا ؟؟

 

في زحام الأحداث والتفاصيل، ولأن المناخ العام في مصر فاقد للحد الأدنى من الحياء. أشيع أن تدوينات البرادعي ذات البعد السياسي عبر تويتر يكتبها له إبراهيم عيسى. وأذكر أن الأخير لم ينف هذا، بل وكان اعترافه ضمنيا يحمل معنى التسفيه للبرادعي (الواجهة) على اعتباره غير مُسيس، ولا يجيد قراءة المشهد، وربما ساذج إلى درجة.

 

اعترف إنني قد وقفت كثيرا عند هذا الاعتراف. ومن هنا كنت استثمر كتابه الذي وجدته على الشبكة، وفيه مقالاته التي كتبها في تجربة الدستور، وبدا منها إنه معارض لزمن مبارك وللأبد. ولأن الشيطان في التفاصيل كنت أبحث بشكل حصري عن مقال كان عنوانه في الجريدة يوم نُشر(ستوديو مصر). مقال صعب، أبرز فيه أن مبارك لا يحكم دولة ولكنه "بلاتوه" يلتقي فيه بممثلين أغلبهم فشلة. فلا العامل الذي يقابله في مصنع يزوره عامل، إن هو ألا مخبر، والمريض الذي يزوره في المستشفى ضابط في أمن الدولة. وجاء ختام المقال للطعن في وريثه على اعتباره ثقيل الظل، وبطانته تفتقر للسياسة، والقبول لدى الشارع.

 

انتهيت من الكتاب الذي قرأته أكثر من مرة ولم أجد المقال، بل وجدت شيطاني يعيد ترتيب الأمر. فمن يكون إبراهيم عيسى. وكما يقول الفلاسفة أريد إنتاج تعريف جامع مانع عن الرجل. واستسلمت وقتها للأسئلة الإشكالية التي تعينني أن أفتح السرداب. من دفع بمبارك أن يعفو عنه يوم كتب مقالا عن صحته وتراجعها مما يعني أن موته - ربما - سيضع البلد في مأزق البحث عن بديل؟ ومن ثم تناسلت الأسئلة. من دفعه لأن يكتب تغريدات البرادعي؛ الرجل الذي يفتقد للحس السياسي والكاريزما؟ ومن دفعه على ضوء محاكمة مبارك أن يذهب لتبرئة ساحته من تهمة قتل المتظاهرين؟ ولماذا امتدت معارضته لتشمل جمال مبارك مع تنامي الشعور باقتراب أجل أبيه؟

 

في حقيقة الأمر رغم ضبابية الرؤية، وصعوبة الفهم لم أنفر منه بقدر ما أشفقت عليه. ولم أشأ للحظة أن أراه براجماتيا قذرا، يريد بما أفاء الله عليه من ثقافة أن يدشنها للانتصار لوجوده، وما يستتبع هذا الوجود من مكاسب. رغم أن القصة ومآلاتها كانت تؤيد عندي هذه التفسيرات. وإن كنت قد أرجأت الوصول لهذه النتيجة من أجل إعادة البحث في أمره. حتى حدث هذا اليوم الذي جاد فيه خيالي ومنحني الكلمة المفتاحية التي قد تفسر لي حقيقة الرجل، وما يطمأن له قلبي كونها الحقيقة.  

 

في لقاء مع واحدة من مثقفات إسكندرية كانت ترى فيه أيقونة مهمة، وللصدق لم أنكر عليه ذلك الوصف. فهو في يقيني مثقف بالقوة والفعل. لكن في هذه الجلسة مر عليَّ هذا البيت، وكأنه إطلالة قدرية؛ كي أصل للمعنى المراد فهمه من أطروحات الرجل ودوافعها. فكان لزاما أن أعود للمتنبي في بيت من الشعر كي أفهم الحقيقة.

{ وَفُؤادي مِنَ المُلُوكِ وَإن كانَ لِساني يُرَى منَ الشّعراءِ! }

 

إن تناقضات النفس البشرية؛ هي منشئ الصورة الجدلية التي تنطق بها الشخصية؛ التي يتفق الجميع على كونها مثيرة للجدل. وتدفع بالمرء أن يتبنى مواقف إن لم تكن تعبر عن توجه فكري أصيل، فهي بالضرورة تنحت التحقق الوجودي الذي يؤسس لضوء معين تشتهيه هذه الشخصيات التي تعاني شعورا دفينا بعدم الكفاءة، والنفور المؤلم من العتمة، رغم كل ما تنطوي عليه هذه الأنماط ظاهريا من ثقافة نوعية تستطيع إنتاج الإبهار المنشود. بل قد يكون التحصيل الثقافي وشمولية المعرفة هي ستار يخفي الكثير من آيات العوار. لذا قد تسقط المعاني النبيلة والأفكار المثالية تحت ضغط الحفاظ على ذاك الضوء المبهر، والذي يحقق لهذه الأنفس معنى الانتصار على مركبات الضعف المكبوتة.

 

لم يكن الطموح المتطرف للتحقق وجوديا يستطيع ضبط علاقته بالأفكار المثالية التي من الضروري بمكان أن يتبناها أصحاب المواقف والمبادئ العليا. وأزعم أن أزمة إبراهيم عيسى هي نفسها أزمة الإخوان الذين يستطيعون وبدون تفكير أن يرجئوا أزمة الوطن لحساب قضية وجودهم. وبطبيعة الحال لا أستطيع تحديد مكمن أزمة الرجل، والتي تتحرك في موار مستعر داخل لاوعيه، والتي جعلته ينتهج ذاك النهج الغريب. هل هو الشكل أو الهيئة، أو يا ربما كان النموذج الأبوي الذي شحنه بطموحات لانهائية، ولم يكن ليغفر له فشله حيال تحقيقها، أو مارس عليه نوعا من التربية القاسية، جعلته حين وصل للاستقلالية ينتقم من كل مركبات الماضي، وما ينطوي عليه من مركبات قهر أو سلطة مجحفة حتى لو كانت هذه السلطة في الدين نفسه؟

 

إن هذه الأنماط لا تقل ديكتاتورية عن أي ديكتاتور حقيقي. تستعلي بالثقافة، وتمارس نوعا من الزعامة الروحية التي تريد بسط تصوراتها المعرفية على الآخر دون أن يراجعها، والذي يتجلى لتصوراته كنموذج صارخ للجهل الذي لا يدفع بالجهلاء إلا للإذعان. الأمر الذي يجبره أحيانا كثيرة أن يرفع صوته؛ كي يقترب من الصراخ وهو يشرح وجهة نظر تخصه. ولاسيما لو كانت الأفكار منتمية للتراث، الذي يرفضه الرجل بصورة قد تكون حدية إلى درجة تدعو للدهشة.

 

أتفق معه في كون التراث لا يمكن بأي حال تقديسه. إلا ما أتفق يقينا على كونه مقدسا. بيد أنه قد بدأ منذ فترة الضرب في جميع الاتجاهات. لكنه لم يفسر لنا. لماذا تعاطف في فترة من حياته مع الإخوان قبل أن يبث لنا هذا الرفض الذي يقترب من كونه عداء وخصومة. ولماذا يصر على الرفض، ولم يطرح في مشروع كامل وهو القادر على ذلك ليضع تصورا شاملا لحل هذه المعضلة. وفض الاشتباك بين المقدس والمُعاش يقينا على أرض الواقع من أجل استجلاء الحلول. 

 

إن الجمود المرجعي، وتكلس الخطاب، وتراجع آلية النقد الجاد والمخلص من الأمور التي لا يمكن التعاطف معها. وخاصة لو أدار المقدس الأمور إدارة خاطئة، فساعتها لن يتورط من أحد في نقد التجربة نظرا للجلال المرتبط بالأفكار المتسمة بالقداسة أو قادمة من دلالات دينية بغض النظر عن مصدرها رغم أن من يديرها بشر يجوز عليهم الخطأ. وهذه من الثوابت والقناعات التي لا تغريني بالسير خلف من يعتقد أن إبراهيم عيسى ملحد أو في خصومة واضحة مع السماء. بل أحيانا يأخذني الخيال لكون الرجل كان يريد شيئا من الدين يفوق بكثير اجتهادات إن لم تكن مغلوطة؛ فهي مبتورة وغير مكتملة. أو للدقة غير متسقة مع العالم الآن، وتفتقد يقينا للعصرنة.

 

إن الراهن العربي لا يحتاج رجال دين بقدر ما يحتاج لتحويل الدين لحياة عصرية ليست متأخرة بأي حال عن حياة الناس في حظيرة أخرى يبدو وأنها قد حسمت أمرها منذ زمن في علاقة الدين بالدولة. أو كما كنت أقولها قديما نحن لا نبشر بالإسلام؛ فالإسلام موجود بالقوة، بل نريد مسلمين. ولا يمكن وفق دواعي المنطق أن تحكمنا تصورات ماضوية كانت تحكمها ظرفية تاريخية معينة لتسيطر على راهن يختلف بالكلية عن ذلك الماضي. والذي كانت تؤثر فيه بصورة أو بأخرى حسابات قبلية وجدليات ثنائية كنا نستطيع أن نغفرها وقتها نظرا لحداثة الدين وعدم قدرته على إنهاء هذه الثنائيات بشكل حاسم. لكن الآن لم يعد يجدي أن نلتف حولها؛ لأنها تؤكد التشرذم والضياع لآماد بعيدة.

 

 إن أزمة إبراهيم عيسى لا يمكن ردها لوسم الرجل بأي وسم يتجه لمعتقده. بل هي أزمة تأصيل ثقافي واسع يحدد شكل علاقة الإنسان بالسماء وفق قواعد المصلحة، والتي ستنعكس بدورها على الصورة الحقيقية للمسلم عموما. صورة تضرب الصورة النمطية التي ترتكز على معنيين لا يمكن أن يقبلها مسلم عاقل: جاهل/ دموي. وهي صورة لا يمكن قبولها. ولا نستسلم لمثالية فكرة الجهاد ضد الأعداء قبل أن نجاهد مركبات الضعف والجهل والاضمحلال الذي تعانيه أمتنا منذ سنوات طويلة. فلا يمكن أن يكون تطور الحياة في خصومة مع الحد الأدنى من التدين، بل إن التطور إذا كان يبتغي شكل حياة الناس واتساقها مع المنجز الحضاري على المدى القريب، فإن التطور هو نضال بالدين؛ كي نقنع الآخر إننا نشاركه الكوكب ولسنا نتوءا يؤذي الصورة الكلية لشكل الحياة. وهذه إن كانت أفكار إبراهيم عيسى فأنا منطو تحت لواءه، لكن إذا كانت خصومة مدفوعة الأجر يترجمها التصور المجحف للإسلام كدين دموي، فأنا لا أنتمي لنتاج ثقافته أو تأصيلها، وإن كنت من فرط التوتر الذي يكسو صوته وملامحه وهو يستعلي علينا بأفكاره التي تسفه جهلنا أزعم أنها تبدو لي انتصارا لوجوده، وما يستتبعه هذا الوجود من منافع تغذي طموحه. على الأقل للآن. طالما لم يطرح بديلا؛ لأن حتى هذا البديل إن طرح عربيا فلن يقبل منه، وهنا مكمن الأزمة التي تدفع بالمتنبي أن يظل شاعرا في بلاط سيف الدولة يتغنى بمناقبه، وليس ملكا وشريكا في الحكم.  

     

 

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...