الثلاثاء، 16 فبراير 2021

تسييس الغناء

 

لي فترة أعيش حالة من اعتذار مُقنع لأم كلثوم، فبطول عمري لا اعتبرها الصوت المُعبر عني؛ إذا ما قورنت بالملائكية فيروز. وحتى هذا المعنى المُتجه لمحبة جارة القمر - في الفترة الأخيرة-  شعرت كم بات مبتذلا، فلست أدري كيف حدث ذلك الربط المريب بين صوتها وما يشير للنخبة، أو ربط الرغبة لسماعها بالشخصية المثقفة. وكأن من لا يسمعها، أو يطرب لغنائها هو واحد من عوام الناس أو الرعاع.

 

أحيانا أذهب لتفسير هذه الحمى التي سعت في مطلع السبعينات لتدشين عفاف راضي كبديل لصوت أم كلثوم، وقد يندهش من يعيش تفاصيل هذا المعنى، فلم يكن هناك صوت نسائي جامع للعرب أكبر من صوت أم كلثوم من جهة، وفيروز تتحسس في الثلث الأخير من الخمسينات خطواتها من جهة أخرى. فرغم زخم الأصوات، لكن ظل الغالب عليهن جميعا معنى الصوت المحلي بشكل أو بآخر.

 

تقدَّم العمر بكوكب الشرق، وفي سنوات عمرها الأخيرة تم استهلاكها في حفلات المجهود الحربي بعد نكسة 5 يونيو، وعلى الضفة الأخرى كانت فيروز والرحابنة يؤسسون لخلودهم كظاهرة فنية تستحق الدرس والتأمل. وعلى حسابات الدور الريادي المصري وفاعليته، تم انتخاب "عفاف راضي" والدفع بها للمنافسة كصوت ينحدر من نفس الطبيعة الفيروزية أو يكاد؛ للإبقاء على وجود صوت مصري مؤثر ينجز ما كانت تنجزه أم كلثوم كحالة فنية أجتمع عليها العرب لفترة طويلة.  لكن دوافع "الرحابنة" في ظني لم تكن بأي حال منافسة أم كلثوم أو مصر من ورائها. بقدر ما كان طموحهم يتجه لضرب منظومة الزمن نفسه، الزمن الذي لم تعد ظروفه تتحمل الحالة الكلثومية، وما تطرحه من عواطف جعلت من تفاصيل الحياة بعيدا عن عاطفة الحب وكأنها مُهمشة إلى حد بعيد. وهنا أذكر مقولة أخي الخالدة في معرض انصرافه عن كوكب الشرق، واللجوء طوعا لصوت فيروز: أكره السلطوية وأحادية الرؤية التي تطرحها أم كلثوم.. مرَّة من خلال صوتها المبهر فعلا، ومرَّة من خلال التصورات التي تضعها أغانيها لعاطفة الحب نفسها. لدرجة أن أسمع واحدا من عشاقها يقول: أم كلثوم هي التي علمتنا الحب!!

 

أعترف إن محبة فيروز من الأشياء القليلة التي لم أشأ التمرد فيها على اختيارات أخي الكبير. وإن كنت في ركن خفي من حياتي، أدركت أن أم كلثوم هي حالة أكبر منها، حتى مع الاعتراف بكاريزما صوتها الخاص والاستثنائي. للدرجة أن يقول"عبد الوهاب" أهم موسيقي عرفه القرن العشرون: أم كلثوم رفعت بصوتها وأدائها أخلاقيات المهنة. وتقول رتيبة الحفني في مقارنة بين أسمهان وأم كلثوم: الفرق بينهما أن الأولى تتسلى بالغناء والأخرى تمتهن الغناء. في إشارة جدا مهمة للاحترافية المتطرفة.

 

أزعم أن فيروز قد التقت بالرحابنة، وخاصة "عاصي" لتصنيع الحالة الموازية لحالة أم كلثوم، أو إذا جاز التعبير نستعيض بالحالة لمعنى مأسسة الصوت. لكن كان الهدف الرئيس الذي سعى له هذا الفريق هو تأسيس اتجاها آخر للغناء. منطقة جديدة، تستطيع منحك أغنية طربية بامتياز، وفي أقل وقت ممكن، مع التواصل بالكلمة المغناة لمواضيع وأفكار لم تكن الأغنية الكلثومية مهمومة بإدراكها. على كل الأحوال ظلت عفاف راضي في مكانها اللائق بإمكانياتها، بينما ظلت أم كلثوم وفيروز من بعدها كحالتين أو فصلين مهمين من فصول كتاب الطرب العظيم الذي يُصلح لدارسي الفن كإشارات مهمة للبحث في الغناء كظاهرة ثقافية مكتملة الأركان. أو لنقلها بوضوح: تسييس الغناء!     

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...