في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل بهذه الرغبات.
إن بلال فضل - في ظني- يمتلك ثقة كبيرة حيال تراث مشاهداته، ويستطيع أن يلتمس من مورث الفرجة على العالم ما ينتج المعنى المفقود أو المأمول، وكذلك مكامن الطرافة والجدة، والألم أحيانا. واعترف أنه مازال غير معني بإشكالية التصنيف، وفي هذا الكتاب تحديدا قد ترك الذاكرة تتحدث عن نفسها في نسيج مُعقد، رغم كل ما ينطوي عليه من حكايات تنتمي للعالم الذي أنتجها، ورؤيته الخاصة التي تصدت لتحليل تفاصيلها. وأزعم أن الكاتب الإنساني هو الذي يؤخر آلية التعامل مع التفاصيل بقلمه، هو فقط يتحرك بنوازع الشغف والفضول، فيبدأ بفعل الرؤية ومن ثم الإنصات، وبعدها تتحرك آلية معقدة لاستفتاء المدركات لإعادة تشكيل الخبرة، وفي النهاية يسردها لنا حكاية شيقة، ومضفرة بآراء خاصة تتسرب في متن الفعل الحكائي.
إن عزيزة بركات والبحث عن مآلات حياتها، وهي مجرد وجه سينمائي قديم، لا يتأتى من شخصية تمارس فضولا طبيعيا وحسب، وإنما هي محاولة لمطاردة المعنى الخفي لدراما شخوص ظلت تتأرجح فيما بين الوجود الحقيقي والهامشي في الحياة، والسؤال عن أين هؤلاء الناس - الآن- هو محاولة إنكار لهلامية الزمن، والذي وصل عند منعطف فيلم بالأبيض والأسود كمحطة مؤكد تلتها محطات لا نعرف عنها شيئا, ولأن الرغبة قد وصلت حد الإلحاح، كان البحث عنها في المحيط الذي يعرفها جيدا، رغم وجود خيط يتحرك في اللاوعي يؤكد عبثية هذه الرغبة في عالم جدا مزدحم، وزمن يتقدم بقسوة، ومؤكد لن يحتفل بعزيزة بركات أو غيرها. لن أحاكم الحكاية هنا، وإنما أعيد تكرار السؤال بصيغة أخرى: هل البحث عن أين هؤلاء الآن سؤال عادي، أم تراه حرصا على ما يمكن تسميته البحث عن بلاغة الأثر؟
في صورة أخرى لمُهمش آخر، تتعثر الرؤية في عامل السينما المتورط في قتل رأسمالي عتيد متجبر وشاذ، وهنا يتجلى الحظ العاثر مع دراما تفتقر رغم واقعيتها المتطرفة للمنطق، ومن ثم التعايش مع تجربة السجن، فيتعثر ذاك المهمش في عالم مواز لا يختلف بأي حال عن العالم خارجه، ولا ينتصر فيه معنى العقاب إلا للمهمشين الذين لا يستطيعون مجاراة أكابر السجن، وما تحتوي عليه هذه الدراما المجحفة من تناقضات.
إن هذا الكتاب في
واحد من أهدافه يقدم شواهد حية لكون الحقيقة أكثر رحابة وطرافة من الخيال، لكنه
خيال يتفوق بجدارة على مآس سوفوكليس، خيال يتماس مع الواقع السفلي الذي يضم قطاع
كبير من المهمشين والمنسحقين في آن.
لقد كان رأيي في قصة سوزان تميم يتجاوز مفهوم تجبر رأس المال، أو هذا الطقس الذي يشبه الجانب المعتم في حياة رجل مافيا غير هيَّاب لأي قانون. ولا منطق المتاجرة بمآس البشر فيما يشبه إطعام الستين مسكينا استنادا لقدراته المالية الهائلة، بغض النظر عن مشروعية الإطعام التي تتسق بدورها مع كون الرأسمالي مريض ولن يقدر على تحمل تبعات الصيام. لكن يظل صعود هذا العالم فيما يشبه انسحاق عوالم أخرى تحت حذاء صولجانه الخشن، فهؤلاء الجبابرة لا يضربون بالقانون والأخلاق عرض الحائط، ولكنهم يمهدون الأرض القادرة على توريط البسطاء الصابرين في مشاكل حين تتجلى في صورة سلوك، تدعوك غالبا للتقزز، والدهشة المخلوطة باليأس والحقد، لا على الفقر كحالة وحسب، ولكن على كل من تسبب في إفقارهم، وجعلهم أبعد ما يكونون عن الأطر الأخلاقية ولو في حدها الأدنى.
في ثالوث درامي
تحركه نوستالجيا صلاح السعدني الباحث عن تليفزيونه القديم، والذي تمت سرقته من
شقته بالإسكندرية، وصولا لمديرية الأمن للتعرف على السرقات، والجلوس في مكتب
الرتبة الكبيرة المُحتفلة بالنجم الكبير. تتعثر الرؤية في مأساة لم يستطع
استيعابها السعدني. ودون التورط في تفاصيل أكثر فهي زنا محارم في أسرة تواطأت مع
المسألة ورضت بها وتعايشت معها، رغم كل ما تبدَّى من مشاعر كادت أن تضرب السعدني
بنوبة من السقوط الذي دفع بالرتبة الكبيرة أن تسرب سخرية مبطنة مما تقدمه السينما
من قصص قد تبدو بسيطة قياسا على ما يحدث في أروقة مديريات الأمن من قصص صادمة حد
الفجيعة. وهذه القصة تتقاطع مع إشكالية الجسد المباع في سطوة الليل القاهري
وتفاصيله. أو يا ربما كانت محاولة مؤسفة لضبط مصطلحات هي أكبر من الضبط، لا لكونها
عصية على الضبط، ولكنها تعيد استخدام مفردات عالم المافيا الذي يمرر أهدافه ويحسم
صراعه الوجودي إما بالجنس أو المخدرات: ظرف المكان فندق فخم، والزمان هو الليل
والأبطال رجل مخملي لا تدري ما هي حقيقته وفتاة متأنقة لا ندري لأي وليمة ستقدم،
والحجة الجاهزة والمنطقية الوحيدة هو الفقر. ويبدو لي أن الواقع السفلي والشذوذ
دوافع لا يمكن الانفلات منها، وتحمل في ذاتها غواية البحث عنها وعن حكمتها هذا إن
كان لها من حكمة.
إن هلامية الزمن الذي حاول الكاتب الانتصار عليه بالبحث عن عزيزة بركات، أو الزمن الذي تخلى طوعا عن منطقه والحد الأدنى من معاييره الأخلاقية عند عامل السينما، أو الرأسمالي المتورط في قتل مغنية تبحث عن وجودها ترتدي ثوبا مختلفا عند الموسيقي الذي يرى أن الزمن لم ينصفه ومنح الأستاذية لغيره، والذي لم يكن من وجهة نظره يستحق هذه المكانة، وفي هذه الحالة تتجه هذه النفوس لمحاكمة الزمن بتفاصيله، لكنها محاكمة بطعم التعالي تشبه من يمنحك فنا بطعم المكرمة، ويطلب منك حيال ذلك إبداء الامتنان الكبير.
في حقيقة الأمر كان الكتاب ممتعا وضاغطا للنهاية. هي الحياة بطبيعة الحال، والواقع الذي لا يبدو في أي لحظة سينتحل الرحمة. ودراما الحياة مع تقدم عُمر كوكبنا لا تبدو على المدى المنظور ستتخلى عن إبداعها المؤسف والصادم. لكن في يقيني الشخصي واستنادا لثقة متطرفة في شيطان نفسي، أصابتني بمطالعة هذا الكتاب المتجاوز للتصنيف كما آمنت عدة مشاعر مختلطة بالخوف، فهذا الواقع بصورته لن ينهار بقدر ما يتآكل تحت سطوة ما يقترفه أبطاله وتحولاتهم الدرامية، دون أن يترك لنا إجابة واضحة: ثم أما بعد! إجابة قد تكون مُحملة بكل آيات الرعب تمنعك يقينا من فكرة الاستمتاع بالحياة هذا إن كان فيها بالفعل ما يُمتع. كذلك يمنحني بلال فضل في ذلك الكتاب ما يثير خوفي من الذاكرة حين أجتر بعضا من تفاصيلها. بيد أن هذه الكتابة لن تصيبني بالقلق الوجودي حين أتماس مع تفاصيلها بقدر ما تفجر سؤالا أحسبه خياليا ولا يستند للمنطق ولكنه لا يخلو من وجاهة على نفس القدر.
في حقيقة الأمر إن
هذا الكتاب دفعني للقلق على بلال فضل نفسه. لماذا يسعى الكاتب في شغف لتوثيق مشاهداته؟
هل يخشى من التورط في نسيانها، ويسعى بدأب لتسجيلها قبل أن تتآكل من ذاكرته؟ أم
تراه سوء ظن في رحابة الوقت الذي سيسمح بتوثيقها؟ وإن كان معظمها قد سبق نشره في
مقالات. فلماذا الآن تعود بين دفتي كتاب كي تكون أكثر رسوخا وبقاءً بالمقارنة
بوجودها كمقال في صحيفة سيارة أو منصة قد يطويها الزحام؟ وليت شعري أن أعرف ما
يخمد ظني المرتبك في السبب الحقيقي لتوثيق هذه القصص بل قد أُسقط عنوان الكتاب على
الكاتب نفسه: ماذا فعل الله ببلال فضل؟ ولماذا دخلني السؤال عن صحة الرجل وأنا
أطالع ما كتبه؟