ربما كانت لحظة موته، هي اللحظة الوحيدة التي حصل فيها
على الهدوء والراحة الحقيقية، ولأول مرة فى حياته، فرحلة هذا الإنسان في مجملها؛
رحلة لم تكن سهلة، لأبن أكبر من أبناء الطبقة الوسطى، عليه أن يتعلم، وعليه أن
يدير أسرته بعد وفاة أبيه. في هذه الأثناء. يواجه أكبر انتكاسة لأول مشروع شعري
يكتبه في حياته ، ويُمنع من الكتابة أصلا، ويتوقف عن متابعة الشعر لمدة تقترب من
الثلاثين عاما ، تأخذه الحياة في دروبها ومتاهاتها، يؤسس أسرته الصغيرة ويعيد
الكرة من جديد ، لكن فى هذه المرة مع أولاده ، يُربى ويُعلم، لكن لم يفتر الحنين
في داخله طيلة هذه السنوات لأن يكتب،
ويملأ الدنيا شعرا، كان ومازال قضيته.
اشهد أن القدر كان عطوفا جدا يوم أن التقيت بهذا الرجل
المفعم بالنشاط والحيوية والنظام والترتيب .
أذكر لقائى الأول به ، فلقد كان لنا صديق مشترك؛ وهو لم
يكن يعرفني شخصيا ، بل كان يحفظ بعض الومضات التى سمعها من صديقنا الشاعر الغنائي
محمد عبده السيد، والذي تبرع بأن يُحدث
الشاعر الكبير عنّى كواحد من هواة شعر العامية ، وللأمانة فإن كل ما كتبته من شعر
لم أكن أعرف إنه شعر عامية، أو إنه شعر أصلا . تأخر اللقاء كثيرا، يأتي هو فأكون
قد ذهبت ، أصل أنا فيكون هو قد رحل، فترة من هذه الحظوظ حتى دخلت إلى مكان
صديقنا فقمت بتحيته والجلوس إلى جواره
وقمت بتحية الرجل، وهنا قال لي صديقنا : هذا هو الأستاذ صابر فرج .
كان ضروريا
بعد كثير من الحوارات الجانبية أن يطلب منّى أن أقول بعضا من شعري، يسمع بإنصات
غريب، يطرب أحيانا ويندهش أحيانا ، رغم كم الخجل الذي اعتراني ساعتها، كون الرجل
تبدو عليه أمارات الأستاذية الممزوجة بالمهابة، لكن، ولكوني ممن لا يهتمون بأن
يكونوا أكثر الموجودين حديثا، كنت اختلس النظر لرؤية ملامحه وهو يتحدث أو يقوم
بالتعليق على ما أقوله من شعر، حيث كنت ومازلت مؤمنا أن الانطباعات الأولى تدوم،
ربما لم تصادفني الراحة لملامحه فى البداية، وإن كنت أحمل يقينا وقتها إنه بلا شك
رجل شديد الوقار والهدوء الذي يليق بوضعه وبعمره .
عيناه تتحرك بسرعة، وجهه مقتضب غالبا، بشكل قد يوحى
بالغضب، لكن حين يضحك تختلف الصورة تماما، وهنا تظهر روحه الحقيقية كطفل يختبئ خلف
هذه الملامح لشيخ يبدأ عقده السابع .
تعددت المرات والتقينا كثيرا، هنا أدركت للمرة الأولى
رغم عدم ثقتي فيما كتبته ، أن ما أقوله كان شعرا ، فطلب منّى أن أقوم بجمع كل ما
كتبته وإحضاره له بقصد تجميع ديوان يحوى تجربتي كما قال لي وقتها . كان صبره
ومثابرته شيئا لافتا للنظر ، حيث كانت معظم القصائد إن لم تكن كلها من كل أجناس
الورق المتناثر والغير مُرتب بشكل قد يدعو لليأس من أن يتم تجميع ولو نصف ديوان ،
هذا بالإضافة إلى أن معظم القصائد بلا عنوان، حيث كانت كتاباتي غير مهتمة بهذه
المسائل، حيث كانت الكتابة ذاتها تنطلق من مجرد بوح شخصي، وليس من منطلق خلق فني
يهتم بالتفاصيل.
تمكنّا بعد جهد تحمل مشقته هو بشكل كبير من تجميع ما
يقرب من ديوان وجلسنا معا فى بيته ، نراجعه من شاشة حاسوبه الخاص، كنت مبهورا
وقتها بمكتبته الكبيرة جدا، وكنت مندهشا كيف سمح له الوقت بقراءتها ، ومن هذا
الترتيب والنظام الذي صنّف على أساسه هذه المكتبة الضخمة ، وكنت على نفس الدرجة
مبهورا بقدرته الذكية على توريطي في مسألة الكتابة من جديد ، حيث كانت كلمته
الشهيرة " الكتابة واجب يومى " جزء لا يتجزأ من نصائحه الكثيرة لي وقتها،
هذا بجانب تحريضه لى على القراءة ولو بعيدا عن الشعر، حتى تكون لي ثقافتي الخاصة .
مع مرور
الوقت بدأت بذور الثقة تدخل إلى قلبه، وحدثني عن شعري بروح الأب والمُعلم، فهمت أن
ما كتبته كان بالضرورة شعرا، وأن الموسيقى والقوافي ليست هي وحدها العلامة الدالة
على أن المكتوب شعر، وأن القصيدة المكتملة هي القصيدة التى لا تحتوى على التداعي
الذي قد يحيل القصيدة إلى كيان شديد الترهل، والغريب رغم يقيني بنصائح الرجل و
التى تنبعث من خبرة عريضة فى مجال الشعر والعامية خصوصا، لم تشغلني وقتها ربما بسب
يقين آخر إنني لن أكتب مستقبلا.
حدثني عن مأساته التى حدثت فى الستينات، والتي جعلته
يتوقف كليا عن ممارسة الكتابة ربما طيلة ثلاثين عاما، وهنا أدركت أن هذا الرجل
يشاركني كراهية الوقت والمسافة، مع اختلاف أسباب الكراهية بالطبع فيما بيننا، لذلك
ربما فسرت بشيء من اليقين لماذا تبدو الحياة الأدبية وفعل الكتابة عنده ضربا من
الركض من أجل الوصول لمكانة أدبية تأخرت طيلة هذه السنوات، كنت أرى بالفعل إنه
يستحقها، ربما كان بالفعل لا ينافس أحدا باعترافه، لكنه كان في كل الأحوال ينافس
نفسه من أجل تعويض ما فاته.
كنت مؤمنا أن
الشعر حالة ضاغطة، في حين كان يعلن إنه في الشعر لا يحتاج لوحي بقدر ما يحتاج
للتركيز من أجل ممارسة الكتابة، أعجبني شعره بوجه عام ، كان بسيطا غاية البساطة،
وإن كنت اعتبرت أن الشعر عنده هو ذلك الفردوس المفقود الذي ربما لا يجده بعيدا عن
فعل الكتابة، فشعره يحمل شكلا من أشكال حب الحياة والمصالحة والموائمة بين ذاته
والعالم، في حين لم أكن أشعر أن حياته بعيدا عن الشعر تقترب ولو من بعيد مع هذا
المعنى، رغم يقيني وثقتي، كونه يعيش حياة أسرية على قدر كبير من الهدوء، وفى ظلال
أسرة مترابطة وقوية ومتحابة، لكن ربما من منطلق علاقته بالآخر كان دائما يشعر أن
هناك ثمّة حرب وصراع يحيط بتواجده كقيمة شعرية وأدبية جدير بها أن تتواجد بشكل
فاعل في محيط الحياة الثقافية. كنت أبرر هذا ولكم قلت له بلهجة لا ينقصها الحب
والاحترام : إن فترة غيابه كانت طويلة ، ربما اختلفت الأجواء، وكل وافد جديد ربما
يعانى مثل هذه المعاناة . وإن كنت لا أعفيه هو شخصيا من تضخم هذه الروح التى يجوز
توصيفها بالعدائية تجاهه، وتجاه مشاريعه الشعرية أو النقدية على السواء من فرط
تحفزه وغموض توجهاته فى كثير من الأحيان، وغيرته على العامية بشكل قد يبدو متطرفا
الأمر الذي أكسبه الكثير من العداوات.
كثيرا كانت
تؤرقه هذه الأجواء والتي كان يعتبرها السبب الأساسي وراء تأخر ظهور الإبداع
الحقيقي والمبدعين الحقيقيين، وكثيرا ما كان يعترف لي وكأنه متهم، بأنه لم يجحف
أحدا ، ولم يصارع من أجل أن يقول كلمته ، وأن معظم ما قاله فى نقد الآخر، كان هدفه
الانتصار للشعر، وليس لأي اعتبارات خاصة أو شخصية، رغم إني واقعيا لم أكن أرى فيه
سوى رجل مجتهد ومخلص للقضية التى يتعامل معها، فأنا في حد ذاتي كنت دليلا حاسما
على ذلك، ومن خلال احتفال الرجل بشعري ومحاولاته لأن يرى هذا الشعر النور.
الظروف
الحياتية عوارض استثنائية ولا شك ، فمهما تكلفنا بعض التوجهات، لكن تبقى حقيقتنا
كشعراء نحمل فى ذاتنا معنى البراءة ، لذلك لن أنسى هذا اليوم الذي كان يبدو فيه
كطفل فى غاية السعادة ، ومن خلال كلمة، اعتبرها هو دون أن يفصح جائزة معنوية كبيرة
ولأنه يعرف صدقي معه، كانت سعادته بها كبيرة جدا .
فلم أكن أتخيل كم السعادة التى غطت ملامحه عندما التقينا
ذات مساء عند مقهى قريب من منزله، وهو يسألني بلهجة التواضع الممزوج بالخجل : هل
تعنى ما قلته فى تعليقك من إنني "عرّاب العامية المصرية" ؟
كان ردى بالإيجاب؛ حيث كنت اعتبره الشخص الوحيد من وجهة
نظري الخاصة وحسبما رأيت من خلال عمري القصير في الساحة الأدبية السكندرية، إنه
بالفعل الرجل الذي لا ينافسه أحد فى عشق العامية أو مدوّنة العامية كما كان يحب أن
يُسميها دائما .
كان اللافت
للنظر بطول علاقتي به وخصوصا فى محيط الإسكندرية ثمة مشكلة مزدوجة فى نطاق التعامل
الإنساني؛ فقيمته كباحث وناقد مُسلمات لا يمكن الطعن فيها، وقيمته كشاعر كانت من
خلال وجهة نظرى الخاصة جدا أراه شاعرا حقيقيا ، بسيطا ، أعجبني دائما وإن كنت لم
أشعر كثيرا برغبته فى أن يُدهش من يتلقى شعره؛ الدهشة عند قراءة شعره أو سماعه منه
شخصيا ، وكنت أفسر هذا الانطباع بأن ليس هناك الكثير من الوقت الذي ينتظره؛ كي
يُعيد بلّورة رؤيته الشعرية، ومع تلك الدراسة التى طالعناها معا والتي كُتبت عن
شعره ، سألته يومها : ما المقصود ببرجماتية التجربة فى شعرك ؟
وكان رده وقتها : هو توصيف صحيح إلى حد كبير؛ أنا ناظم
أكبر من كونى شاعر خلّاق ، واعترف فى هذا المنعطف أن إجابته كانت مفعمة بالصراحة
المتطرفة، وأكد لي ظنوني وقتها بأن الرجل بالفعل، ينظر لعنصر الوقت بشيء من التوجس
وخصوصا فى الفترة الأخيرة التى انشغل فيها بالعديد من الأمور التى باتت أكبر من
شعر العامية ذاته، كونه حقيقته الأولى، فهو فى المقام الأول شاعر عامية، لكن البحث
والتنظير والتوثيق والنقد كاد أن يقتل هذه الشاعرية فيه، الأمر الذي جعل من
الكتابة عنده، وخصوصا في الفترة الأخيرة ضربا من ممارسة الحنين لشعر العامية.
لكن، ظل البعد الإنساني أهم ما يؤرقني في شكل تعاملي
معه، فبالضرورة كنت أحبه جدا ومتعاطفا معه، ومع مشاريعه بشكل كبير، للدرجة التى
ذهبت فيها أكثر من مرة للشاعر والزجال الكبير " سعد بدوى" من أجل مجموعة
دواوين لرواد الزجل السكندري من أجل ما يقوم به من بحث عنهم، لكن أزعم إنه بطول السنوات
الخمس لم تتغير أيدلوجياته؛ هادئ وحذر ، لديه شعور كامل بالأمان، ولكنه دائما ما يفترض
وجود حرب تنتظره فى الخارج، مطمئن لمحبتي له، ولكنه لا يتوانى فى وضع الاختبارات
للتأكد من إخلاصي له، ولأني من هواة المصارحة والمكاشفة كان ضروريا أن أخبره بأنني
من أولئك الذين يكرهون مثل هذه الأجواء، بل أن التعايش مع ظروف حياتنا بمثل هذه
الروح شيء مُهلك لا محالة، والغريب إنه كان يقدم بعض المبررات التى أقبلها حينا
ولا أستسيغها أحيانا، لكن كل ما كنت متأكدا منه فعلا ، أن الرجل شعر منذ اللحظة
الأولى لدخوله للحياة الثقافية أو للدقة العودة لها، لأنه بالضرورة لم ينفصل عنها
رغم سنوات الغياب الطويلة، بأنه غير مرغوب فى وجوده، واجه سوء ظن عارم فى مواجهة
أستاذيته، واجه محاولات مستميتة لتقييم شعره تقييما مجحفا ، ولأسباب ربما لا يعرف
معظمها، انسحب من هذا اللغط الكبير الذي مورس ضده، وأعاد اكتشاف مكتبته وكنوزها،
وبدأ يكتب فى العامية وما حولها من تفاصيل سواء كانت دراسات نقدية أو كتابات
توثيقية، كتابات كانت بالضرورة من أجل الشيء الوحيد الذي يحبه بضراوة " شعر
العامية" ، وهنا ظهر الجزء الخفي من شخصية صابر فرج ، جزء لم أكن أدركه من
بدايات علاقتنا معا، إن هذا الرجل لا ينهزم بسهولة، ورغم بشاعة الحياة وضراوتها لا
يمكن لليأس أن يتسلل لنفسه مطلقا، فهو في الشعر والعامية تحديدا محارب ولا شك.
ربما لا
أدّعى الفهم الكامل للنمط الفريد لشخصية صابر فرج فى محتواه، فلسنا ملائكة حتما،
لكن أزعم أن الرجل كانت بالفعل تنطوى سريرته على جملة سجايا، إن اجتمعت لإنسان فهو
ولا شك إنسان حسن المعشر، كان كريما، وصاحب مروءة وعطاء ، وعنده وفاء نادر للذين أثروا
فى حياته ولو تأثيرا بسيطا، خفيف الظل
وقادر بمهارة على خلق النكتة متى توفر له الجو المُحرض على التنكيت، وعلى الدرجة
نفسها وقور، يحترم سنه بشكل متطرف، وينأى بنفسه عن الدخول فى سفسطات غير مجدية،
وكان يرى فى بعض هذه النماذج التى تثرثر كثيرا نماذج مُعطلة، والرجل مولع بالنظام
والقراءة و له أجندة كبيرة من المشروعات الأدبية التى يريد إنجازها .
أزعم أن مشكلة صابر فرج مع محيطه الثقافي وتحديدا فى
الإسكندرية كانت بالضرورة أن يجد بدوره من يحبه ويقتنع بإخلاصه، وهذا الإحساس، وكي
لا أحاكم الجميع ربما لم يشعر به صابر فرج، وحتى إن وُجد فبالضرورة كان منقوصا، أو
مدعوما برغبات بعيدة عن التواصل الشخصي، بل وربما مشاعر تنطوى على أهداف نفعية فى
الأساس، حتى في ظلال ظاهرة " شوكت عبد العزيز " تلك الصداقة التى تمت عن
طريق الإنترنت، لم يسلم من العديد من الاتهامات إنه صاحب نفس الشخصية، رغم أن الخط
الإنساني الذي ربط بينهما كان فى أساسه عشق الرجلين للعامية، وأشهد بحكم القرب منه
وتحديدا فى هذه الفترة إنه واجه كم كبير من الظلم فى محاولة الربط بينه كقيمة
أدبية كبيرة، وبين الرجل الذي يتهمونه فيه، فرغم كل آيات النفي التى أبداها صابر
فرج ولكنه لم يُصدق، ولكنه استمر على صداقته بالرجل من منطلق صداقة حقيقية كان
أساسها العامية عشق صابر فرج الأول والأخير، وحاول بجهد مخلص من أجل العامية أن
يستثمر قلم صديقه لخدمة قضيته الأساسية لوضع ما كان يتمناه هو شخصيا من احتياجه
لناقد عامية لا ينتمى للفصحى.
اعتقد أن
تجربة صابر فرج الإبداعية والإنسانية تجربة تمتلئ عن أخرها بالمتناقضات، تلك
التناقضات التى تليق بشاعر، وتناقضات هذا العالم الذي وجدت فيه هذه الموهبة، ربما توارت
سنوات لأسباب صادمة وقهرية، لكنها لم تمارس الغياب كنشاط إبداعي، كان بالضرورة
كامنا فى نفسه، ينتظر الفرصة لتفجيره، لذلك كان من الطبيعي أن نرى سنوات عودته
والتي كانت قليلة نسبيا عامرة بالعديد من الإنجازات وعلى كل مستويات الإبداع .
من جملة الانطباعات الجميلة التى احملها لهذا الرجل أن
أستاذيته كانت ديمقراطية إلى درجة كبيرة ، تسمح لنا بأن نقول رأينا ويتقبله هو
بسماحة شديدة وعن اقتناع لا يجعلنا نشعر إننا تجاوزنا عليه فى طرح وجهات نظرنا ،
بعكس كل من قابلتهم غيره ، فليس مسموحا أن تقول وجهة نظرك متى تعارضت مع ما يقوله
أساتذتنا ، وربما ليس مسموحا لنا أن نتكلم أصلا، وهذا لم نكن نجده مطلقا فى
جلساتنا الطويلة مع صابر فرج .
كان مرنا إلى أقصى درجة، ومؤمنا بأن الشعر عموما إفراز
لمجموعة ظروف خاصة بكل جيل يمارس فعل الكتابة ، لذلك لم نره أبدا يُصادر على طرح
شعري يختلف مع أيدلوجياته الخاصة، ولم يختزل أي قصيدة يسمعها أو يقرأها فى مجرد
شطرات لمجرد أن باقي القصيدة لا تنتمي لذاتيته في الرؤية ولا فى مجال رؤيته للنص
بروح الناقد التى كانت تعتمل كثيرا فى نفسه عند قراءة الشعر أو سماعه .
وعلى الدرجة نفسها كان شعره تأكيدا لهذه المرونة، فلم
يتوقف كما كان يقول دائما عند الطرح الستينى بتقنياته، ولكنه طوّر من أدواته ومن
شكل رؤيته حتى لا تُتهم قصائده بالتقليدية، والثبات عند منعطف واحد .
ورغم إنه قد بدأ زجالا، لكنه كان مؤمنا بشكل متعصب
بالتصنيف، فلقد كان يرى أن الزجل فن منفصل تماما عن شعر العامية، حتى وإن بدا الأخير
مرحلة متطورة من الطرح الزجلي، ولكم واجه من خلال هذا الرأي العديد من الانتقادات
من البعض الذي لم يكن مؤمنا بالتصنيف، لكنه كان واثقا من رأيه الذي لم يحد عنه حتى
آخر لحظة من حياته.
اعتقد أن ما
تركه صابر فرج فى نفسي رغم أنها سنوات خمس تعتبر فى ميزان الزمن فترة قصيرة إلى
درجة ، لكن ربما شكل التواصل الحميم ودرجة قربى منه قد جعلت هذا الرجل على المستوى
الإنساني أبا وأخا وصديقا ، وعلى المستوى الشعري أستاذا، وكم ما تعلمته منه، وما
عرفته عن العامية ، معرفة كانت تستوجب عشرات السنين لكي أعلمها من سواه، الأمر
الذي سيجعل مسألة تجاوز ذكرى صابر فرج على المدى المنظور مسألة تقترب من الاستحالة.