الخميس، 30 أبريل 2015

صابر فرج " العرّاب" في ذكراه

ربما كانت لحظة موته، هي اللحظة الوحيدة التي حصل فيها على الهدوء والراحة الحقيقية، ولأول مرة فى حياته، فرحلة هذا الإنسان في مجملها؛ رحلة لم تكن سهلة، لأبن أكبر من أبناء الطبقة الوسطى، عليه أن يتعلم، وعليه أن يدير أسرته بعد وفاة أبيه. في هذه الأثناء. يواجه أكبر انتكاسة لأول مشروع شعري يكتبه في حياته ، ويُمنع من الكتابة أصلا، ويتوقف عن متابعة الشعر لمدة تقترب من الثلاثين عاما ، تأخذه الحياة في دروبها ومتاهاتها، يؤسس أسرته الصغيرة ويعيد الكرة من جديد ، لكن فى هذه المرة مع أولاده ، يُربى ويُعلم، لكن لم يفتر الحنين في داخله طيلة هذه السنوات  لأن يكتب، ويملأ الدنيا شعرا، كان ومازال قضيته.

اشهد أن القدر كان عطوفا جدا يوم أن التقيت بهذا الرجل المفعم بالنشاط والحيوية والنظام والترتيب .    
أذكر لقائى الأول به ، فلقد كان لنا صديق مشترك؛ وهو لم يكن يعرفني شخصيا ، بل كان يحفظ بعض الومضات التى سمعها من صديقنا الشاعر الغنائي محمد عبده السيد،  والذي تبرع بأن يُحدث الشاعر الكبير عنّى كواحد من هواة شعر العامية ، وللأمانة فإن كل ما كتبته من شعر لم أكن أعرف إنه شعر عامية، أو إنه شعر أصلا . تأخر اللقاء كثيرا، يأتي هو فأكون قد ذهبت ، أصل أنا فيكون هو قد رحل، فترة من هذه الحظوظ حتى دخلت إلى مكان صديقنا  فقمت بتحيته والجلوس إلى جواره وقمت بتحية الرجل، وهنا قال لي صديقنا : هذا هو الأستاذ صابر فرج  .

    كان ضروريا بعد كثير من الحوارات الجانبية أن يطلب منّى أن أقول بعضا من شعري، يسمع بإنصات غريب، يطرب أحيانا ويندهش أحيانا ، رغم كم الخجل الذي اعتراني ساعتها، كون الرجل تبدو عليه أمارات الأستاذية الممزوجة بالمهابة، لكن، ولكوني ممن لا يهتمون بأن يكونوا أكثر الموجودين حديثا، كنت اختلس النظر لرؤية ملامحه وهو يتحدث أو يقوم بالتعليق على ما أقوله من شعر، حيث كنت ومازلت مؤمنا أن الانطباعات الأولى تدوم، ربما لم تصادفني الراحة لملامحه فى البداية، وإن كنت أحمل يقينا وقتها إنه بلا شك رجل شديد الوقار والهدوء الذي يليق بوضعه وبعمره .

عيناه تتحرك بسرعة، وجهه مقتضب غالبا، بشكل قد يوحى بالغضب، لكن حين يضحك تختلف الصورة تماما، وهنا تظهر روحه الحقيقية كطفل يختبئ خلف هذه الملامح لشيخ يبدأ عقده السابع .
تعددت المرات والتقينا كثيرا، هنا أدركت للمرة الأولى رغم عدم ثقتي فيما كتبته ، أن ما أقوله كان شعرا ، فطلب منّى أن أقوم بجمع كل ما كتبته وإحضاره له بقصد تجميع ديوان يحوى تجربتي كما قال لي وقتها . كان صبره ومثابرته شيئا لافتا للنظر ، حيث كانت معظم القصائد إن لم تكن كلها من كل أجناس الورق المتناثر والغير مُرتب بشكل قد يدعو لليأس من أن يتم تجميع ولو نصف ديوان ، هذا بالإضافة إلى أن معظم القصائد بلا عنوان، حيث كانت كتاباتي غير مهتمة بهذه المسائل، حيث كانت الكتابة ذاتها تنطلق من مجرد بوح شخصي، وليس من منطلق خلق فني يهتم بالتفاصيل.
     
تمكنّا بعد جهد تحمل مشقته هو بشكل كبير من تجميع ما يقرب من ديوان وجلسنا معا فى بيته ، نراجعه من شاشة حاسوبه الخاص، كنت مبهورا وقتها بمكتبته الكبيرة جدا، وكنت مندهشا كيف سمح له الوقت بقراءتها ، ومن هذا الترتيب والنظام الذي صنّف على أساسه هذه المكتبة الضخمة ، وكنت على نفس الدرجة مبهورا بقدرته الذكية على توريطي في مسألة الكتابة من جديد ، حيث كانت كلمته الشهيرة " الكتابة واجب يومى " جزء لا يتجزأ من نصائحه الكثيرة لي وقتها، هذا بجانب تحريضه لى على القراءة ولو بعيدا عن الشعر، حتى تكون لي ثقافتي الخاصة .

     مع مرور الوقت بدأت بذور الثقة تدخل إلى قلبه، وحدثني عن شعري بروح الأب والمُعلم، فهمت أن ما كتبته كان بالضرورة شعرا، وأن الموسيقى والقوافي ليست هي وحدها العلامة الدالة على أن المكتوب شعر، وأن القصيدة المكتملة هي القصيدة التى لا تحتوى على التداعي الذي قد يحيل القصيدة إلى كيان شديد الترهل، والغريب رغم يقيني بنصائح الرجل و التى تنبعث من خبرة عريضة فى مجال الشعر والعامية خصوصا، لم تشغلني وقتها ربما بسب يقين آخر إنني لن أكتب مستقبلا.

حدثني عن مأساته التى حدثت فى الستينات، والتي جعلته يتوقف كليا عن ممارسة الكتابة ربما طيلة ثلاثين عاما، وهنا أدركت أن هذا الرجل يشاركني كراهية الوقت والمسافة، مع اختلاف أسباب الكراهية بالطبع فيما بيننا، لذلك ربما فسرت بشيء من اليقين لماذا تبدو الحياة الأدبية وفعل الكتابة عنده ضربا من الركض من أجل الوصول لمكانة أدبية تأخرت طيلة هذه السنوات، كنت أرى بالفعل إنه يستحقها، ربما كان بالفعل لا ينافس أحدا باعترافه، لكنه كان في كل الأحوال ينافس نفسه من أجل تعويض ما فاته.

 كنت مؤمنا أن الشعر حالة ضاغطة، في حين كان يعلن إنه في الشعر لا يحتاج لوحي بقدر ما يحتاج للتركيز من أجل ممارسة الكتابة، أعجبني شعره بوجه عام ، كان بسيطا غاية البساطة، وإن كنت اعتبرت أن الشعر عنده هو ذلك الفردوس المفقود الذي ربما لا يجده بعيدا عن فعل الكتابة، فشعره يحمل شكلا من أشكال حب الحياة والمصالحة والموائمة بين ذاته والعالم، في حين لم أكن أشعر أن حياته بعيدا عن الشعر تقترب ولو من بعيد مع هذا المعنى، رغم يقيني وثقتي، كونه يعيش حياة أسرية على قدر كبير من الهدوء، وفى ظلال أسرة مترابطة وقوية ومتحابة، لكن ربما من منطلق علاقته بالآخر كان دائما يشعر أن هناك ثمّة حرب وصراع يحيط بتواجده كقيمة شعرية وأدبية جدير بها أن تتواجد بشكل فاعل في محيط الحياة الثقافية. كنت أبرر هذا ولكم قلت له بلهجة لا ينقصها الحب والاحترام : إن فترة غيابه كانت طويلة ، ربما اختلفت الأجواء، وكل وافد جديد ربما يعانى مثل هذه المعاناة . وإن كنت لا أعفيه هو شخصيا من تضخم هذه الروح التى يجوز توصيفها بالعدائية تجاهه، وتجاه مشاريعه الشعرية أو النقدية على السواء من فرط تحفزه وغموض توجهاته فى كثير من الأحيان، وغيرته على العامية بشكل قد يبدو متطرفا الأمر الذي أكسبه الكثير من العداوات.
 
 كثيرا كانت تؤرقه هذه الأجواء والتي كان يعتبرها السبب الأساسي وراء تأخر ظهور الإبداع الحقيقي والمبدعين الحقيقيين، وكثيرا ما كان يعترف لي وكأنه متهم، بأنه لم يجحف أحدا ، ولم يصارع من أجل أن يقول كلمته ، وأن معظم ما قاله فى نقد الآخر، كان هدفه الانتصار للشعر، وليس لأي اعتبارات خاصة أو شخصية، رغم إني واقعيا لم أكن أرى فيه سوى رجل مجتهد ومخلص للقضية التى يتعامل معها، فأنا في حد ذاتي كنت دليلا حاسما على ذلك، ومن خلال احتفال الرجل بشعري ومحاولاته لأن يرى هذا الشعر النور.   

    الظروف الحياتية عوارض استثنائية ولا شك ، فمهما تكلفنا بعض التوجهات، لكن تبقى حقيقتنا كشعراء نحمل فى ذاتنا معنى البراءة ، لذلك لن أنسى هذا اليوم الذي كان يبدو فيه كطفل فى غاية السعادة ، ومن خلال كلمة، اعتبرها هو دون أن يفصح جائزة معنوية كبيرة ولأنه يعرف صدقي معه، كانت سعادته بها كبيرة جدا .
فلم أكن أتخيل كم السعادة التى غطت ملامحه عندما التقينا ذات مساء عند مقهى قريب من منزله، وهو يسألني بلهجة التواضع الممزوج بالخجل : هل تعنى ما قلته فى تعليقك من إنني "عرّاب العامية المصرية" ؟
كان ردى بالإيجاب؛ حيث كنت اعتبره الشخص الوحيد من وجهة نظري الخاصة وحسبما رأيت من خلال عمري القصير في الساحة الأدبية السكندرية، إنه بالفعل الرجل الذي لا ينافسه أحد فى عشق العامية أو مدوّنة العامية كما كان يحب أن يُسميها دائما .

    كان اللافت للنظر بطول علاقتي به وخصوصا فى محيط الإسكندرية ثمة مشكلة مزدوجة فى نطاق التعامل الإنساني؛ فقيمته كباحث وناقد مُسلمات لا يمكن الطعن فيها، وقيمته كشاعر كانت من خلال وجهة نظرى الخاصة جدا أراه شاعرا حقيقيا ، بسيطا ، أعجبني دائما وإن كنت لم أشعر كثيرا برغبته فى أن يُدهش من يتلقى شعره؛ الدهشة عند قراءة شعره أو سماعه منه شخصيا ، وكنت أفسر هذا الانطباع بأن ليس هناك الكثير من الوقت الذي ينتظره؛ كي يُعيد بلّورة رؤيته الشعرية، ومع تلك الدراسة التى طالعناها معا والتي كُتبت عن شعره ، سألته يومها : ما المقصود ببرجماتية التجربة فى شعرك ؟
وكان رده وقتها : هو توصيف صحيح إلى حد كبير؛ أنا ناظم أكبر من كونى شاعر خلّاق ، واعترف فى هذا المنعطف أن إجابته كانت مفعمة بالصراحة المتطرفة، وأكد لي ظنوني وقتها بأن الرجل بالفعل، ينظر لعنصر الوقت بشيء من التوجس وخصوصا فى الفترة الأخيرة التى انشغل فيها بالعديد من الأمور التى باتت أكبر من شعر العامية ذاته، كونه حقيقته الأولى، فهو فى المقام الأول شاعر عامية، لكن البحث والتنظير والتوثيق والنقد كاد أن يقتل هذه الشاعرية فيه، الأمر الذي جعل من الكتابة عنده، وخصوصا في الفترة الأخيرة ضربا من ممارسة الحنين لشعر العامية. 

لكن، ظل البعد الإنساني أهم ما يؤرقني في شكل تعاملي معه، فبالضرورة كنت أحبه جدا ومتعاطفا معه، ومع مشاريعه بشكل كبير، للدرجة التى ذهبت فيها أكثر من مرة للشاعر والزجال الكبير " سعد بدوى" من أجل مجموعة دواوين لرواد الزجل السكندري من أجل ما يقوم به من بحث عنهم، لكن أزعم إنه بطول السنوات الخمس لم تتغير أيدلوجياته؛ هادئ وحذر ، لديه شعور كامل بالأمان، ولكنه دائما ما يفترض وجود حرب تنتظره فى الخارج، مطمئن لمحبتي له، ولكنه لا يتوانى فى وضع الاختبارات للتأكد من إخلاصي له، ولأني من هواة المصارحة والمكاشفة كان ضروريا أن أخبره بأنني من أولئك الذين يكرهون مثل هذه الأجواء، بل أن التعايش مع ظروف حياتنا بمثل هذه الروح شيء مُهلك لا محالة، والغريب إنه كان يقدم بعض المبررات التى أقبلها حينا ولا أستسيغها أحيانا، لكن كل ما كنت متأكدا منه فعلا ، أن الرجل شعر منذ اللحظة الأولى لدخوله للحياة الثقافية أو للدقة العودة لها، لأنه بالضرورة لم ينفصل عنها رغم سنوات الغياب الطويلة، بأنه غير مرغوب فى وجوده، واجه سوء ظن عارم فى مواجهة أستاذيته، واجه محاولات مستميتة لتقييم شعره تقييما مجحفا ، ولأسباب ربما لا يعرف معظمها، انسحب من هذا اللغط الكبير الذي مورس ضده، وأعاد اكتشاف مكتبته وكنوزها، وبدأ يكتب فى العامية وما حولها من تفاصيل سواء كانت دراسات نقدية أو كتابات توثيقية، كتابات كانت بالضرورة من أجل الشيء الوحيد الذي يحبه بضراوة " شعر العامية" ، وهنا ظهر الجزء الخفي من شخصية صابر فرج ، جزء لم أكن أدركه من بدايات علاقتنا معا، إن هذا الرجل لا ينهزم بسهولة، ورغم بشاعة الحياة وضراوتها لا يمكن لليأس أن يتسلل لنفسه مطلقا، فهو في الشعر والعامية تحديدا محارب ولا شك.

    ربما لا أدّعى الفهم الكامل للنمط الفريد لشخصية صابر فرج فى محتواه، فلسنا ملائكة حتما، لكن أزعم أن الرجل كانت بالفعل تنطوى سريرته على جملة سجايا، إن اجتمعت لإنسان فهو ولا شك إنسان حسن المعشر، كان كريما، وصاحب مروءة وعطاء ، وعنده وفاء نادر للذين أثروا فى حياته ولو تأثيرا بسيطا،  خفيف الظل وقادر بمهارة على خلق النكتة متى توفر له الجو المُحرض على التنكيت، وعلى الدرجة نفسها وقور، يحترم سنه بشكل متطرف، وينأى بنفسه عن الدخول فى سفسطات غير مجدية، وكان يرى فى بعض هذه النماذج التى تثرثر كثيرا نماذج مُعطلة، والرجل مولع بالنظام والقراءة و له أجندة كبيرة من المشروعات الأدبية التى يريد إنجازها .

أزعم أن مشكلة صابر فرج مع محيطه الثقافي وتحديدا فى الإسكندرية كانت بالضرورة أن يجد بدوره من يحبه ويقتنع بإخلاصه، وهذا الإحساس، وكي لا أحاكم الجميع ربما لم يشعر به صابر فرج، وحتى إن وُجد فبالضرورة كان منقوصا، أو مدعوما برغبات بعيدة عن التواصل الشخصي، بل وربما مشاعر تنطوى على أهداف نفعية فى الأساس، حتى في ظلال ظاهرة " شوكت عبد العزيز " تلك الصداقة التى تمت عن طريق الإنترنت، لم يسلم من العديد من الاتهامات إنه صاحب نفس الشخصية، رغم أن الخط الإنساني الذي ربط بينهما كان فى أساسه عشق الرجلين للعامية، وأشهد بحكم القرب منه وتحديدا فى هذه الفترة إنه واجه كم كبير من الظلم فى محاولة الربط بينه كقيمة أدبية كبيرة، وبين الرجل الذي يتهمونه فيه، فرغم كل آيات النفي التى أبداها صابر فرج ولكنه لم يُصدق، ولكنه استمر على صداقته بالرجل من منطلق صداقة حقيقية كان أساسها العامية عشق صابر فرج الأول والأخير، وحاول بجهد مخلص من أجل العامية أن يستثمر قلم صديقه لخدمة قضيته الأساسية لوضع ما كان يتمناه هو شخصيا من احتياجه لناقد عامية لا ينتمى للفصحى.
  
   اعتقد أن تجربة صابر فرج الإبداعية والإنسانية تجربة تمتلئ عن أخرها بالمتناقضات، تلك التناقضات التى تليق بشاعر، وتناقضات هذا العالم الذي وجدت فيه هذه الموهبة، ربما توارت سنوات لأسباب صادمة وقهرية، لكنها لم تمارس الغياب كنشاط إبداعي، كان بالضرورة كامنا فى نفسه، ينتظر الفرصة لتفجيره، لذلك كان من الطبيعي أن نرى سنوات عودته والتي كانت قليلة نسبيا عامرة بالعديد من الإنجازات وعلى كل مستويات الإبداع .

من جملة الانطباعات الجميلة التى احملها لهذا الرجل أن أستاذيته كانت ديمقراطية إلى درجة كبيرة ، تسمح لنا بأن نقول رأينا ويتقبله هو بسماحة شديدة وعن اقتناع لا يجعلنا نشعر إننا تجاوزنا عليه فى طرح وجهات نظرنا ، بعكس كل من قابلتهم غيره ، فليس مسموحا أن تقول وجهة نظرك متى تعارضت مع ما يقوله أساتذتنا ، وربما ليس مسموحا لنا أن نتكلم أصلا، وهذا لم نكن نجده مطلقا فى جلساتنا الطويلة مع صابر فرج .
كان مرنا إلى أقصى درجة، ومؤمنا بأن الشعر عموما إفراز لمجموعة ظروف خاصة بكل جيل يمارس فعل الكتابة ، لذلك لم نره أبدا يُصادر على طرح شعري يختلف مع أيدلوجياته الخاصة، ولم يختزل أي قصيدة يسمعها أو يقرأها فى مجرد شطرات لمجرد أن باقي القصيدة لا تنتمي لذاتيته في الرؤية ولا فى مجال رؤيته للنص بروح الناقد التى كانت تعتمل كثيرا فى نفسه عند قراءة الشعر أو سماعه .
وعلى الدرجة نفسها كان شعره تأكيدا لهذه المرونة، فلم يتوقف كما كان يقول دائما عند الطرح الستينى بتقنياته، ولكنه طوّر من أدواته ومن شكل رؤيته حتى لا تُتهم قصائده بالتقليدية، والثبات عند منعطف واحد .
ورغم إنه قد بدأ زجالا، لكنه كان مؤمنا بشكل متعصب بالتصنيف، فلقد كان يرى أن الزجل فن منفصل تماما عن شعر العامية، حتى وإن بدا الأخير مرحلة متطورة من الطرح الزجلي، ولكم واجه من خلال هذا الرأي العديد من الانتقادات من البعض الذي لم يكن مؤمنا بالتصنيف، لكنه كان واثقا من رأيه الذي لم يحد عنه حتى آخر لحظة من حياته.

   اعتقد أن ما تركه صابر فرج فى نفسي رغم أنها سنوات خمس تعتبر فى ميزان الزمن فترة قصيرة إلى درجة ، لكن ربما شكل التواصل الحميم ودرجة قربى منه قد جعلت هذا الرجل على المستوى الإنساني أبا وأخا وصديقا ، وعلى المستوى الشعري أستاذا، وكم ما تعلمته منه، وما عرفته عن العامية ، معرفة كانت تستوجب عشرات السنين لكي أعلمها من سواه، الأمر الذي سيجعل مسألة تجاوز ذكرى صابر فرج على المدى المنظور مسألة تقترب من الاستحالة.  

الاثنين، 20 أبريل 2015

أنا مش هنام دلوقت بين التوقع والرهان

أنا مش هنام دلوقت
بين التوقع والرهان

نعم، كنت أريد أن أخط كتابة تاريخية، يتذكرني من خلالها الشاعر وديوانه، ويأتي قادم الأيام؛ كي يقول الناس: لم يحدث أن قـُرأت العامية هكذا. لكن يا ربما في القراءة الثانية ويجوز الثالثة، بدت القصة أكبر من الكتابة، ولم ألحظ سر تورطي العفوي في إبداء دفوع تخص ما طالعته إجمالا. وليس من أجل توريط التجربة في اتهام لا تستحقه.
نعم ربما لا توجد قراءة بريئة للأدب. ومؤكد محبتي للرجل قد تدفعني دفعا لهذا. لذا لم أستطع صياغة مقدمة لهذه الإطلالة تعبر مبدئيا عن أمتناني للشاعر الذي وضع ثقته أن أدلو بدلوي حيال ديوانه الأول. والذي أتمنى مخلصا أن لا يكون الأخير. هذا من جهة، وفي ذات الوقت لم تأخذني الرغبة أن أدخل في تهويمات، ربما لن تضيف شيئا إلى ما قرأته هنا. لذا كان هذا الحوار....
*هل ترى مثلي أن شاعرية "محمد مخيمر" -على حد تعبيرك- أكبر من هذا الديوان؟

** لعلك تلاحظ أن العامية الآن تقف في منعطف مربك، وأقصد هنا الشعراء المعنيين بضرب النموذج والاختلاف، وقوف قد طال أمده. بين عامية يؤسس لها دعاة البساطة وأحيانا الاستسهال، وعامية أخرى تريد أن تحلق وتتجاوز، دون أن يفهم من حديثي أن الطقس إجمالا قد قُسم إلى ثلاثة أنماط:  العامية في ثوب العادي، العامية المثال التي تسعى لإدراك القصيدة الحلم، عامية الحل الوسط التي لا هي إلى هذه أو تلك.. لكن بطبيعة الحال قد أقف بعض الوقت عند هذا الثالوث لعلة في نفسي، فرضتها فرضا تجربة شاعرنا هنا.

*        وكأنك تريد أن تلمح أن ما طالعناه هنا هو الحل الوسط في خطاب العامية؟
         
** ليس بالصورة التي تقصدها ، لكن أزعم أن رصيد التجربة والموهبة، والامتلاك شبه الكامل للأدوات قد وقف حيال مواجيد الذات موقفا محايدا، بل يا ربما كان الديوان في واحدة من تجلياته يؤسس للحل الوسط في خطاب العامية، فلا هي إلى البساطة الفارهة، التي فرضتها آليات السوق إذا جاز التعبير، ولا هي على الضفة الأخرى صاغت القصيدة الحلم، بما تمتلكه من مقدرات.
بلا مواربة، لم تركن الشاعرية هنا لخبرتها وموهبتها؛ كي تصوغ نصا يتسق مع نفسها وعالمها بالكلية، في آلية أكبر من الوصف والانسلال الخجل لممارسة بعض التعرية والمحاكمة لواقعها وتفاصيله. وأزمة هذه الكتابة إنها تحرض الذائقة للأسئلة التي إن طُرحت تستهدف الذاتية وتحولاتها، إلى درجة قد تستفز الذائقة أن تحاكم.. إلى أي مدى كانت الغنائية في صالح الشعر ومعاييره الإنسانية، وهذا يقينا قد يطرحه أصحاب القراءات البريئة للأدب.

من غير تبرير
هتكمل بصة طويلة على البلكونة
وتكبت التنهيدة اللي ف صدرك
وتسيب أحلامك ع الترابيزة
وتقوم
من غير ما تخلص فنجان القهوة

* إننا لم نلحظ موقفا واضحا من العالم ولم نتبين الأزمة التي ينطوي عليها شعر الرجل؟

** ولِماذا الأزمة، أو التورط الطوعي في تنظير الواقع المعاش. تعال نطرح معطيات أو أسئلة افتراضية على هامش هذه الكتابة، أو نستنطق نوايا النص بعيدا عن إنتاج أحكام قيمة، لا الشعر يحتاجها، ولا النقد بقادر على صياغتها، على ضوء نشاط إبداعي، هو بالضرورة يحتفل بنسبية الرؤى المنبثقة من الذات، ويستفز كذلك آرائنا الانطباعية بدورها، والتي تحاول بلورة نفسها لِما يخدم عاميتنا.  فإذا عدنا لعنوان الديوان لأدركنا على سبيل الابتداء وفي تقرير جدير بالنظر " أنا مش هنام دلوقت" فلا توجد حمولة دلالية لهذا العنوان أكبر من الرغبة في السهر، أو على الأقل انعدام دافع النوم، إذن فالأجواء هنا ليلية بامتياز، وربما ذلك ما يفسر حضور مفردة(قهوة) بشكل لافت في قاموس هذه التجربة.
بالانتقال إلى ما يمكن تسميته خطاطة الكتابة، فلقد عبرت من خلال المقدمة عدة ومضات رائعة ومكثفة، ومن ثم تم الانتقال إلى تقسيم ثلاثي : هو(45 صفحة)  هي(28 صفحة)  الراوي(54 صفحة) وأزعم أن هذه الخطاطة قد تفض الاشتباك حال القراءة المتأنية لهذا الديوان، فلقد اتضحت معالمه منذ أول لقاء، كونه منبثقا من ذات عاشقة أو خطاب غزلي شفيف، يتوجه لهذه الـ هي، وإن لم يخلُ من بعض ما يميز خطاب الأزمة من مواجيد الفقد والحرمان أو عدم القدرة على التصريح والإبانة حيال هذه الـ هي.

* أرى نية لمجاملة الرجل؟!

** إننا لا نملك جسارة أن نصادر على ما أرادته الشاعرية حال انتخاب مواضيعها. فالرجل قد ذهب طوعا لخطاب عشق، يجيد التحرك فيه بمقدراته الشعرية في هذه اللحظة على الأقل. وإن كنت تلمح لذلك التقسيم الثلاثي الذي يبدأ من شاعر اتسق مع عالمه وكتب من خلاله وآخر تجاوزه من كم ما لاقاه من إحباطات، وأسس قصيدته الحلم، أو ذاك الذي أصر على تشويه الواقع وتفاصيله في خطاب شعري يغلب عليه معنى الكتابة الانتقامية. فما المانع أن نتجه بديوانه لمعنى الاتساق وكذلك التسامي فوق الأزمة بخطاب عاشق.

لو يفضل لي ف قلب الدنيا شوية مية
مش عاوزاهم
أنا هاشربهم جوة كفوفك
أنا عارفاك بتحب عيوني وبتعشقني
هتصدقني

لقد كنا نستطيع تفسير حضور السينما الرومانسية في منتصف التسعينات، كردة فعل متسقة مع ارتفاع معدلات سينما الجريمة والعنف والحركة والرعب. ومن سوء التأويل أن تكون الأزمة في خطاب العامية الآن هي كل ما يمكن أن يقال.  وليس مقبولا على الدرجة نفسها أن تتهم هذه الكتابة بأنها لقتل الوقت، أو تعبير عن رفاهية أو غياب اليقين المتحقق في أزمات الواقع، فهنا تهمة طاعنة ولا شك.

* إنه الدكتور والشاعر؟!

** لا لا ، لا يمكن قراءة منجز شعري استنادا للكوادر الوظيفية، ولاسيما أن الرجل على غلاف الديوان لم يأتِ اسمه مسبوقا بهذه (الدال) التي يحرص عليها الآخرون.
إن هذا السؤال على ضفاف شاعرية "محمد مخيمر" في المبتدأ وليس على ضفاف هذا الديوان، ورغم ما ينطوي عليه من طرافة لا مكان لها، لكنها قد تفجر سؤالا إشكاليا إذا كنت حريصا على الفهم. فربما لو طرح الرجل في ثنايا عاميته خطابا مأزوما لصادف أزمة تصديق لما يطرحه؛ استنادا لهذا الكادر الوظيفي. ولواجهته بسؤال لا يقل طرافة.. من أين تأتيه الأزمة؟ ومن يدريك، فالكثير من الشعراء يؤسسون لخطاب الأزمة ولكن منهم من يبتذل الأزمة ذاتها، في نصوص قد لا يتفق عليها في نهاية البحث والتأمل.

* لقد قلت إن هذا الديوان مشكل وإشكالي في آن. ماذا كنت تقصد؟

** لا أريد لحديثي معك أن يشوبه نوع من التناقض، فلقد بررت أو حاولت تأسيس أرض جديدة ومستحقة للخطاب الغزلي العاشق، ومبرراته الآنية في هذا الكم اللانهائي من الأزمات، وكأنه ردة فعل طبيعية. لكنه مشكل لنفس السبب تقريبا. أو لنفصل بين سؤالين على درجة من التباين. لماذا هذه الكتابة؟ ولماذا الآن؟ 

لماذا هذه الكتابة فلقد أفضت هنا إنها قد تكون ردة فعل للتسامي فوق مركبات الأزمة. بيد أن لماذا الآن.. فهذه من طبيعة الديوان كونه مشكلا. فمضمونه الرؤيوي على معايير اللحظة قد يكون نوعا من الجسارة. لن أحسبه قد تجرد من طبيعة الأزمة والحديث عنها، وانحرف واعيا أن لا يتورط فيها. لكن الواقع الآن لا يطرح نفسه كواقع مأزوم وحسب، لكنه يكشف عن تحولات يجوز توصيفها تاريخية. لذا سأحيلك إلى التهم الجاهزة والبريئة إذا جاز التعبير أن الديوان بلا موقف واضح من العالم أو بلا إشارات لعالم مواز تمثله القصيدة الحلم، لتهمة أخرى، عنصر الوقت فقط من يشير لمشروعيتها.. إن كتابة بهذه الروح قد تتبلور عند مستوى معين من الذائقة وكأنها كتابة فصامية. أو إذا شئنا الدقة انفصلت واعية أن تدلو بدلوها في مرحلة للصدق لا ينقصها السيولة. أستطيع أن أدافع هنا وأقول: إن سيولة الأوضاع لم تساعد الشاعر أن يبلور موقفا واضحا. لكن ما أريد أن أشير إليه على الدرجة نفسها. ولماذا ننتظر الكتابة متى تشكلت المفاهيم والتحولات، ولاسيما أن الشعر في قمة ذهنيته ليس معنيا بتنظير حاسم للواقع وما يستجد عليه.

هذا الديوان إشكالي لكثير من معطيات عدم الاتفاق، لا على الطريقة التي طرح الرجل بها مواجيده، ولا على الجو العام لقصائده، وللكثير من المعطيات الجاهزة التي تستطيع أن تحاكم على ضوءها التجربة كي تتهمها بهذه التهم على ضوء شيوع عامية الأزمة.

* وكأنك تشير لعامل السن دون تصريح؟        

** كيف تفهم هذا وعندنا تجربة"رامبو" التي توقفت دون العشرين، وتجربة الشابي الذي مات يقينا في الخامسة والعشرين. إن ذائقة شعر العامية لا تفكر بهذه الطريقة، واستجلاء موقف الشاعرية من العالم تقوله النصوص، وليس التجارب الكبرى إلا فيما ندر، بل وقد أذهب إلى أبعد من ذلك أن غياب المظلة النقدية عن شعر العامية وأطروحاتها، لم يؤسس ماهية البحث عن ذلك الموقف، إن هي إلا أحاديث يتداولها شعراء العامية أنفسهم في معرض تدارسهم لتجارب بعضهم البعض.

* إذن ما هي مثالب هذا الديوان. وكأنك قد رضيت بعد أن توارى الحديث كي يتحول إلى دفاع؟
** دعنا نتفق إنه لا كتابة بلا مثالب، لكن في بعض الأحيان محاولة الانتصار لعامية مختلفة، قد يعمينا عن بعض الأمور، ولاسيما حين نتورط في المصادرة على نوايا خالق الحالة الشعرية.

ملامحها إزاي تتشكل وأنت بعيد
وعيونك ليه ماخدتش الجومة ومسحت
طعم عيونها الفلوماستر من رسوماتك
لساك متعقد من خرم الشيش؟
وبتعمل دقة قلبك صامت

لا أريد هنا أن أطرح عليك سؤالا عبثيا ربما، من هو "محمد مخيمر" في يقين قراءه؟
هو يقينا شاعر العامية الذي تنازل طوعا عن بعض من منجزه بين دفتي ديوان. وفي الدائرة الأقرب هو من يؤسس جيلا من الشعراء من منطلق قيادته لورشة هدفها الشعر وإتقانه. المعنى الأول مؤكد لا يمكن الخلاف عليه. لكن للثاني تبعات، تستطيع حال معرفتك إنه بصدد نشر ديوان أن تذهب مع خيالاتك إن ستطالع العامية النموذج. لذلك ستتولد عندك قدرة متطرفة على عدم المغفرة لأي سقطة أو زلة، بل وستقرأ منجز الرجل عموما وأنت غير مسلح بالتسامح مع الخطأ متى وجد. 

إن هذا الشاهد وغيره كثير في الحقيقة، يجوز التعاطي معه كونه عامية بلا أخطاء. بل يوجد متون شعرية بذاتها قد تطرفت في الإجادة وتتسق مع ما هو معلوم يقينا عن شاعرية الرجل، ولا أحسب أن هناك من يملك جسارة أن يسلب الرجل شاعريته أو يقلل من مقدراته وملكاته. لكن من العدل أن نقول أو كما كنت دائما أتحايل؛ كي لا أقول رأيا سلبيا في منجز أي شاعر: إنه ورغم كل شيء تظل شاعرية محمد مخيمر الذي أعرفه أكبر بكثير من هذا الديوان. ولأسباب ربما لا تخو من طرافة وإن كانت تنطوي على موضوعية لها أنياب أحسبه سيقبلها.

اعترف إنني لم أكن أحلم بملاقاة العامية النموذج استنادا لشكل معرفتنا اليقينية بشاعرية الرجل. لكن ربما أخذني الأمل أن أجد تجريبا أو يكاد يجرد اللغة من دلالاتها الوظيفية، فلقد انتخب الرجل لغته من أكثر قواميس اللغة رهافة وبساطة، فلم نجد رموزا مستغلقة أو سياقات مشفرة تنتحل تهويمات لها ما يبررها. فخطاطة الديوان وهدفه ومنظوره التفاعلي مع خطاب العشق والغزل كانت الغطاء المرجعي لهذه اللغة، التي أصرت بضراوة أن تكون لغة إنجاز. وليست اللغة المعنية بمغادرة دلالتها المستقرة يقينا. وهذا الغطاء قد شكل بدوره مع ثبات نسبي للقاموس أن نجد ظواهر نصية لن أقول حريصة على ضرب النموذج أو مغادرة ما يمكن اعتباره نمطيا، بل كانت ظواهر متسقة مع الهدف الرئيس من الكتابة، وما استلزمه هذا من مفردات وسياقات لغوية وصلت إلى الحد الذي بدت فيه اللغة لا تنجز دلالتها المعجمية البسيطة بقدر ما كانت تجتر نفسها، والغريب لأداء نفس الدور في هذا النص أو ذاك. الأمر الذي أفرز مع القراءة المتأنية مفردات مفتاحية فالتسبيب عند الرجل بات أسيرا لـ (علشان) و(عشان) مراعاة للوزن. مع عدم الانتباه للتكرار، ولاسيما في النفي بـ ( مفيش/ مش).

حاولت جهدي في الحقيقة أن أبرر هذا استنادا لشاعرية الرجل، وجدت إن زاوية الرؤية للخطاب العاشق حتى في تحولاته من الـ (هو) إلى الـ (هي) ومن ثم الراوي. لم يشهد تحولات يجوز نعتها حدية في لغة الديوان، بل قد استعير هنا مصطلحا في نقد الرواية وأقول ثبات النبر. بل ولست أدري أين أنا من الحقيقة فلست متبحرا في علوم الأوزان. أن الشاعر هنا قد استند على بحور قد يجوز الاختلاف بين بينتها الإيقاعية ليس كبيرا. نعم يجوز أن تميل الشاعرية لإيقاع محدد، تحب طوعا أن تبث مواجيدها من خلاله. لكن ربما مع التقسيم الثلاثي الذي طالعناه. كنا نراهن على حدوث ثمة ما يشير للاختلاف ولو نسبيا.

* وكيف تتسق هذه اللغة مع ثبات الفكرة الرئيسية وتراهن على حدوث الاختلاف؟

** لأن الرهانات أصلا كبيرة والمتوقع ثري بالضرورة، فقد أغفر مرجعية الكتابة إذا توفرت نية تثبيت الهدف منها، لكن ما لا أغفره هو ثبات التعاطي. نعم هو شاعر ثري بالضرورة، ومن نافلة القول الحديث مجددا عن موهبته وملكاته، بيد أن ما تألمت له حقا أن يسلم ظهور قصائده لهذا الجلد، ومن خلال هذا التثبيت الذي أدي لما يمكن أن يكون اجترارا مع عدم التعالي على التكرار. الأمر الذي أدي إلى ظهور عناصر شاعريته دون تألقها المعهود. فالتناصات قد حضرت بدلالتها{ أنا باعشقك} ولم يتم التحايل عليها بأي حيلة تنجز مفارقة أكبر من حضورها{ أنت عمري} كان مجرد عنوان يا ربما شرحته القصيدة{ هنومة} الباب الحديد، كان هذا التناص محاولة للانفلات ربما اغتالها بعض غموض الإشارات، والتي جاء آخر النص بنجاح ليمنحها بعض المشروعية.

* وهل انعكس ذلك بدوره على التصوير؟

** تدري؟ إن هذا الملمح في ذلك الديوان هو إشكاليته الأكثر بروزا، شعرت في القراءة الثانية أن المسافة التي تقطعها الشاعرية لإنجاز خطابها العامي قد تبدو أطول، فحضور محمد مخيمر كشاعر فصحى على الدرجة نفسها كان يلقي بظلاله؛ ليكشف عن معاناة لن أقول معاناة خلق، بل من السهل أن ننعتها: اختلاف يقين المعالجة. ففي رأيي العامية كتابة يقين، بينما تظل الفصحى كتابة رؤية ورؤيا. تمنحك التصور الكلي للحياة وتأتي العامية كي تفتت هذه الكليات في سياقات شعرية أكثر قربا من الأرض.

نستطع القول إن الصورة الشعرية قد نأت بنفسها من مشكل الثبات النسبي الذي أسست له فكرة الديوان، ولغته.
متلخبط بين القطر العايم في محيط 
وسفينة بتجري على القضبان
في هذا الشاهد لا تملك الذائقة سوى أن تتمعن في اغتيال المنطقية التي حملها سطران من الشعر، كي يتجلى مفهوم المفارقة في أبهى صورة. هنا تغادر الصورة الشعرية مفهوم التصميم؛ كي تعرض نفسها كتجليات. لا ندري أي لاوعي هذا الذي يؤسسها هكذا.
{ كانت عينيه فوق الدموع متعكزة} { وبيمسح الشمس اللي بلت لحيته}{ قومي استعيذي م البنات/ واتوضي من حلم الهوى}.    

إن هذه الشواهد وغيرها كثير، بيد أن الأمر هنا بدا لي متفوقا أكثر على منحى العفوية والبكارة. هنا يقين شاعر الفصحى وليس شاعر العامية.

* هل يمكن اختزال ديوان في صورة شعرية مدهشة؟
** يمكن، ولاسيما أن هناك جانبا مفردا، دائما وأبدا يكون هو السمة الأبرز فيما يمكن تسميته الفاعلية الشعرية. لكنك تصر في وضوح أن تشير لشاعرية الرجل وكأنها لم تترك لنا خيارا. فالصورة الشعرية عنده وإن كانت متسقة مع كونه يجيد الفصحى في مضمار مختلف، لكن هذا لا يعني بأي حال تصنيف الملكات والمقدرات بين الفصحى والعامية، وإبراز أن هناك ثمة اختلافا، وكأن حظيرة الإبداع الشعري تختلف من حيث الأدوات هنا أو هناك. بيد أن العامية في هذا الديوان على الأقل كانت أكثر إقناعا حين تم عرضها مختزلة، ولعلك تلاحظ كم التشعير في الومضات إذا ما قورن بالنصوص الطويلة نسبيا. أو النصوص الطويلة التي تم ترقيم متونها. وربما أحيلك لقراءة هذا النص المعنون: قلبي.

إن التوازي الذي تبحث عنه كي تسم هذا الديوان بالمكتمل فنيا أو يكاد، سيكون هلاميا إلى درجة وليس للأسباب التي سقناه في بداية حديثنا، من كون خطابا عاشقا، بل في زعمي إنه بتنحية الجانب النفسي الذي يؤسس له يقيننا بالفرق بين: ديوان أول وكتابة أولى مؤكد لن يأتي في صالح الشاعر. هو يقينا ديوان أول، كنه ولاشك ليس كتابة أولى تمنحك أن تصوب ما يمكن أن يقال على الكتابة الأولى من مثالب، ففي هذا ظلم كبير للشاعر ومنجزه.

نعم تفوقت الصورة في كثير من متون الديوان على نفسها، وكانت أبرز العناصر الجمالية فيه، لم تؤسس على التراسل وتبديل الوظائف والأدوار فيما بين ما هو مادي ومعنوي وبالعكس، لكنها كانت تتألق في ضرب التوقع بمفارقات دالة لا ينقصها الإدهاش.

محفظتك
مليانة بأوراق وفلوس
لكن قلبي
( قاعد ويا الفكة)
جوة الدرج

* إذن هو ديوان جيد؟
** سيء الحظ النقد الأدبي أو ما يشبه الممارسة النقدية حين يتحدث عن ديوان وفقا لمعايير الإجادة، فالديوان قد خرج للناس فعلا. بل أستطيع أن أذهب معك إلى أبعد من ذلك. فيقينا – رأي شخصي- هو ديوان جيد فعلا. لكن تعال وبين يدينا منجز الرجل نسأل سؤالا أكثر عمقا. هل إنتاج ديوان جيد هو منتهى الطموح لشاعر في قيمة محمد مخيمر؟

قد أفقد موضوعيتي هنا وأقول: إن المتوقع من شاعرنا ديوان مؤثر ومختلف. ربما ظلم الرجل الطقس العام الذي تمارس فيه العامية. مؤكد تشكلات الذائقة التي تقف موقفا عدائيا من دعاة الاختلاف. تأسيس نص يغادر عناصر إشكاليات الكتابة الآن. أو عدم جاهزية الشعر لأن يعلن موقفه من العالم. وأشهد هنا إنني صادفت شعرا حقيقيا، وإن لم يأتِ على مستوى رهاناتي، وإن حاولت أن انتصر لك، ولمذهبك الذي تحبه وأورد هنا موقفا يرضيك.. سأقولها وبعيدا عن منجز الرجل: إن المبالغة في صياغة كتابة بلا أخطاء هي قمة الخطأ. والمواهب الشعرية الحقيقية ما كانت لتتسم بهذا الوسم إلا لكونها ضدا لكل ما هو عادي ونمطي وسلطوي أحيانا.     

الثلاثاء، 14 أبريل 2015

أصحاب الأحلام .. يموتون مرتين

أصحاب الأحلام ..  يموتون مرتين
..............................................
أزمتي مع هذا الجيل، كانت التأصيل، ولم أكن أجد غضاضة في إعلانها صريحة: إن غباء اليسار في زمن السيولة أن حوَّل البوصلة من يسار السلطة إلى يسار الله. وبدلا من أن يهبط إلى حيث المهمشين قضيته الكبرى، هبط إلى خطاب التماهي الساذج مع السلطة التي حددت منذ البداية الأعداء الحقيقيين لها.

لم تكن ملامحها تحمل نفس البهجة، متوترة، تشتكي لمن حسبته كبيرا، خلافا من جملة الخلافات المجانية الكثيرة التي تزخر بها الإسكندرية، في صراع الشعراء حول الوجود واللاوجود. كنت أعلق للتهدئة، رغم يقيني بخسران القضية كلها.

بعد ذلك، تدافعت عليها السنوات، بدت أكبر، رقيقة كالعادة، لكنها مُسهدة العينين، ممتلئة بالدخان وبعض ليل.
دلفت برشاقتها المعهودة من أحد أبواب القهوة التجارية، فوجئت إنها تتذكرني، عرجت عليا وسلمت وبحميمية أكبر من اللقاء الأول، والذي كنت فقط أسمع ما تبثه من شكوى للشاعر الكبير.

 على هامش تظاهرة مسرح بيرم التونسي يوم الاعتراض على وزير ثقافة الإخوان، وكنت مارا بالمكان، حيَّت السيدة التي كانت بالجوار، وحيتني بذات الروح، ورحنا في حديث أكبر.

بعد كلام كثير، بدت عليها بعض البشاشة حين عرجنا على "عبد الغفار شكر" والذي كان رأيي فيه إيجابيا نسبيا، فالرجل في يقيني لم يبع كراساته في المطلق على غرار "رفعت السعيد" واستثمر الوقت في تأصيل متمهل لقضايا اليسار، وعلاقته بالمجتمع في مناخ الاستبداد، وعلاقة تيارات الإسلام السياسي بالقاعدة الشعبية.

حزنت في هذا الحوار مرتين، وجدت حماسا لم يكن هناك ما يبرره من وجهة نظري، ولم أجد ما راهنت عليه. تتحدث من عناوين عريضة، وبالانتقال إلى مشكل التفعيل كنت أصدم في الرؤى التي لا تتناسب بأي حال مع تجربتها التي حسبتها أعمق وأطول. على الجانب الآخر أشفقت عليها إذ اعتقدت ساعتها إني يساري متخف، تريد مخلصة استعادتي للحظيرة من جديد، والحق فموقفي من اليسار لا يعني رفضا كاملا للأطروحة، لكن ما أعلنته لها: إن اليسار موجود، لكن لا يوجد يساريون، ثم انتقلنا للحديث عن أدوار بعض النخب، ومنهم يسري فودة في تدعيم التيار الذي تنتمي إليه، الأمر الذي أثار حفيظتي قليلا.

كانت في يقيني بعد هذا الحوار تؤكد انطباعاتي الأولى، فتاة بريئة وحالمة، تجسد حيرة جيلها، فهمت القصة من خواتيمها، ولم تنبش جذورها وبداياتها، وتلقت أفكارها في أسوأ فترة عاشها اليسار بطول تاريخه. يسار الفصاميين والدجالين، وليس يسار"محمد عباس فهمي" و"عيداروس القصير" وغيرهم. اليسار الذي دفع "أروى صالح" أن تكتب"المبتسرون" كي تفضح هذه النخب الضالة التي باعت حلم البسطاء في حظيرة الاستبداد، ومن ثم انتحرت بإلقاء نفسها من شرفة برج قاهري أنتجه الانفتاح السبعيني، منهية ذلك الجدال العنيف بين الحلم والواقع. 

مؤكد لم يكن عندي موقف واضح منها كشاعرة قصيدة نثر، بيد أن موتها أزعم أنه أهم قصيدة كتبتها على الإطلاق. 

الأربعاء، 8 أبريل 2015

بعد الفانتازيا بشارعين

لم يكن أحد يتخيل أن "براد بيت" و"إنجيلينا جولي" من الممكن أن يشاهدا في شوارع "بيفرلي هيلز" يركضان، وعلى ملامحهما كل هذا الرعب.
لم يكد الشيخ يصل حتى حديقة قصرهما المنيف، ويتحدث معهما نيابة عن الجهة التي أرسلته؛ كي يحدثهما عن الإسلام، في محاولة توازي ما تصطنعه الحركات التبشيرية للديانات الأخرى. حتى حدثت الكارثة.
ابتل السروال، وارتعشت لحية الرجل الكثة، وشعر برعب آخر، لو ظن الناس على قلتهم  إنه واحد ممن كانوا وراء تفجيرات سبتمبر المقدسة.

كان الدم يحن حقا وصدقا ويقينا، فلقد تصادف أن مصري كان يمر بالجوار، فاصطحبه مشكورا إلى بيته الصغير على أطراف الولاية في سيارته المتواضعة. وبطول الطريق والحوار عن هذه الجهة التي سعت لأن تبشر بالإسلام ولماذا الآن.

أندهش الشيخ، فربما يستطيع أن يبرر سلوك النجمين المباغت والجارح، لكن هذا المصري المسلم لِم ينقم عليه أن يبشر؟
قدم له الغداء، وتحسبا للسؤال التقليدي أقسم إنه حلال، والخنزير ومشتقاته لا يدخل هنا. وإن زجاجة البيرة المشبرة التي خرجت للتو من الثلاجة منزوعة الكحول.

كان المصري المغترب يراقب عن بعد الطريقة التي يأكل بها الشيخ، يأكل بنهم يكشف عن جوع طاعن. بيد أن تفاصيل جسده كانت تقول أن الرجل يرى في الأكل هوايته المحببة. ولأن المصري قد تأمْرَّك أو يكاد، تخلص سريعا من العبارات العاطفية التي تركها خلفه وسأله مباشرة أين أنت من جوعوا تصحوا؟ ولاسيما أن الكرش بأي حال لم يكن سُنة مؤكدة.

جدال عقيم وبلا أي فائدة كاد أن يدفع المصري أن يركض هو الآخر. لم يستطع للحظة أن يقنعه أن الإسلام موجود بالقوة والفعل، لكن المسلمين خارج الزمن. فلا الهيئة التي أتى بها إلى هنا ستسعفه. ولا المنقول عنا من أخبار كفيل بزحزحة الصورة الكاريكاتورية للعربي المسلم.

دافع الشيخ باستماتة، احتج بتنامي أعداد معتنقي الإسلام هنا، ولم يفهم  أن هذه الظاهرة مرجعها يأتي كتحريض مباشر يلمسه الأمريكيون من تسلط العالم وتحفزه لذلك الدين وأتباعه، تدعوهم أن يفكروا في أمره بعيدا عن هذه الأنماط البارعة في تشويهه. حتى أن جل المسلمين بالولادة ناجحون إلى درجة، فيهم صلاحيات الاستفزاز لأن يفكر الآخر حيال ما يعتقده هؤلاء. ناهيك عن أن هذه الصراعات المجانية بين أتباع الديانات السماوية قد حدت بالكثيرين هنا أن يكونوا لا دينيين. من الأجدر بك قبل أن تنهض لإنجاز هذا الهدف أن تضغط الزمن وتنجح في إدارة أوطانك. كي تثبت أن لديك مظلة عقدية تستحق التأمل.    

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...