الأحد، 13 فبراير 2022

أم ميمي.. أزمة القراءة البريئة !!

 

غالبا لا أحب قراءة الأدب بأحكام مُسبقة، أو إنتاج أحكام قيمة، تأخذ منحى أخلاقيا أثناء القراءة. بل قد أذهب طوعا لقيمة المتن، بغض النظر عن القالب اللغوي الذي صيغت من خلاله تفاصيله. لذا اندهش أحيانا ممن يتهمون لغة الرواية- أي رواية- بأنها مبتذلة، على ضوء ما ورد فيها من مفردات وسياقات ومجازات. ولأني مازلت مؤمنا بمقولة "رولان بارت" الخالدة {لا توجد قراءة بريئة للأدب} سأحاول هنا الانسلال فيما وراء أم ميمي؛ كي أثبت أن النص رغم كل ما ينطوي عليه مما يعتقده فريق من القراء إنه بذيء لم يفقد كونه أدبا، لانتقل لمحنة النقد أو محنة الذائقة حين تتصدى لقراءة رواية جاءت على هذا النحو.   

في حقيقة الأمر لا أرى في النص معنى البذاءة رغم كثرة الشواهد(ظاهريا) والتي أنتجت بدورها حالة الصدمة حيال لغته. بل أرى أن من الموضوعية بمكان أن أسأل الخطاب السردي سؤالا افتراضيا مفاده. هل هي بذاءة منتحلة أو أصيلة تتسق بدورها مع طبيعة شخوص الرواية القائم عليهم فعل السرد نفسه. ولاسيما أن شبح بلال فضل السيناريست كانت تزاحم ولو في اللاوعي شخصية الرجل كسارد لأحداث روايته. والتي أنتجت بدورها حوارا؛ هو بالضرورة حوار الشخصيات في الظرفية الزمنية والمكانية كإطارين شرعيين للحكاية. وهنا ودون تجاوز مني لا أدعي أن الرجل كان يحتاط مبدئيا وهو يدرك يقينا أن موضوع روايته هو قاع المجتمع. أو ما يسمونه أحيانا في الخطاب النقدي اللزج بالواقع السفلي للحياة. واقع لا يمكن أن نتعامى عنه أو نتطرف في إنكاره. وهنا قد أسمع من يقول: إن الأدب يسعى في واحدة من وظائفه لإدراك الرقي. وبدوري لن أطعن في هذه المقولة، ولكن تبقى إشكالية أم ميمي إنها ستفجر سؤالا أكبر من ذلك المعنى في زعمي وهو. إلى أي مدى يمكن الحكم على مصداقية المتن الروائي؟

قبل الإجابة عن ذلك السؤال سأحيل من يقرأ هذه السطور لنماذج ثلاثة أحسبني قد قرأت لها مرارا، وبلغ أثرها في ذائقتي مبلغا مُهما. أبو نواس في شعره الماجن والذي اعتبره - رأي شخصي-  أكثر بلاغة وأثرا من كل ما كتبه الرجل. وكان فيه من الجماليات الفنية عناصر إبهار متحققة بقوة. بل وكنت أرى صدقا يجب التوقف عنده؛ لأنه يكتب عن المسكوت عنه من بغداد التي كانت رمزا آنذاك للعلم والزهد، هو بالفعل لم ينكر عليها عظمتها، لكنه كان أكثر جسارة من غيره في الكشف عن الجزء المخفي من حياة الناس وقتها. لكنه في كل الأحوال لم يفقد شعوره الفني وهو يتماس مع هذه المساخر التي عاشها وهو يقينا لم يخترعها. وهناك الشاعر الفرنسي "رامبو" وقصائده المهمة التي كانت تعبر عن شغف "فيرلين" به، في علاقة بوهيمية لم تكن تفاصيلها بخافية على معاصريه. ناهيك عن نصوصه الأخرى التي كانت تطعن في كل القيم الجمالية التي أنتجتها الحضارة الأوربية؛ كي يثبت أن هذه الحضارة قد اغتالت الإنسان وهي في طريقها لإنجاز ما تدعيه من أشكال التحضر. وأتوقف أخيرا عند الخبز الحافي لمحمد شكري الروائي المغربي، وخاصة الجزء الذي يغطي طفولته سردا، وما ينطوي عليه من تفاصيل قد تدعو للغثيان. ومع كل هذا لم يستطع منتقدوه أن ينفوا جسارته وجرأته كي يحكي عن طفولة بهذا القدر من البؤس، ولا تخلو بدورها من متون سردية هي أقرب للفضيحة.  

لا أريد أن يفهم من حديثي إنني أدافع عن الرواية، فلقد قرأتها وأنا أغبط كاتبها على هذا القدر الكبير من الجرأة وعدم استسلامه للنموذج الذي يستنكف أن يعري الحقيقة بهذا القدر من الوضوح. لكن إشكالية المصداقية في متن سردي هذه سماته تظل هي المشكلة الأصعب. لأن النقاد الكلاسيكيين يبنون رؤيتهم غالبا على الاتساق العضوي بين الزمان والمكان من جهة، ولغة شخوصه من جهة أخرى؛ لذا فلنجب على السؤال بسؤال له وجاهته هنا.. ما اللغة التي كان من الضروري أن يتحدث بها ميمي أو أمه في إطار المشهدية المفصلة التي صاغها بلال فضل لروايته؟

إن إنكار الواقع السفلي أو قاع المجتمع لا يعني زواله. بل إن يقين المسئولية الأدبية إذا جاز التعبير هو من يعطي هذه الكتابة مشروعيتها. فمن سيتصدى للكتابة عن أم ميمي إذن، إذا ظل هاجس اللغة الرصينة هو من يجهض هذه المحاولات؟

إن التكلس الذي أصاب الخطاب النقدي يبدو لي هنا وقد انعكس بدوره على ذائقة القراء أصحاب التوجهات البريئة في تقييم الأدب. بل كان من الضروري أن نبحث في قضية أخرى ترتبط يقينا بمسمى الأدب الواقعي، والذي يبدو لي لم نستطع فهمه للآن. فعندما تصدى"باختين" لتحليل أدب "ديستوفسكي" أدرك الرجل قيمة أخرى لمفهوم الواقعية يغفل عنها الكثيرون، فلقد عبر عنها بعد دراسة طويلة ومتأملة. أن الرواية على معايير الواقعية يجب النظر لها من منطلق(قد تكون وليس بالضرورة) بمعنى إنها قد تكون واقعية بصورة مطلقة، وليس بالضرورة أن تكون منتمية للواقع؛ لأن من حيَّل الخطاب السردي الإيهام بالواقعية، وبسط نفوذ ما يسمونه بالمتخيل السردي. من هنا قد تأتي صدمة المتن عند بلال فضل. فليس على ضوء ما قرأته يوجد مساحة لأي متخيل، بل هي واقعية للحد الذي لا يمكن الانفلات من صدمة تفاصيله. الصدمة التي كانت هدفا في ذاتها على حد ما وصلني منها. ولست أدري أين أنا من الصواب إذا اعتقدت أن هذه الصدمة قد تحققت  في هذه المسافة بين من شاهدها وعايشها في زمن سابق، والوقت المناسب لاستدعائها الآن لكتابتها. وقد تكون ظلال هذه الصدمة قد أتت أكلها لأن"بلال" لم يتوار في عباءة الراوي العليم، بقدر ما كان حريصا على الحكي من الداخل كشريك متضامن مع شخوصها وتفاصيلهم .   

إن حركة الأقدار التي وضعت السارد في طريق أم ميمي لم تكن تنتصر حينها لـ بلال فضل في الحقيقة، وإنما كان القدر عطوفا فعلا أن وضع أم ميمي، والتي تجلت كأروع ما يكون التجلي لسيدة قادمة من القاع فعلا، لأنها قد وجدت من يكتب عنها ذات قدر. وهذا المعنى ينفي عندي أن تكون الرواية هي إرهاصة مقصودة لأدب النميمة. فشبح السارد الذي يتسلل لي من بين تفاصيلها ينفي هذا المعنى، وخاصة أن من جملة ما يتسرب من فعل السرد، ذاك الإحساس بزوال الرغبة في التسامي والمغفرة، والتي لم تعفِ من أحد أو سعت لتجميل سقوطه. وربما هذا ما يفسر لماذا لم يستنكف السارد أن يكون جزءا من فعل الحكي تحريا لهذه المصداقية، بل وكان في كثير من الأحيان يحاكم نفسه، وبصورة تكاد تكون أعنف من محاكمة الآخر، لا لشيء، لكنه المثقف الوحيد في متن الحكاية، لذا لم يكن من السهل أن يستحضر سقوط الآخرين بمعزل عن سقوطه الشخصي.

أزعم أن غواية السرد من الداخل هي التي أوقعت بلال فضل في هذه الإشكالية. جعلته وبدون إرادة منه متورطا في لغة تبدو كنسق ينتمي لقناعاته الخاصة بصورة أو بأخرى. فلقد كان من السهل عليه أن يروي من الخارج ويسقط أحكامه وتفسيراته على الجميع. لكن حتى هذه الغواية لم تكن سوى دفاع مستتر عن لغة الرواية على المدى القريب. ودفاع عن ذاك التماهي بين الراوي وشخوص روايته؛ كي يثبت أن الجميع على اختلاف مشاربهم ضحايا للتهميش الذي ضرب بعنف بيئة الرواية وشخوصها في آن.

 إن أم ميمي كنص يثبت فعلا أن اللغة نسق ثقافي، يتحكم في تأسيسه الكثير من الروافد والتي تنبثق غالبا من طبائع المكان، ومستوى التعليم أو طقوس الطبقات الاجتماعية وما تنطوي عليه من تباين في إشكالية التعاطي مع مفردات الحياة المختلفة. فقاموس المناطق الشعبية يختلف اختلافا يكاد يكون جوهريا عن قاموس الأحياء الراقية. بل قد يلاحظ البعض أن الطبقات الموسومة بالرقي قد بدأت مؤخرا في انتخاب بعض المفردات من قاموس الطبقات الشعبية كنوع من الطرافة. لذا لا يمكن أن نحدث انفصالا عضويا بين الرافد الذي أنتج أم ميمي واللغة التي تتحدث بها. قد يقول البعض لقد كانت المفردات في مقام الكثرة. فيا ربما كان من الممكن أن تختزل ولو قليلا.

أزعم عند التعرض لهذه التهمة إنني لا أفهم ما المقصود بدوافع الاختزال أو الاقتصاد النسبي حيال المفردات التي تتسم بالابتذال. وخاصة إذا علمنا على سبيل المثال أن لغة السرد تنعطف في الأساس عند مستويين: لغة سردية وأخرى وصفية؛ أي لغة تحكي وأخرى تصف، والفرق جدا واضح بين من يتصدى للحكي والوصف. في حالة الحكي فالقائم عليه فعل الحكي هو البطل، فهذه حتما لغته التي ينقلها الكاتب بأمانة تحريا لمفهوم المصداقية كما ذكرنا. بينما في الوصف فإن السارد هنا هو المتحكم في لغته والتي تنبني أصلا على معايير ثقافته الخاصة. وشكل رؤيته حيال ما يتصدى لوصفه. وهنا قد حدث أمرين أظن أنهما قد تصارعا في وعي السارد.. وفي نهاية الصراع أحسب أن من انتصر هو بلال فضل نفسه وليست اللعبة التي يجوز توصيفها بتقنيات الكتابة.            

لا توجد مسئولية أخلاقية يمكن مراجعة شخوص الرواية على أساسها. فهذه حياتهم وما كان بلال فضل سوى موصل جيد لما يعيشونه يقينا.  وبطبيعة الحال لم يكن الرجل أضعف من أن ينتخب لغته الخاصة التي تصف حياتهم وفي صورة تبدو ظاهريا أعلى وأرقى من لغة هؤلاء عندما يتحدثون عن أنفسهم. من هنا تنشأ جدلية اللغة قبل الشروع في الكتابة. لست من أنصار الرجم بالغيب ولكني فقط أحاول تفسير ما يعتقده البعض من الكتاب عصيا على التفسير. 

في المبتدأ أزعم أن بلال فضل يكره ديكتاتورية الراوي العليم الذي يحكي من الخارج، ومن ثم يحاكم كل شخوص الرواية ويسقط عليهم أحكامه كي يتحركوا في تفاصيلهم وفق إرادته المنفردة. لذا وبديمقراطية عجيبة في الحقيقة قد نزل بخطابه السردي لخندق أم ميمي كي يستطيع أن يخلق زاوية رؤية متسقة واقعيا مع أزمتها، دون أن يقع في شرك تهويمات ساذجة تفسر مأساتها من الخارج ويبدو أنه قد سقط في غواية النسق، فظل للنهاية مخلصا لقاموسها، وقبل كل شيء مخلص للتفاعل الإيجابي مع أزمتها كونه مهمشا مثلها بنفس الدرجة، ويعاني ضياعا معينا، مع حالة عارضة من انعدام الوزن والحيرة والضبابية، التي تجعلك تشعر بطول الرواية وعرضها بأجواء ممتدة من العتمة والكثير من الارتباك.

الأمر الثاني: اعترف إنني لست مهموما بنحت مصطلحات جوفاء تفسر الأشياء، ولا أسعى لإنتاج أحكام قيمة؛ بقدر ما أحاول أن أثبت ما أراه لمن يعنيهم أمر القراءة بوجه عام. لذا أعتذر لكوني سوف أنحت مصطلحين أدين لأم ميمي بالفضل لكوني قد اهتديت لهما.

الأول: تراث الفرجة وثرائها.

الثاني: النزوع الدرامي. 

سيقول خصوم أم ميمي وهل تحقق هذان الأمران؟

وهنا سأجيب: إن موهبة بلال فضل -في ظني-  تتأسس أصلا على هذين المعنيين، فتراث الفرجة الذي أعنيه وثراء معطياتها هو من سيحيل القارئ للاعتقاد لكون أم ميمي جزءا أصيلا من سيرة ذاتية أو تكاد، حتى وإن ظهرت هنا في صورة مجتزئة لسيرة ذاتية أكبر منها. فالرواية لم تمنحنا متنا سرديا واحدا يبدو وكأنه لا ينتمي للسارد. بل أزعم أن تفاصيلها تتماس مع شخوص أظنها قد شعرت بالحرج عندما قرأتها. أما عن النزوع الدرامي فهناك من يعتقد أن الدراما لا تعني توريط السارد في مفهوم الصراع الذي هو جوهر الدراما ومحركها الأكبر. وربما هذا ما يفسر عندي لن أقول عجز كاتبها كي ينفصل واعيا عن أحداثها بقدر ما كانت تنتمي لدهشة شعوره الخاص حيال هذه الأنماط التي تقف كضد حاسم لتراث الطفولة المتدينة الحريصة على نقائه والمتمثل في رغبة الأم أن يصاحب في السكن أناسا يعرفون ربنا. إن هذه الدهشة إن لم تكن وقتها تنتمي لنزوع درامي في شخصية الكاتب فلقد خلقته ظروف السكن عند أمي ميمي في البداية، والقاهرة كظرف مكان شديد الجور على قلب طالب علم مغترب.

من علامات تعثري في رواية جيدة أن أصادف بعد قراءتها كما كبيرا من التساؤلات. ولا أدعي هنا أن ما من أحد إلا وسأل مثلا عن مزاج السخرية الذي يصبغ هذه الرواية إجمالا. فلقد كنت أضحك بهستريا في مناطق بعينها. ولم أحاول إرجاعها أصلا لما هو معروف عن كتابات صاحبها، وإنما استشعر قيمة المأساة من قيمة ما يطرح على ظلالها من سخرية. وظني أن السخرية مدينة بوجودها للأزمة ومواسمها. بل قد أذهب لمنتهى التطرف إذا اعتبرت أن هناك تناسبا طرديا بين الأزمة كحالة، والسخرية كحالة ناشئة عنها. وما كانت النكتة سوى تعبير عن سخرية من موقف ما عن طريق التركيز على مفهوم المفارقة الذي يعري لسامعها كيف تفقد الأشياء منطقها لحساب صانع الأزمة الكبير. وهنا أعني الخطاب السياسي الجائر الذي صنع أزمة السارد وأم ميمي في الوقت نفسه. أو كيف يتأسس السؤال عن الجدوى في مجتمع فاقد للحد الأدنى من المعيارية التي تحكم على الأشياء حكما منصفا أو يكاد. تتأزم فيه رؤية الناس حيال مفهوم الحلال والحرام على سبيل المثال. والأهم من ذلك أن سألت نفسي سؤالا: إذا كان الخطاب هنا اجترارا من الماضي فلماذا أثق في ذاكرة بلال فضل وهو يجتر من ماضيه هذه السيدة الإشكالية فعلا. فتذكرت أن الرجل مازال في منتصف عقده الخامس. لذا لا ريب إذا صدقت تفاصيله وصدقته.  وابتهلت في قادم الأيام أن أصادف أما أخرى تجد من يكتب عنها. لكن الطريف حقا وأنا انتهي من القراءة أن تذكرت ذلك المشهد العبقري الذي صاغه أبو السعود الأبياري في فيلم المليونير وإسماعيل يس يستمع لعلي الزرقاني وهو يقول:

هما كده.. يرتاحوا للكدب، ويتألموا من الحقيقة.

ومن بعدها ضحكة عريضة ممزوجة بالأسى والهذيان!!     

 

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...