الاثنين، 9 مايو 2022

إبراهيم عيسى.. محاولة للفهم.

 

منذ فترة ليست بالقصيرة، وأنا منشغل بهذه الظاهرة. وهل إبراهيم عيسى ظاهرة؟

في حقيقة الأمر إن الرجل يحقق في يقيني ما يشير لأزمة، لاحظتها منذ اقتربت من مجتمع المثقفين في مصر. وهي إشكالية التحصيل والتأصيل. فغالبا ما كنت أصادف من قرأ كثيرا، وهذه النوعية تمتلك شهوة الكلام؛ كي تبرز ذلك الكم الكبير من القراءات. بينما يظل التأصيل هو محاولة جادة لتحويل هذه القراءة لموقف أو اتجاه. يتبلور لما يمكن أن نسميه أيدلوجية خاصة قد تستطيع أن تعبر عن نفسها في محيط ذلك الرجل القائم بفعل التأصيل، والذي لم يعتمد على ما قرأ بقدر ما حوّل المقروء لنظرية قد تنجح في بسط معطياتها، أو كسب المتعاطفين معها. لكن تظل أزمة مراجعة هذه الأفكار، وتكرار اختبارها بين الحين والآخر مسألة أعمق بكثير من فكرة تبني الأفكار وكأنها تنطوي على قدر من القداسة. 

من هنا اعترف طوعا أو كرها أن إبراهيم عيسى كنموذج للمثقف. مؤكد قد قرأ كثيرا، ويبدو إنه قد أصَّل قراءاته، وحولها بعد جهد لموقف أيدلوجي يعبر عن قناعاته. 

 

بحسابات الظاهر من أفكار الرجل، والتي وجدت طريقها للناس عبر الوسائل المختلفة. يبدو أنه في خصومة حادة مع التراث. وفي القلب منه الإسلامي. وربما لديه اليقين أن ذلك التراث لم يعد صالحا لإدارة الراهن العربي. وربما يجب الآن أن نبحث عن أيدلوجية بديلة، ولما كنا إجمالا عاجزين عن إدراك هذه الأطروحة الجديدة في أرضنا، فلا أقل من أن نبحث عنها في حظيرة الآخر. الآخر الذي بات ينجز حضارته دون أن يتورط من قريب أو بعيد مع أي جدلية تبدأ أو تنتهي من المُقدس. ربما يدفعني هذا التصور لمغبة التصنيف دون أن أدري، فالرجل علماني أو يكاد، أو هو بالفعل مثقف ليبرالي. مؤمن بالنموذج الغربي الذي تجاوز الجدل العقيم الدائر على أرض العرب، والذي مازالت تحكمه مركبات الماضي وتداعياته. وهنا لا أملك نية المعارضة لأفكاره. إذا صدق ظني فيه كونه ليبراليا أو علمانيا. وربما فسرت الأمر على هذا النحو وخاصة زمن معارضته لمبارك. فدولة مبارك لم تمنح أي مثقف حقيقة البوصلة التي نسير عليها لإدارة الدولة. فقط تكريس للعناوين الهلامية والمصطلحات الطنانة، نؤسلم الدولة متى احتجنا لأسلمتها، ونجرِّدها من تراثها متى تورطنا في ذلك. ودون الدخول في متاهات التفسير، جاءت مقالاته على اختلاف توجهها؛ كي تثبت أن الرجل ليس متسقا مع مبارك وشكل إدارته. وهنا للمرة الثانية سأتفق معه. لكن إلى حين.

 

كان الوضع حتى يناير متكلسا بالنسبة لي. ففقدت شغف متابعة ما يكتبه. بيد أن الظرفية التاريخية التي أثمرت الثورة. دفعتني من جديد لإعادة التفكير فيه. لكن هذه المرة ليس لأنه إبراهيم عيسى المثقف الكبير؛ صاحب التحصيل والتأصيل المتميز، ولكن للرجل كنموذج للمثقف البراجماتي الذي  ظل يضاجع رؤوسنا طيلة ثلاثين عاما(حقبة مبارك) دون أن يحرك الوضع قيد أنملة. ولا يقنعني من أحد إنه كان يراهن على الناس كوقود لعملية تغيير شاملة وحاسمة. بل إن الثورة قد أدهشت المثقفين قبل أن تدهش مبارك ونظامه. وقد أتزيد هنا إذا قلت إنها أشعرت من يدعون أنهم مثقفون بشيء من الحرج. ولاسيما أن زمن مبارك قد أدرك سدنة نظامه - بذكاء لا أعرف مصدره-  معنى الانحطاط في شخصية معظم المثقفين المصرين، والذي ما كان لهم أن يقوموا بتأصيل أفكارهم في نظام سلطوي حد الصدمة، لكنهم استثمروا الوضع كي يؤسسوا وجودهم في المقام الأول، ومن ثم وتحت نفس الدوافع تم تجنيدهم لكي ينتجوا أمرين:

 تأسيس عملية خداع شاملة لوعي الجماهير. وعلى الجانب الآخر التحرش بالاتجاهات السياسية ذات التوجه الإسلامي، وإثبات عدم جدارة هذه الاتجاهات لإنتاج أيدلوجية بديلة للراهن بكل تفاصيله، والمنافية بدورها لأي توجه ليبرالي أو حتى حداثي. ولقد ساعدهم في ذلك انتشار ظاهرة الإرهاب، وسهولة ربطها بهذه التيارات. وغياب التأصيل الثقافي داخل هذه الجماعات نفسها، والتي لم تنتبه للعبة التأصيل من فرط انشغالها بالبعد الوجودي، والذي ظل مُقدما على فكرة التأصيل ذاتها. فتحولت جماعة كجماعة الإخوان لجماعة ضغط سياسي، أو للدقة "لوبي" يساوم السلطة على وجوده؛ في سبيل أن تسمح له السُلطة بالحركة دون أن تنمو هذه الحركة لتشمل محاولة الوثوب على السلطة. الغريب أن ما قيل زمن الثورة عن الاستقطاب كان موجودا قبل الثورة بسنوات، وربما بطول حقبة مبارك كلها. والذي كان زمنه هو زمن تجريد المعاني من دلالتها. فلم تكن هناك سياسة بالمعنى، ولا أحزاب، ولا قنوات شرعية للتغيير، ولا حتى الوصول لمعنى المعارضة الحقيقية؛ كي تصوب السلطة من شكل إدارتها لحياة الناس.

 

في طقس كهذا لا مكان لحلم أو ثقافة أو مشروع. فقط استثمار خطاب السلطة وتوجهاته، ومن ثم التحدث بلغة يرضى عنها النظام المؤمن بالثنائية القطبية الأشهر في حياة العرب: من ليس معي فهو بالضرورة ضدي. لكن إبراهيم عيسى في تجربة الدستور كان يبدو –ظاهريا- معارضا فعلا. فكيف يمكن ربطه بذاك التماهي مع خطاب السلطة، والرجل يقف على يسارها بمقالات أقل ما توصف به إنها صادمة ومُحرضة؟

 

لم يكن من الصعب تفسير موقف المثقفين من يناير، وبعيدا عن الدهشة من هبّة المصريين وقتها يمكن القول إن كل من ذاع صيته كمعارض لمبارك كان ينتحل المعارضة انتحالا. بل إن الركون لمعنى الصدام مع السلطة لم يكن يتناسب مع حدية الخطاب المتسم بالمعارضة. مؤكد هناك ثلة من الكتاب ظلوا يبثون خطاب الرفض عن قناعة، لكن ظلت الأغلبية منهم تمارس المعارضة كنوع من التسرية عن الشعب. أو كما سميتها معارضة المرهم الأسود، الذي يستخدم لإخراج القيح والصديد، لكنه أعجز من أن يزيل أسباب الصديد بقصد منع تكونه مستقبلا. فلا تخاريف محمد صبحي كانت معارضة، ولا منافيستوهات عادل إمام في طيور الظلام واللعب مع الكبار انتقاد مرير يتجاوز لمحاولة التغيير. والشواهد خارج الإطار المصري كثيرة وكاشفة. فلم نر دريد لحام أو أودنيس قد وقفا من بشار ما يدل على الرفض، ولو بشيء من الخجل المنضبط. قد يكون الرهان غير متحقق على زوال هذه الأنظمة، ومن هنا يصبح الرهان على الجماهير شبه منعدم. ويصبح الجوار مع السلطة هو الضامن الوحيد على الوجود الآمن. لكن حتى مع بزوغ الثورات المختلفة لم يحول المثقف بوصلة توجهاته، بل اتخذ معظمهم سياسة انتظر لترى، وكأن القصة صراع محتدم بين سلطة وجماهير، صراع لا يخص المثقف من قريب أو بعيد.

 للصدق كانت الصورة مرتبكة. فمع زوال مبارك اندفع البعض لتبني مفهوم التغيير. وظهرت الانتقادات الصارخة، والحديث عن الثروات المنهوبة وغيرها من ضلالات ذلك النظام. وبمجرد أن توقف قطار الثورة انقسم المعسكر لفريقين: فريق كبير نسبيا لم يكن يخجل من العودة للنفاق القديم، وآخرون - وهم قلة - وجدوا أن من العار أن يعودوا لمركبات خوفهم مع يقينهم إنهم سيدفعون الثمن غاليا لما يتبنونه من مواقف.

 

في صدفة قدرية التقيت بالمترجم المُهم طلعت الشايب، وكان صديقا مقربا من رجل سكندري مولعا بالسينما. لم أجد ما أتحدث به مع الرجل غير أن سألته سؤالا مؤرقا بالنسبة لي: لماذا شعرت أن كتابيه المثقفون لبول جونسون، ومن دفع للزمار كتابان ما كان لهما أن يترجما في مصر، ولاسيما أن جوهر الكتابين يصور كيف تدار علاقة المثقف بالسلطة. فالكتاب ليس لبث المعلومات بقدر ما هو فضيحة أو تكاد. ولست أدري سر الدهشة التي كست ملامح الرجل، ولا هذا الخوف الغير مبرر ساعتها. لكن كنت أستطيع الربط  يوم سمعت أن إبراهيم عيسى بصدد أن يلقي بشهادة تنفي أن مبارك قد أعطى أوامره بقتل المتظاهرين. لأن الصورة الذهنية المستقرة في ذهن الناس ستدفعهم لتصديق شهادته، فألد أعداء مبارك (ظاهريا) إن شهد شهادة في حق الرجل، فهي بلا شك موضوعية وصادقة، وهنا تذكرت ما جاء في كتاب من دفع للزمار يوم كانت أمريكا تستقطب غلاة الشيوعية كي ينتقدوا الشيوعية نفسها. لكن قبل هذا الاستقطاب كانت تمنحهم الجوائز التي تثبت أن الغرب المجابه للمفكرة الشيوعية يثمن جهدهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأيدلوجية. وهذا المعنى أكثر فاعلية من غيره إذا ما قمنا بنقد أي تجربة من الخارج، بل إن نقد الإخوان من إخواني مارق يظل أهم من نقدهم من خارج الجماعة. ومن ثم فإن يشهد إبراهيم عيسى لصالح مبارك قد تفسر  الشهادة على إنها تجرد وموضوعية. وهنا كنت أستطيع رؤية الرجل من زاوية أحسبها مهمة لتفسير مشكلته. لكن تظل أسئلة التيه الكبير في رأيي.. هل كان إبراهيم عيسى معارضا فعلا ؟؟

 

في زحام الأحداث والتفاصيل، ولأن المناخ العام في مصر فاقد للحد الأدنى من الحياء. أشيع أن تدوينات البرادعي ذات البعد السياسي عبر تويتر يكتبها له إبراهيم عيسى. وأذكر أن الأخير لم ينف هذا، بل وكان اعترافه ضمنيا يحمل معنى التسفيه للبرادعي (الواجهة) على اعتباره غير مُسيس، ولا يجيد قراءة المشهد، وربما ساذج إلى درجة.

 

اعترف إنني قد وقفت كثيرا عند هذا الاعتراف. ومن هنا كنت استثمر كتابه الذي وجدته على الشبكة، وفيه مقالاته التي كتبها في تجربة الدستور، وبدا منها إنه معارض لزمن مبارك وللأبد. ولأن الشيطان في التفاصيل كنت أبحث بشكل حصري عن مقال كان عنوانه في الجريدة يوم نُشر(ستوديو مصر). مقال صعب، أبرز فيه أن مبارك لا يحكم دولة ولكنه "بلاتوه" يلتقي فيه بممثلين أغلبهم فشلة. فلا العامل الذي يقابله في مصنع يزوره عامل، إن هو ألا مخبر، والمريض الذي يزوره في المستشفى ضابط في أمن الدولة. وجاء ختام المقال للطعن في وريثه على اعتباره ثقيل الظل، وبطانته تفتقر للسياسة، والقبول لدى الشارع.

 

انتهيت من الكتاب الذي قرأته أكثر من مرة ولم أجد المقال، بل وجدت شيطاني يعيد ترتيب الأمر. فمن يكون إبراهيم عيسى. وكما يقول الفلاسفة أريد إنتاج تعريف جامع مانع عن الرجل. واستسلمت وقتها للأسئلة الإشكالية التي تعينني أن أفتح السرداب. من دفع بمبارك أن يعفو عنه يوم كتب مقالا عن صحته وتراجعها مما يعني أن موته - ربما - سيضع البلد في مأزق البحث عن بديل؟ ومن ثم تناسلت الأسئلة. من دفعه لأن يكتب تغريدات البرادعي؛ الرجل الذي يفتقد للحس السياسي والكاريزما؟ ومن دفعه على ضوء محاكمة مبارك أن يذهب لتبرئة ساحته من تهمة قتل المتظاهرين؟ ولماذا امتدت معارضته لتشمل جمال مبارك مع تنامي الشعور باقتراب أجل أبيه؟

 

في حقيقة الأمر رغم ضبابية الرؤية، وصعوبة الفهم لم أنفر منه بقدر ما أشفقت عليه. ولم أشأ للحظة أن أراه براجماتيا قذرا، يريد بما أفاء الله عليه من ثقافة أن يدشنها للانتصار لوجوده، وما يستتبع هذا الوجود من مكاسب. رغم أن القصة ومآلاتها كانت تؤيد عندي هذه التفسيرات. وإن كنت قد أرجأت الوصول لهذه النتيجة من أجل إعادة البحث في أمره. حتى حدث هذا اليوم الذي جاد فيه خيالي ومنحني الكلمة المفتاحية التي قد تفسر لي حقيقة الرجل، وما يطمأن له قلبي كونها الحقيقة.  

 

في لقاء مع واحدة من مثقفات إسكندرية كانت ترى فيه أيقونة مهمة، وللصدق لم أنكر عليه ذلك الوصف. فهو في يقيني مثقف بالقوة والفعل. لكن في هذه الجلسة مر عليَّ هذا البيت، وكأنه إطلالة قدرية؛ كي أصل للمعنى المراد فهمه من أطروحات الرجل ودوافعها. فكان لزاما أن أعود للمتنبي في بيت من الشعر كي أفهم الحقيقة.

{ وَفُؤادي مِنَ المُلُوكِ وَإن كانَ لِساني يُرَى منَ الشّعراءِ! }

 

إن تناقضات النفس البشرية؛ هي منشئ الصورة الجدلية التي تنطق بها الشخصية؛ التي يتفق الجميع على كونها مثيرة للجدل. وتدفع بالمرء أن يتبنى مواقف إن لم تكن تعبر عن توجه فكري أصيل، فهي بالضرورة تنحت التحقق الوجودي الذي يؤسس لضوء معين تشتهيه هذه الشخصيات التي تعاني شعورا دفينا بعدم الكفاءة، والنفور المؤلم من العتمة، رغم كل ما تنطوي عليه هذه الأنماط ظاهريا من ثقافة نوعية تستطيع إنتاج الإبهار المنشود. بل قد يكون التحصيل الثقافي وشمولية المعرفة هي ستار يخفي الكثير من آيات العوار. لذا قد تسقط المعاني النبيلة والأفكار المثالية تحت ضغط الحفاظ على ذاك الضوء المبهر، والذي يحقق لهذه الأنفس معنى الانتصار على مركبات الضعف المكبوتة.

 

لم يكن الطموح المتطرف للتحقق وجوديا يستطيع ضبط علاقته بالأفكار المثالية التي من الضروري بمكان أن يتبناها أصحاب المواقف والمبادئ العليا. وأزعم أن أزمة إبراهيم عيسى هي نفسها أزمة الإخوان الذين يستطيعون وبدون تفكير أن يرجئوا أزمة الوطن لحساب قضية وجودهم. وبطبيعة الحال لا أستطيع تحديد مكمن أزمة الرجل، والتي تتحرك في موار مستعر داخل لاوعيه، والتي جعلته ينتهج ذاك النهج الغريب. هل هو الشكل أو الهيئة، أو يا ربما كان النموذج الأبوي الذي شحنه بطموحات لانهائية، ولم يكن ليغفر له فشله حيال تحقيقها، أو مارس عليه نوعا من التربية القاسية، جعلته حين وصل للاستقلالية ينتقم من كل مركبات الماضي، وما ينطوي عليه من مركبات قهر أو سلطة مجحفة حتى لو كانت هذه السلطة في الدين نفسه؟

 

إن هذه الأنماط لا تقل ديكتاتورية عن أي ديكتاتور حقيقي. تستعلي بالثقافة، وتمارس نوعا من الزعامة الروحية التي تريد بسط تصوراتها المعرفية على الآخر دون أن يراجعها، والذي يتجلى لتصوراته كنموذج صارخ للجهل الذي لا يدفع بالجهلاء إلا للإذعان. الأمر الذي يجبره أحيانا كثيرة أن يرفع صوته؛ كي يقترب من الصراخ وهو يشرح وجهة نظر تخصه. ولاسيما لو كانت الأفكار منتمية للتراث، الذي يرفضه الرجل بصورة قد تكون حدية إلى درجة تدعو للدهشة.

 

أتفق معه في كون التراث لا يمكن بأي حال تقديسه. إلا ما أتفق يقينا على كونه مقدسا. بيد أنه قد بدأ منذ فترة الضرب في جميع الاتجاهات. لكنه لم يفسر لنا. لماذا تعاطف في فترة من حياته مع الإخوان قبل أن يبث لنا هذا الرفض الذي يقترب من كونه عداء وخصومة. ولماذا يصر على الرفض، ولم يطرح في مشروع كامل وهو القادر على ذلك ليضع تصورا شاملا لحل هذه المعضلة. وفض الاشتباك بين المقدس والمُعاش يقينا على أرض الواقع من أجل استجلاء الحلول. 

 

إن الجمود المرجعي، وتكلس الخطاب، وتراجع آلية النقد الجاد والمخلص من الأمور التي لا يمكن التعاطف معها. وخاصة لو أدار المقدس الأمور إدارة خاطئة، فساعتها لن يتورط من أحد في نقد التجربة نظرا للجلال المرتبط بالأفكار المتسمة بالقداسة أو قادمة من دلالات دينية بغض النظر عن مصدرها رغم أن من يديرها بشر يجوز عليهم الخطأ. وهذه من الثوابت والقناعات التي لا تغريني بالسير خلف من يعتقد أن إبراهيم عيسى ملحد أو في خصومة واضحة مع السماء. بل أحيانا يأخذني الخيال لكون الرجل كان يريد شيئا من الدين يفوق بكثير اجتهادات إن لم تكن مغلوطة؛ فهي مبتورة وغير مكتملة. أو للدقة غير متسقة مع العالم الآن، وتفتقد يقينا للعصرنة.

 

إن الراهن العربي لا يحتاج رجال دين بقدر ما يحتاج لتحويل الدين لحياة عصرية ليست متأخرة بأي حال عن حياة الناس في حظيرة أخرى يبدو وأنها قد حسمت أمرها منذ زمن في علاقة الدين بالدولة. أو كما كنت أقولها قديما نحن لا نبشر بالإسلام؛ فالإسلام موجود بالقوة، بل نريد مسلمين. ولا يمكن وفق دواعي المنطق أن تحكمنا تصورات ماضوية كانت تحكمها ظرفية تاريخية معينة لتسيطر على راهن يختلف بالكلية عن ذلك الماضي. والذي كانت تؤثر فيه بصورة أو بأخرى حسابات قبلية وجدليات ثنائية كنا نستطيع أن نغفرها وقتها نظرا لحداثة الدين وعدم قدرته على إنهاء هذه الثنائيات بشكل حاسم. لكن الآن لم يعد يجدي أن نلتف حولها؛ لأنها تؤكد التشرذم والضياع لآماد بعيدة.

 

 إن أزمة إبراهيم عيسى لا يمكن ردها لوسم الرجل بأي وسم يتجه لمعتقده. بل هي أزمة تأصيل ثقافي واسع يحدد شكل علاقة الإنسان بالسماء وفق قواعد المصلحة، والتي ستنعكس بدورها على الصورة الحقيقية للمسلم عموما. صورة تضرب الصورة النمطية التي ترتكز على معنيين لا يمكن أن يقبلها مسلم عاقل: جاهل/ دموي. وهي صورة لا يمكن قبولها. ولا نستسلم لمثالية فكرة الجهاد ضد الأعداء قبل أن نجاهد مركبات الضعف والجهل والاضمحلال الذي تعانيه أمتنا منذ سنوات طويلة. فلا يمكن أن يكون تطور الحياة في خصومة مع الحد الأدنى من التدين، بل إن التطور إذا كان يبتغي شكل حياة الناس واتساقها مع المنجز الحضاري على المدى القريب، فإن التطور هو نضال بالدين؛ كي نقنع الآخر إننا نشاركه الكوكب ولسنا نتوءا يؤذي الصورة الكلية لشكل الحياة. وهذه إن كانت أفكار إبراهيم عيسى فأنا منطو تحت لواءه، لكن إذا كانت خصومة مدفوعة الأجر يترجمها التصور المجحف للإسلام كدين دموي، فأنا لا أنتمي لنتاج ثقافته أو تأصيلها، وإن كنت من فرط التوتر الذي يكسو صوته وملامحه وهو يستعلي علينا بأفكاره التي تسفه جهلنا أزعم أنها تبدو لي انتصارا لوجوده، وما يستتبعه هذا الوجود من منافع تغذي طموحه. على الأقل للآن. طالما لم يطرح بديلا؛ لأن حتى هذا البديل إن طرح عربيا فلن يقبل منه، وهنا مكمن الأزمة التي تدفع بالمتنبي أن يظل شاعرا في بلاط سيف الدولة يتغنى بمناقبه، وليس ملكا وشريكا في الحكم.  

     

 

الأحد، 10 أبريل 2022

حميدة عبد الله .. موت المشكل والإشكالي!

 

كان موت صابر فرج - رحمه الله - نقطة تحول في شكل علاقتي بالشاعر حميدة عبد الله. فلقد أدرك صدق حزني على رحيله، رغم ما أسفرت عنه مرحلة (شوكت) ولاسيما بعد اعترافي بأنني من صاغها، وقبلها ما صاحبها من هرطقات ساذجة، وأنفس مريضة حد الفاجعة.

 

من أقسى ملامح الأسى التي رأيتها تكسو ملامحه يوم كنت أتحدث عن شوكت الحقيقي. وخاصة حين أخبرته بمجاز الشعراء أن أخي قد مات مرتين: الأولى يوم علم بانتحار أروى صالح. والثانية: يوم مات متأثرا بجلطة في جزع المخ، بعد سنوات طويلة كان يقاوم فيها الاكتئاب ببسالة، لكنه هُزم في النهاية. ولما اختنق صوتي قام ليعمل لي شيئا أشربه، وأحسبه كان يبكي.   

 

لم تكن انطباعاتي الأولى تتجه لما يعتقده الآخرون حيال الرجل وأفكاره. وللصدق لقد كان سخيا في طرح نفسه كمثقف ليبرالي، أو حسبما ظننت وقتها فرأيته حداثيا يريد مخلصا القطيعة الحادة مع الماضي. وهنا أعني التراث في مجمله، وفي القلب منه الإسلامي على اختلاف روافده. وإن كنت لم أتورط للحظة في رؤيته كملحد. ولم أكن أتقاطع مع اتساق رؤيته حيال منجز نصر حامد أبو زيد أو سيد القمني. رغم أن أفكار الرجلين لا تمثلني يقينا.

 

إن علاقة حميدة عبد الله بالسماء لم تكن كما يتصور البعض منقطعة بأي حال، وأذكر مقولته الغريبة (أن الله هو من أجرى لي الجراحة) وأزعم إنه لم يكن يجاهر بأفكاره المتسمة بالصدامية، والتي قد يفهمها السطحيون مجافاة لمعنى الإيمان إلا لاعتقاده أنها الوسيلة المتاحة للتماهي مع مجتمع المثقفين، والذي يتبارى معظمهم في إبداء معنى الخصومة الواضحة مع السماء، لكنه حين يعود لنفسه، يعود متسقا مع ثوابت معتقده الخالية من شبهة الإنكار.     

 

لم يمنحني حميدة عبد الله ما يشير لتعاطفه مع خطاب العامية، بل وكان شديد التوجس من استخدامي لكلمة خطاب أصلا. وظل كدأب معظم الفصحاء لديه عنصرية غريبة نحو شعر العامية، ويصر بضراوة أن يصفها بالإبداع الشعبوي الذي لا ينتمي بأي حال لأي مؤسسة. الغريب ما تلا هذه الجدليات الجميلة يوم رأيته يؤسس كتابا نقديا في الشعر، والأغرب أن كان موضوعه.. الوعي الجمالي عند سيد حجاب!!

 

في حقيقة الأمر لم أندهش، فالكتاب في ظني كان ردّة فعل غاضبة بعد خروجه من لجنة الشعر، ذلك الخروج الذي أصابه بغصة كبيرة كان بارعا في إخفائها. لذا واجهته ذات لقاء وأنا أقرأ فصول الكتاب من حاسوبه إنها كتابة انتقامية تتجه للفصحاء، وربما لم تنتصر في رأيي لسيد حجاب من قريب أو بعيد. وكنت ألمح بصراحة لكونه لا يجيد قراءة العامية أو للدقة نقدها. وأعجبه يومها ما قلته على سبيل التفرقة بين الفصحى والعامية. فالفصحى شعر الرؤية، والعامية هي شعر اليقين. وللصدق لم يكن معنيا بمناكفتي وقتها، لا لشيء، ولكنه كان معجبا بشعري في صمت، ولم ينس للحظة إنني من كان يدير أكذوبة شوكت، والتي كانت مدهشة لحد كبير. رغم اعترافه أن شعراء العامية غالبا لا يجيدون التحصيل الثقافي المطلوب، والذي سينعكس بقوة على أطروحاتهم الشعرية.

 

كان حميدة عبد الله مُحدثا بارعا، وأحسبه واحدا من القلائل الذين يمكن وصفهم بالظرفاء في الوسط الأدبي السكندري. لكنه لم يكن نماما أو مغتابا أو طعانا. حتى في حق من يضمرون له مشاعر سلبية أو تكاد. كان يحترم كفاح محمود عبد الصمد الأدبي ونشاطه. لكن عند (أحمد الفلو) كنت أرى لمعان عينيه حين يتحدث عنه. فمن الواضح أنها كانت علاقة صداقة حقيقية و(الفلو) على الضفة الأخرى ظل للنهاية يضمر له محبة واحترام كبيرين. وأحسب أن الرجلين كانا يقدران بعضيهما وأن ظل رأي "حميدة" فيه كمتذوق للشعر يفوق بنسبة لا يمكن إنكارها إيمانه بـ"الفلو" كشاعر. ولقد كان محقا حسبما طالعته من جملة آراء الفلو في المرات القليلة التي جالسته فيها.

 

لم يكن حميدة عبد الله من بين ما عرفتهم يمتلك آراءً صادمة حيال الواقع وشخوصه، وإن ظل عصيا على الاستفزاز، وأزعم إنه كان يفهم الجميع، ولكنه لم يتورط يوما للدخول في صراعات مفتوحة مع أناس كنت أرى أحيانا إنه لا يحترمهم ولو في قرار نفسه. وربما لأنه يدرك إنني منقطع الصلة بالواقع الأدبي كان يسر لي ببعض من هذه الآراء التي لم تكن لتصدمني بقدر ما كانت تمنحني اليقين في المعني الذي أحبه ممن يرتاحون للجلوس معي، وهو إنني مختلف. وفي الوقت نفسه سأكون مخلصا لما سمعته، والأهم إنني أمين على ما قيل من بوح يحمل وجهة نظره للعديد من الشخوص والمواقف. لكن يوم ذهبت إليه في هذه الليلة البائسة، وكنت أبحث عن مكان أبيت فيه لحين رحيلي لشارع صلاح سالم، وصلت بنا العلاقة الإنسانية منعطفا مهما. يومها طلب مني أن أقيم في صومعته أو للدقة شقة زواجه، والتي ظل مقيما فيها بعد أن غادرت الأسرة كلها لشقة أكبر. كان الرجل مرحبا لدرجة، وكريما معي. واستثمرت الأسبوعين في مطالعة مكتبته الثرية وقرأت معظمها.

 

في هذه الأيام كان مهموما بوضع كتاب يحوي مجموعة شهادات وآراء نقدية تُكتب عن تجربة الراحل عبد العظيم ناجي. وبمرارة واضحة أخبرني بتكاسل كل من اتصل بهم لتنفيذ هذه الرغبة. لكنه تألم كثيرا عندما أتته إشارة تنصحه أن يوجه جهده في كتابة تخصه؛ فالرجل قد مات وانتهى أمره. هنا وبحركة طفولية منحني نسخة مصورة من ديوان عبد العظيم (يسقط الصمت كمدية) كي أكتب عنه.

 

 في الحقيقة لم أكن أملك ذلك الترف، لكن ثقة الرجل منحتني الوقود كي أقرأ الديوان وإمعانا في الاحتياط قلت: أنا بتاع عامية، لكن سأكتب، وعليك أن تأخذ المكتوب على محمل الانطباعات. وأذكر أن وصلت الكتابة لما يربو على العشرة آلاف كلمة وفي ثلاثة أيام على حاسوبه الخاص. كانت الصدمة الأولى التي تلقاها حين قرأت عليه عنوان القراءة والتي جاءت (من مقعد زيوس) وحين طلب مني التوضيح قلت: إن ناجي لا يهتم بنموذج، فهو من يدير تجربته اعتمادا على رؤيته الخاصة حيال موضوعات قصائده، وطرائق تركيب مجازاته، والأهم التأسيس الإبداعي المنتمي لقاموس خاص يجعل من اللغة وكأنها تخصه وحده؛ لذا هو رب القصيدة وخالقها الأوحد الذي ينأى بنفسه عن التورط في تراث قراءاته، والتي تكشف لغته كم كانت غزيرة.               

على هامش هذه الكتابة وأثناء فترة إقامتي عنده. تحدث معي عن الأربعائيون. وفي القلب منهم ذاك الثلاثي: ناجي وناصر فرغلي ومهاب نصر.

 

للصدق لا أريد هنا أن أعرج على كل ما قيل من انطباعات الرجل، لن أقول عن أعضاء جماعة أدبية كان ينتمي لها، بقدر ما كان يتحدث عن صداقة حقيقية أنتجت بدورها ذكريات كان يجترها أثناء حديثه بحب وافتقاد وتأثر. وأقول بالصدق كله:

إن عبد العظيم ناجي كان يشكل معنى الغواية عند حميدة عبد الله، والنموذج المختلف للمثقف المبهر. ورأى في حياة "ناجي" المعنى المتحقق للمدنية في مقابل حياته، التي لم تجعله يستنكف أن يصف نفسه بالقروي. بينما كان مهاب نصر يمثل له العلاقة الإشكالية على حد تعبيره، فلم ينكر للحظة إنه يحبه، وإن ظل مخلصا لمعنى الخوف عليه، والقلق المتوثب حيال أفكاره واتجاهاته، ومآلاتها. لكن عند ناصر فرغلي كان حديثه يرغمني أن أحبه رغم إنني لم ألتق به يوما. كان ناصر مرموزا للحظ السيئ عند"حميدة" الرجل الذي تجاوزته الفرص وتجاوزها. وصادف عنتا من الدنيا لم يرحمه، وهو المرهف الذي ما كان ليتحمل. بل كان يذهب بعيدا حين يعلن خوفه أن تنجح الدنيا في تدمير مركبات النبل الكامنة فيه، رغم إيمانه أن ناصر فرغلي شخصيتان. واحدة تنتصر لطهره وبراءته، والأخرى ضمير حيّ يصوب حركته. وهذا المعنى قد بلغ مني مبلغا غريبا جعلني أتذكر محمد أحمد طه. وحين أفقت من شرودي وما استدعاه حديثه عن ناصر فرغلي، أخبرني إن ناصر هو الشخص الوحيد الذي عرف قبل الجميع بموت عبد العظيم ناجي. وقياسا على ما سمعت صدمتني المعلومة. ورغم جوزائيتي العتيدة ظهرت ملامح الصدمة على وجهي بجلاء. وهنا كنت ألمس ذكائه الحاد الذي مكنه من قراءة ملامحي. فقال:

يبدو أن "ناصر" كان - في ظن من أخبره - أخلصنا لعبد العظيم.

فقلت: كلكم مخلصون للرجل، وإن كنت أرجع الأمر لحسابات المساحة. والغريب إنه قد فهم كلامي كما قصدته، وأخبرني أن كل تفاصيل "ناجي"كانت مبهرة، وربما ظل بطول التواصل فاشلا في السيطرة على بريق غبطته وهو في معيته، لذا لم ينكر أنه كان يتمنى أن يعيش في حياة تقترب من نموذج ناجي. وبكل ما تنطوي عليه كلمة نموذج من تفاصيل.

 

أدركت منذ فترة ليست بالقصيرة إن أكثر التجارب صوفية في حياة الإنسان هي تجربة المرض، وفيها يتحول الله من مجرد معنى مقدس لقوة خالصة يأتي منها يقينا الخلاص. سواء بالشفاء أو بالراحة التي تتخذ من الموت في هذه اللحظة معنى لها. لا أدعي أن حميدة عبد الله كان يظهر على سمت المريض التقليدي، بل كان راضيا جدا بالتجربة. لكنها ألقت بظلالها لما يمكن أن أسميه عملية تقييم واسعة كانت نتائجها محبطة ولاشك. في هذا الوقت كنت أبث له ما يفيد أن الزمن الآن يشبه قيام الناس للحساب، فمنهم لم يتحمل الصاعقة، ومنهم من يضطرب لفكرة السير على الصراط. الكل مشغول ولا يمكن الرهان على شيء في زمن فاقد للحد الأدنى من المعاني التي يبدو وقد اندثرت كلها. الغريب كان ينظر لي بدهشة وكأني فقط ألطف عليه مأساة الجحود. والحقيقة إن الرجل في يقيني لم يكن مشغولا بقضية التقييم قبل تجربة المرض، ولكنه على المدى المنظور من حياته وجد أن جحود الآخر مبرر تماما. لا لأنه يستحق أن يُجابه بهذا المعنى المؤلم، لكن دائرته الأدبية القريبة هي التي كانت منغلقة أو تكاد. أو ربما كان حريصا على عدم انفتاحها. لا لأنه رأسمالي عتيد على حد تعبير الروائي السكندري. الغريب إنني سمعت هذا التوصيف وقمت بتخريجه بأسلوب آخر؛ كي أجيب على سؤاله في توابع أزمة مرضه: أين الأزمة؟

 يومها قلت: لأنك ضربت نموذج الشاعر الجربوع. هنالك ضحك. وتحدثنا في أمور أخرى.

 

في بدايات المرض كان مشغولا على أحمد(أصغر أولاده) وكان يراهن على المغادرة وتركه يتيما، وهذا المعنى ظل لفترة يضغطه بشدة. وبعد أن خرج من الأزمة لم يغادر الخوف، بل ظل مشغولا بهاجس آخر، وهو توثيق تجربته كلها في إطار الأعمال الكاملة التي كانت تُطبع وقتها لأقرانه. واعتبرها كآخر ما يمكن تقديمه للذكرى.

 

أحسب أن حميدة عبد الله كإنسان وشاعر قد ترك في نفسي المعنى الذي يجعل من موته خبرا مزلزلا. كريم وشريف وحر. وأحسبه أبا رقيقا حنونا وحقيقيا كان يقتله القلق حيال أولاده، يبتهج لنجاحاتهم ويتألم حيال ما يؤثر عليهم من ظروف. وأذكر يوم الجراحة الأولى التي كنت مرافقا له فيها أن ضحكت معه ونحن نجهزه وقلت له: هذه العملية على الضيق ولن ندعو لها من أحد. فيومها لم يكن أحد يعرف كونه يجري جراحة. إشفاقا منه على أسرته والقريبين منه.

 

والآن مات حميدة عبد الله تاركا في ذاكرتي أكثر العبارات شجنا وتأثيرا أيام الثورة. فلقد كنت في ذلك اليوم كمن يصطنع كمينا للثورة والثوار. لم أكن أراهن على شيء وقتها لكنه الأمل. كنت هائما على وجهي في كل الشوارع المحتملة للخروج. ولما استبد بي اليأس اتصلت به، فوجدته بشكل قدري على مقهى "كناريا" ناحية سيدي بشر. وكنت قريبا منها فذهبت إليه. تقريبا لم نشرب قهوتنا ووجدنا الشباب يعبرون من أمام حي المنتزه، والغريب لم يفكر وقمنا لنلحق بهم. ولما فتحت الخطوة وجدته يجذبني لكي نكون في الخلف ومن ثم قال:

الجبناء أولاد الجبناء والعجائز لا يمكن أن يسرقوا من هؤلاء الشباب انتفاضتهم. من الظلم أن يسرق أمثالنا هذه اللحظة التاريخية.        

الجمعة، 1 أبريل 2022

قطايف البرنس

 

في بعض الأحيان أعتقد أن عظمة القرآن تكمن في الظرفية الزمنية التي تقرأه فيها، أو تسمع بعضا من آياته. ومن هذه النفحات..{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

 

في حقيقة الأمر كانت هذه الآية تعبر عليَّ كغيرها؛ لتصيب أثرا محدودا في نفسي. وعلى الضفة الأخرى لم أكن شاهدا على خروج أمي من الدنيا، فلقد كنت مأخوذا بغربتي. لكني سمعت ممن شاهد لحظات النهاية إنها كانت شاردة وقلقة، وأسرت لشقيقتي الكبرى بوصية أن تهتم لأمري إن عدت. وكان الشائع أن أخي المغترب مثلي كان له في قلبها مساحة أكبر من الجميع، فظنت شقيقتي في البداية أن أمي بصدد أن توصيها عليه هو، ولست أنا. وما زاد الأمور تعقيدا أن سمعتها أخت أخرى تبكي، ولم يكن هناك من سبب للبكاء، وحين سألتها لِم البكاء؟ أجابت: كلكم ستبكون إلا هو. وها أنا ذا أبكي نيابة عنه. وحين سألتها مجددا عن أخي الغائب فقالت: لا .. أنا قصدي سومة، ثم أردفت: ياه لو يعرف إني مشيت!!

 

للآن لست أدري من صنع هذه الغيبوبة التي جعلت الجميع ينصرف وهو لا يظن أن أمي تتهيأ للرحيل. ومع تقديري لاجتهادات من يقول في تفسير الآية على ضوء الظاهر من مفرداتها وسياقها: إن قلب أم موسى كان فارغا من كل شيء عدا ذكر ولدها، أو من ذهب لكون قلبها قد صار فارغا من وعد الله بعد أن أغواها الشيطان إنها قد أساءت التصرف يوم ألقت بابنها في اليم. فإني أظن ظنا يقترب من اليقين أن العامية قد فسرت لي كيف ورغم وعد الله لها - وحيا - بضمان سلامة وليدها كانت تعيش حالة رعب كاملة على مصير ولدها، وما كانت (لولا أن ربطنا) إلا للدلالة على ذاك الخوف الكبير الذي ملأ قلبها حتى بدا من فرط الفزع خاليا، فاحتاجت من لدن رب عظيم لمزيد من التثبيت. فنحن في العامية نقول عندما يتحكم فينا الرعب: قلبي وقع في رجلي.

 

مؤكد أنا لست موسى، وأمي ليست في مقام من تستقبل الوحي الذي يجعلها مطمئنة حيال أيام غربتي. لكني في كل الأحوال ومن صوت عبد الباسط  تحديدا، استشعر أين كنت - رغم غيابي عن المشهد - من قلب أمي، وهذا المعنى يقتلني متى سمعت الآية تنساب من صوت الرجل بمثل هذا الشجن المتطرف. ولأن الإنسان ابن الغفلة أذكر يوم جنازة أمي الأخرى، وأم أعز صديق لي في هذه الدنيا، والشيخ يبتهل في دعائه على شفير قبرها أذكر أن دعا لها ولولدها الذي كان وقتها يعيش في كرب جدا عظيم. وكأنه يسرب من خلال ذاك الدعاء ما يشير للظلم الذي حاق بولدها في محنته، ولقلب الأم التي رحلت، ولم تكتحل عيناها برؤية أكبر أبنائها؛ حتى كاد قلبها أن يكون فارغا بنفس الدرجة.                 

الأحد، 13 فبراير 2022

أم ميمي.. أزمة القراءة البريئة !!

 

غالبا لا أحب قراءة الأدب بأحكام مُسبقة، أو إنتاج أحكام قيمة، تأخذ منحى أخلاقيا أثناء القراءة. بل قد أذهب طوعا لقيمة المتن، بغض النظر عن القالب اللغوي الذي صيغت من خلاله تفاصيله. لذا اندهش أحيانا ممن يتهمون لغة الرواية- أي رواية- بأنها مبتذلة، على ضوء ما ورد فيها من مفردات وسياقات ومجازات. ولأني مازلت مؤمنا بمقولة "رولان بارت" الخالدة {لا توجد قراءة بريئة للأدب} سأحاول هنا الانسلال فيما وراء أم ميمي؛ كي أثبت أن النص رغم كل ما ينطوي عليه مما يعتقده فريق من القراء إنه بذيء لم يفقد كونه أدبا، لانتقل لمحنة النقد أو محنة الذائقة حين تتصدى لقراءة رواية جاءت على هذا النحو.   

في حقيقة الأمر لا أرى في النص معنى البذاءة رغم كثرة الشواهد(ظاهريا) والتي أنتجت بدورها حالة الصدمة حيال لغته. بل أرى أن من الموضوعية بمكان أن أسأل الخطاب السردي سؤالا افتراضيا مفاده. هل هي بذاءة منتحلة أو أصيلة تتسق بدورها مع طبيعة شخوص الرواية القائم عليهم فعل السرد نفسه. ولاسيما أن شبح بلال فضل السيناريست كانت تزاحم ولو في اللاوعي شخصية الرجل كسارد لأحداث روايته. والتي أنتجت بدورها حوارا؛ هو بالضرورة حوار الشخصيات في الظرفية الزمنية والمكانية كإطارين شرعيين للحكاية. وهنا ودون تجاوز مني لا أدعي أن الرجل كان يحتاط مبدئيا وهو يدرك يقينا أن موضوع روايته هو قاع المجتمع. أو ما يسمونه أحيانا في الخطاب النقدي اللزج بالواقع السفلي للحياة. واقع لا يمكن أن نتعامى عنه أو نتطرف في إنكاره. وهنا قد أسمع من يقول: إن الأدب يسعى في واحدة من وظائفه لإدراك الرقي. وبدوري لن أطعن في هذه المقولة، ولكن تبقى إشكالية أم ميمي إنها ستفجر سؤالا أكبر من ذلك المعنى في زعمي وهو. إلى أي مدى يمكن الحكم على مصداقية المتن الروائي؟

قبل الإجابة عن ذلك السؤال سأحيل من يقرأ هذه السطور لنماذج ثلاثة أحسبني قد قرأت لها مرارا، وبلغ أثرها في ذائقتي مبلغا مُهما. أبو نواس في شعره الماجن والذي اعتبره - رأي شخصي-  أكثر بلاغة وأثرا من كل ما كتبه الرجل. وكان فيه من الجماليات الفنية عناصر إبهار متحققة بقوة. بل وكنت أرى صدقا يجب التوقف عنده؛ لأنه يكتب عن المسكوت عنه من بغداد التي كانت رمزا آنذاك للعلم والزهد، هو بالفعل لم ينكر عليها عظمتها، لكنه كان أكثر جسارة من غيره في الكشف عن الجزء المخفي من حياة الناس وقتها. لكنه في كل الأحوال لم يفقد شعوره الفني وهو يتماس مع هذه المساخر التي عاشها وهو يقينا لم يخترعها. وهناك الشاعر الفرنسي "رامبو" وقصائده المهمة التي كانت تعبر عن شغف "فيرلين" به، في علاقة بوهيمية لم تكن تفاصيلها بخافية على معاصريه. ناهيك عن نصوصه الأخرى التي كانت تطعن في كل القيم الجمالية التي أنتجتها الحضارة الأوربية؛ كي يثبت أن هذه الحضارة قد اغتالت الإنسان وهي في طريقها لإنجاز ما تدعيه من أشكال التحضر. وأتوقف أخيرا عند الخبز الحافي لمحمد شكري الروائي المغربي، وخاصة الجزء الذي يغطي طفولته سردا، وما ينطوي عليه من تفاصيل قد تدعو للغثيان. ومع كل هذا لم يستطع منتقدوه أن ينفوا جسارته وجرأته كي يحكي عن طفولة بهذا القدر من البؤس، ولا تخلو بدورها من متون سردية هي أقرب للفضيحة.  

لا أريد أن يفهم من حديثي إنني أدافع عن الرواية، فلقد قرأتها وأنا أغبط كاتبها على هذا القدر الكبير من الجرأة وعدم استسلامه للنموذج الذي يستنكف أن يعري الحقيقة بهذا القدر من الوضوح. لكن إشكالية المصداقية في متن سردي هذه سماته تظل هي المشكلة الأصعب. لأن النقاد الكلاسيكيين يبنون رؤيتهم غالبا على الاتساق العضوي بين الزمان والمكان من جهة، ولغة شخوصه من جهة أخرى؛ لذا فلنجب على السؤال بسؤال له وجاهته هنا.. ما اللغة التي كان من الضروري أن يتحدث بها ميمي أو أمه في إطار المشهدية المفصلة التي صاغها بلال فضل لروايته؟

إن إنكار الواقع السفلي أو قاع المجتمع لا يعني زواله. بل إن يقين المسئولية الأدبية إذا جاز التعبير هو من يعطي هذه الكتابة مشروعيتها. فمن سيتصدى للكتابة عن أم ميمي إذن، إذا ظل هاجس اللغة الرصينة هو من يجهض هذه المحاولات؟

إن التكلس الذي أصاب الخطاب النقدي يبدو لي هنا وقد انعكس بدوره على ذائقة القراء أصحاب التوجهات البريئة في تقييم الأدب. بل كان من الضروري أن نبحث في قضية أخرى ترتبط يقينا بمسمى الأدب الواقعي، والذي يبدو لي لم نستطع فهمه للآن. فعندما تصدى"باختين" لتحليل أدب "ديستوفسكي" أدرك الرجل قيمة أخرى لمفهوم الواقعية يغفل عنها الكثيرون، فلقد عبر عنها بعد دراسة طويلة ومتأملة. أن الرواية على معايير الواقعية يجب النظر لها من منطلق(قد تكون وليس بالضرورة) بمعنى إنها قد تكون واقعية بصورة مطلقة، وليس بالضرورة أن تكون منتمية للواقع؛ لأن من حيَّل الخطاب السردي الإيهام بالواقعية، وبسط نفوذ ما يسمونه بالمتخيل السردي. من هنا قد تأتي صدمة المتن عند بلال فضل. فليس على ضوء ما قرأته يوجد مساحة لأي متخيل، بل هي واقعية للحد الذي لا يمكن الانفلات من صدمة تفاصيله. الصدمة التي كانت هدفا في ذاتها على حد ما وصلني منها. ولست أدري أين أنا من الصواب إذا اعتقدت أن هذه الصدمة قد تحققت  في هذه المسافة بين من شاهدها وعايشها في زمن سابق، والوقت المناسب لاستدعائها الآن لكتابتها. وقد تكون ظلال هذه الصدمة قد أتت أكلها لأن"بلال" لم يتوار في عباءة الراوي العليم، بقدر ما كان حريصا على الحكي من الداخل كشريك متضامن مع شخوصها وتفاصيلهم .   

إن حركة الأقدار التي وضعت السارد في طريق أم ميمي لم تكن تنتصر حينها لـ بلال فضل في الحقيقة، وإنما كان القدر عطوفا فعلا أن وضع أم ميمي، والتي تجلت كأروع ما يكون التجلي لسيدة قادمة من القاع فعلا، لأنها قد وجدت من يكتب عنها ذات قدر. وهذا المعنى ينفي عندي أن تكون الرواية هي إرهاصة مقصودة لأدب النميمة. فشبح السارد الذي يتسلل لي من بين تفاصيلها ينفي هذا المعنى، وخاصة أن من جملة ما يتسرب من فعل السرد، ذاك الإحساس بزوال الرغبة في التسامي والمغفرة، والتي لم تعفِ من أحد أو سعت لتجميل سقوطه. وربما هذا ما يفسر لماذا لم يستنكف السارد أن يكون جزءا من فعل الحكي تحريا لهذه المصداقية، بل وكان في كثير من الأحيان يحاكم نفسه، وبصورة تكاد تكون أعنف من محاكمة الآخر، لا لشيء، لكنه المثقف الوحيد في متن الحكاية، لذا لم يكن من السهل أن يستحضر سقوط الآخرين بمعزل عن سقوطه الشخصي.

أزعم أن غواية السرد من الداخل هي التي أوقعت بلال فضل في هذه الإشكالية. جعلته وبدون إرادة منه متورطا في لغة تبدو كنسق ينتمي لقناعاته الخاصة بصورة أو بأخرى. فلقد كان من السهل عليه أن يروي من الخارج ويسقط أحكامه وتفسيراته على الجميع. لكن حتى هذه الغواية لم تكن سوى دفاع مستتر عن لغة الرواية على المدى القريب. ودفاع عن ذاك التماهي بين الراوي وشخوص روايته؛ كي يثبت أن الجميع على اختلاف مشاربهم ضحايا للتهميش الذي ضرب بعنف بيئة الرواية وشخوصها في آن.

 إن أم ميمي كنص يثبت فعلا أن اللغة نسق ثقافي، يتحكم في تأسيسه الكثير من الروافد والتي تنبثق غالبا من طبائع المكان، ومستوى التعليم أو طقوس الطبقات الاجتماعية وما تنطوي عليه من تباين في إشكالية التعاطي مع مفردات الحياة المختلفة. فقاموس المناطق الشعبية يختلف اختلافا يكاد يكون جوهريا عن قاموس الأحياء الراقية. بل قد يلاحظ البعض أن الطبقات الموسومة بالرقي قد بدأت مؤخرا في انتخاب بعض المفردات من قاموس الطبقات الشعبية كنوع من الطرافة. لذا لا يمكن أن نحدث انفصالا عضويا بين الرافد الذي أنتج أم ميمي واللغة التي تتحدث بها. قد يقول البعض لقد كانت المفردات في مقام الكثرة. فيا ربما كان من الممكن أن تختزل ولو قليلا.

أزعم عند التعرض لهذه التهمة إنني لا أفهم ما المقصود بدوافع الاختزال أو الاقتصاد النسبي حيال المفردات التي تتسم بالابتذال. وخاصة إذا علمنا على سبيل المثال أن لغة السرد تنعطف في الأساس عند مستويين: لغة سردية وأخرى وصفية؛ أي لغة تحكي وأخرى تصف، والفرق جدا واضح بين من يتصدى للحكي والوصف. في حالة الحكي فالقائم عليه فعل الحكي هو البطل، فهذه حتما لغته التي ينقلها الكاتب بأمانة تحريا لمفهوم المصداقية كما ذكرنا. بينما في الوصف فإن السارد هنا هو المتحكم في لغته والتي تنبني أصلا على معايير ثقافته الخاصة. وشكل رؤيته حيال ما يتصدى لوصفه. وهنا قد حدث أمرين أظن أنهما قد تصارعا في وعي السارد.. وفي نهاية الصراع أحسب أن من انتصر هو بلال فضل نفسه وليست اللعبة التي يجوز توصيفها بتقنيات الكتابة.            

لا توجد مسئولية أخلاقية يمكن مراجعة شخوص الرواية على أساسها. فهذه حياتهم وما كان بلال فضل سوى موصل جيد لما يعيشونه يقينا.  وبطبيعة الحال لم يكن الرجل أضعف من أن ينتخب لغته الخاصة التي تصف حياتهم وفي صورة تبدو ظاهريا أعلى وأرقى من لغة هؤلاء عندما يتحدثون عن أنفسهم. من هنا تنشأ جدلية اللغة قبل الشروع في الكتابة. لست من أنصار الرجم بالغيب ولكني فقط أحاول تفسير ما يعتقده البعض من الكتاب عصيا على التفسير. 

في المبتدأ أزعم أن بلال فضل يكره ديكتاتورية الراوي العليم الذي يحكي من الخارج، ومن ثم يحاكم كل شخوص الرواية ويسقط عليهم أحكامه كي يتحركوا في تفاصيلهم وفق إرادته المنفردة. لذا وبديمقراطية عجيبة في الحقيقة قد نزل بخطابه السردي لخندق أم ميمي كي يستطيع أن يخلق زاوية رؤية متسقة واقعيا مع أزمتها، دون أن يقع في شرك تهويمات ساذجة تفسر مأساتها من الخارج ويبدو أنه قد سقط في غواية النسق، فظل للنهاية مخلصا لقاموسها، وقبل كل شيء مخلص للتفاعل الإيجابي مع أزمتها كونه مهمشا مثلها بنفس الدرجة، ويعاني ضياعا معينا، مع حالة عارضة من انعدام الوزن والحيرة والضبابية، التي تجعلك تشعر بطول الرواية وعرضها بأجواء ممتدة من العتمة والكثير من الارتباك.

الأمر الثاني: اعترف إنني لست مهموما بنحت مصطلحات جوفاء تفسر الأشياء، ولا أسعى لإنتاج أحكام قيمة؛ بقدر ما أحاول أن أثبت ما أراه لمن يعنيهم أمر القراءة بوجه عام. لذا أعتذر لكوني سوف أنحت مصطلحين أدين لأم ميمي بالفضل لكوني قد اهتديت لهما.

الأول: تراث الفرجة وثرائها.

الثاني: النزوع الدرامي. 

سيقول خصوم أم ميمي وهل تحقق هذان الأمران؟

وهنا سأجيب: إن موهبة بلال فضل -في ظني-  تتأسس أصلا على هذين المعنيين، فتراث الفرجة الذي أعنيه وثراء معطياتها هو من سيحيل القارئ للاعتقاد لكون أم ميمي جزءا أصيلا من سيرة ذاتية أو تكاد، حتى وإن ظهرت هنا في صورة مجتزئة لسيرة ذاتية أكبر منها. فالرواية لم تمنحنا متنا سرديا واحدا يبدو وكأنه لا ينتمي للسارد. بل أزعم أن تفاصيلها تتماس مع شخوص أظنها قد شعرت بالحرج عندما قرأتها. أما عن النزوع الدرامي فهناك من يعتقد أن الدراما لا تعني توريط السارد في مفهوم الصراع الذي هو جوهر الدراما ومحركها الأكبر. وربما هذا ما يفسر عندي لن أقول عجز كاتبها كي ينفصل واعيا عن أحداثها بقدر ما كانت تنتمي لدهشة شعوره الخاص حيال هذه الأنماط التي تقف كضد حاسم لتراث الطفولة المتدينة الحريصة على نقائه والمتمثل في رغبة الأم أن يصاحب في السكن أناسا يعرفون ربنا. إن هذه الدهشة إن لم تكن وقتها تنتمي لنزوع درامي في شخصية الكاتب فلقد خلقته ظروف السكن عند أمي ميمي في البداية، والقاهرة كظرف مكان شديد الجور على قلب طالب علم مغترب.

من علامات تعثري في رواية جيدة أن أصادف بعد قراءتها كما كبيرا من التساؤلات. ولا أدعي هنا أن ما من أحد إلا وسأل مثلا عن مزاج السخرية الذي يصبغ هذه الرواية إجمالا. فلقد كنت أضحك بهستريا في مناطق بعينها. ولم أحاول إرجاعها أصلا لما هو معروف عن كتابات صاحبها، وإنما استشعر قيمة المأساة من قيمة ما يطرح على ظلالها من سخرية. وظني أن السخرية مدينة بوجودها للأزمة ومواسمها. بل قد أذهب لمنتهى التطرف إذا اعتبرت أن هناك تناسبا طرديا بين الأزمة كحالة، والسخرية كحالة ناشئة عنها. وما كانت النكتة سوى تعبير عن سخرية من موقف ما عن طريق التركيز على مفهوم المفارقة الذي يعري لسامعها كيف تفقد الأشياء منطقها لحساب صانع الأزمة الكبير. وهنا أعني الخطاب السياسي الجائر الذي صنع أزمة السارد وأم ميمي في الوقت نفسه. أو كيف يتأسس السؤال عن الجدوى في مجتمع فاقد للحد الأدنى من المعيارية التي تحكم على الأشياء حكما منصفا أو يكاد. تتأزم فيه رؤية الناس حيال مفهوم الحلال والحرام على سبيل المثال. والأهم من ذلك أن سألت نفسي سؤالا: إذا كان الخطاب هنا اجترارا من الماضي فلماذا أثق في ذاكرة بلال فضل وهو يجتر من ماضيه هذه السيدة الإشكالية فعلا. فتذكرت أن الرجل مازال في منتصف عقده الخامس. لذا لا ريب إذا صدقت تفاصيله وصدقته.  وابتهلت في قادم الأيام أن أصادف أما أخرى تجد من يكتب عنها. لكن الطريف حقا وأنا انتهي من القراءة أن تذكرت ذلك المشهد العبقري الذي صاغه أبو السعود الأبياري في فيلم المليونير وإسماعيل يس يستمع لعلي الزرقاني وهو يقول:

هما كده.. يرتاحوا للكدب، ويتألموا من الحقيقة.

ومن بعدها ضحكة عريضة ممزوجة بالأسى والهذيان!!     

 

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...