الثلاثاء، 26 مايو 2015

لكم الشعر .. وللطحان رب يحميه!!

لا أدعي أن "حازم حسين" طاعن في العمر؛ كي تكون أحكامه حيال نص شعري هي تجسيد لصراع أجيال. ومن يذهب لهذا الظن مؤكد لا يعرف الرجل. فلن أتحدث هنا عن شاعريته وموهبته. بل، سأذكر أهم ما لمسته من حرص بالغ أن يأتي بالعامية المختلفة. ربما نتشابه في كثير ونختلف فيما هو أكثر،  لكن يجمعنا –بيقين- غيرتنا على العامية والتي تواجه آفة الزحام المعوِّق، وغياب مظلة نقدية تضع العامية الحقيقية في مكانها. ومن الموضوعية بمكان أن أعترف هنا إنني أكثر سلبية، هو صارع من أجل أن ينتصر لهذه العامية في ثوبها المختلف، وكنت أنا منسحبا يائسا.

 في حقيقة الأمر قلت: إن نص (زينب) هو أهم نص ظهر في الربع أو الثلث الأول من هذا العام. والغريب لم أصادف تعليقا واحدا يسألني لماذا هو مهم؟ وكأن (الفيس بوك) على ما يبدو غير معني بطرح هذه الأسئلة التي تنتج سجالا تحتاجه العامية. على الجانب الآخر قلت مرارا إنني لست مرجعية لأحد. وتظل آرائي كلها انتصارا للعامية حسبما أرى.

سأورد هنا حديثا لا أذكر إن كنت سمعته أو قرأته. سئل يوما رياض السنباطي هذا الموسيقي البارع. فيما تفكر وأنت تلحن لأم كلثوم؟ فقال:
أفكر في ثلاثة أمور: صوتها العبقري، وإمتاع الناس، وأقراني من الموسيقيين حين يسألون ما الجديد الذي جئت به في هذا اللحن.

لذا على هامش لقاء المنصورة مع الشاعر الطحان نفسه قلت: أن (زينب) عندي ما بين 12 إلى 14 متن شعري هم من يؤسسون للرجل كشاعر بالقوة والفعل. متون اعتمدت على مفارقات تصويرية ولغوية شديدة الإبهار والمفارقة، وقارئ العامية المتمرس يستطيع أن يلمس هذه المتون دون إي جهد. وباقي النص استلهم قوته من كاريزما الطحان، ومصداقية الحالة الشعرية نفسها. والتي بدت حتى من طريقة إلقاء الرجل، والتي بدت شجية وحزينة.
هو نص مهم، لكننا تعلمنا بحكم السن والخبرة وطول النظر أن هناك ثمة فرقا بين النص المهم والنص العظيم. وأزعم وليس المجال هنا للتفسير أن النص المهم ينتج شعرا، بينما النص العظيم ينتج بلاغة الأثر الذي يظل يتصاعد في كل مرة يُقرأ فيها.

قلت وعندي من الشهود الكثير على هذا الكلام: إذا احترم الطحان العامية وكان معنيا بتأسيس فرادته، وتخلى طوعا عن مزاج الكتابة لانتزاع آهات الجماهير، أو تقنيات الزجل القديم الذي يؤسس كتابة أقرب للريبورتاج؛ فإن أحمد الطحان سيحفر أسمه عميقا في هذا الجيل. رغم ما أراه من سيولة تجعلني متحفظا قليلا حيال هذا التقسيم للأجيال.

لا توجد خصومة لي مع أي شاعر عامية أيا كان هو، ولا أنافسهم، لا عن تواضع مني، وإنما لثقتي وإيماني إنني لست شاعرا أصلا. أو للدقة لستُ موجودا. لكني خصم عتيد لكل التجارب الشعرية المجانية التي تخرج بلا دم صاحبها وروحه وعذاباته. وأزعم أن الشاعر والصديق حازم حسين كما عرفته هو أيضا ليس في خصومة مع هؤلاء الذين عبر على أسمائهم. بيد أنه في خصومة مع الطقس كله التي تعرض فيه نصوص بطعم اللاشيء، أو طقس الشللية والذي هو يقينا ليس بجديد على واقعنا الأدبي، بل إن حازم نفسه قد يكون واحدا من ضحاياه.

ربما لن تسعفني فرصة تكرار هذا الحديث، ولاسيما إنني ممن يمقتون مسألة العراك الأدبي المجاني على الدرجة نفسها.
" إن كتابة العامية التي ترضيك أوردني المهالك" كانت هذه عبارة "عمرو حسن" التي قالها لي في ليلة من ليالي القاهرة، وفي حضور شعراء سكندريين وقاهريين على السواء. ولقد احترمت الرجل وصراحته. إذن هو يؤسس لوجوده، في هذه المرحلة على الأقل. لكن أشهد للرجل بشاعرية قد تطول النجوم إذا أراد.

أخي الحبيب حازم وأنت واحدٌ ممن يدركون حالة السيولة التي نحياها. إن ما يحدث في حظيرة العامية هو التواطؤ بعينه.
إن السؤال عن الجماهير في خطاب الفصحى والذي جعلنا نرى منجزها الآن مثيرا للشفقة لا يدفعنا مطلقا لأن نكتب العامية فوق مستوى الجماهير، وإن كنت مدركا إنك تريد عامية للجماهير، لا تقصد الاتساق معهم، بقدر ما تريد الصعود بهم. لكن يظل السؤال من منّا يمتلك جسارة أن يصنع هذا الطقس. ونحن إلى الآن نصارع المؤسسة الرسمية التي ترى العامية شعرا شعبيا فلكلوريا لا يستحق أي احترام.


من منّا يستطيع أن يعطي مقاليد الريادة لتجربتين منفلتتين من عامية الرواد واحدة صاغها حاتم مرعي(قبل ديوانه الأخير بالطبع)  والأخرى حمدي عبد العزيز – مع حفظ الألقاب للرجلين-
من منّا تصدى لتقييم إرهاصة" إبراهيم رضوان" أو الراحل الكبير محمد عبد المعطي، أو عبد الناصر حجازي- متع الله الأحياء منهم بالصحة-  كي يعرف القادمين خلفهم ما الذي أصطنعه هؤلاء لخطاب العامية. من منّا يمتلك جسارة تعرية العادي والنمطي أو يحاكم الردّة الزجلية التي ارتدها شعراء كنا نحسبهم معنيين بتطوير القصيدة العامية.

إن أزمة الوجود والتواجد في هذا الزحام، لا تعني بالضرورة أنها المعبرة عن قضية كبرى تعتمل في يقين الشاعر المعني- أصلا-  بإنتاج موقف محدد من العالم. المسافة بعيدة جدا. ومناخ الاستهلاك أمتد رغما عنك وعني حتى طال الشعر نفسه. لذا يظل المشهد عبثيا مهما تطرف حرصنا للانتصار للعامية المرتجاة. كل من تراهن عليهم انتهوا تقريبا. تبخروا تحت سقف الضرورة. بل قد أطرح عليك هنا سؤالا. لا أجد إجابة له.. ما سر ارتباط توقف الإبداع باللحاق بقطار المؤسسة الثقافية؟

إن نص "زينب" قد يكون حجر زاوية للحديث عن العامية إجمالا، لكنه – للأسف- قد أضاء مرحلة من أسوأ مراحل العامية. فمن السهل أن يبدي حازم حسين امتعاضا مستحقا حيال المشهد. لكن لن يجد في حياته متسعا من الوقت كي ينتصر للعامية المنفلتة والمختلفة والتي صارع جل عمره من أجلها. صراعا ربما خلق خلافات حدية أحيانا مع شعراء لم يكن بينه وبينهم غير الأخوة والإنسانية العميقة.
ربما استطعت في قادم الأيام أن أكتب شيئا حيال هذه الأزمة مع الاعتراف بضيق الوقت والرزق. لكن أدعوكم فقط أن تختلفوا مع حازم حسين بأدب، وأن تنتصروا للطحان من شعره وليس لأنه صديق رائع، وإنسان نادر.    

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...