الجمعة، 8 مايو 2015

العامية بطعم محمد هلال

صبار الفطام
العامية بطعم محمد هلال
(1)
صبار الفطام ديوان تم التنازل عنه، وخرج من يقين صاحبه لدوائرنا؛ كي نلاقي ما نسمعه عادة من مصطلحات عن المنجز والمشروع وغيرها من مقولات. لا أرفضها يقينا، وإن كنت هنا أحسبه منتجا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فمنتج العامية لا يخضع للقولبة أو القصدية، أو كل ما يمكن أن يغتال الحدوس الشعرية المنفلتة -غالبا- تحت زعم التصنيف والمحدودية. وأزعم أن بعض من حاولوا تأسيس خطا لديوانهم، غالبا ما وقعوا في مغبة الاجترار، أو صدَّروا ثبات الهدف في أطروحات لا ينقصها الملل. إذن لنتفق أن ما نطالعه اليوم هو منتج "محمد هلال" الشعري.الذي يمنحنا النظر لمواجيده، وكأنها نتاج حالة من تضافر مواد خام، صياغة وصناعة وتجويد ومراجعة؛ كي نصل للمتن المراد النظر إليه بغرض تحليله.

هل من المفيد أن نبدأ من العنوان ونحلله، أم نلج للمتن الشعري؛ كي نبرره. إن قيمة العناوين المراوغة وكثافة حمولتها، أنها تدفعنا لتلمس ما يكشف عبقرية اختزاليتها من المتون الشعرية، بمعنى أن يكون النص واحدا من التخريجات الدلالية لهذا العنوان، ومن ثم، وفي تفسير معكوس نعيد إسقاط العنوان كقيمة اختزالية ونصية، ونذهب معه في، لن أقول تفسير النصوص المنضوية تحت لواءه، وإنما التماس الإشارة التي أودعها العنوان في متن النص والمجموعة إجمالا.

لم يفقد العنوان هنا غوايته رغم استحضاره من موروث العامية العميق، ولم يفقد كذلك قدرته على التحريض، بما يملكه من إشارات، وقيم دلالية ربما أكثر مراوغة من العنوان نفسه كبنية نصية، منتمية للتراث الشعبي بامتياز.
ربما تتفانى الذائقة، وهي تتعاطى مع العنوان. فالصبّار وإشارته لعملية الفطام، تعني في التفسير الأقرب إقامة الحد الفاصل بين الرضاع، ومرحلة أخرى، تقترب من الاعتماد على النفس، يتنامى معها الإحساس بالبعد النسبي عن صدر الأم.
فهل الديوان -هنا- مرحلة ما بعد الأم. وما ينتج عنها من مواجهة العالم بدون هذه الحميمية، الأمر الذي يؤسس بدوره الاختلاف بين هذا الحضن وسواه. مما يفسر ذلك الحنين الفطري لمذاق هذا القرب، مهما تطاولت الأعمار.

يا ربما نقرأ على ضوء هذا التفسير متونا شعرية بطعم الاغتراب، أو بالأحرى الافتقاد لشيء ما ولاسيما الماضي. إن الصبّار وما يحيله من شعور بالمرارة، يبرر عند أصحاب القراءات البريئة هذا الفاصل كنهاية لمرحلة، بيد أن من الإنصاف إحالة الصبار على مواجيد الشاعرية، لا كمجرد فاصل، وإنما اقتحام مركبات الحميمية بمرارٍ طاعن ولافت.

تتجلى تداعيات أخرى لهذا العنوان تؤسس لمراواغاته الممكنة، بداية بمن وضع الصبار؛ كي ينهى ما اعتقدته الشاعرية أنه الأفضل، ومرورا بسؤال مستحق.. هل الذات كانت مهيأة لإنجاز تحولها للاعتماد على نفسها يقينا، وبالضرورة مُشكل التوقيت. وهل كل اللاحق لهذا الفاصل الذي أسس له الصبار مرير بالكلية، وهل لسان حال الشاعرية يصرخ فينا: ألم يكن من الأجدى الانتظار ولو قليلا؛ كي نستحق الفطام، ويكون العالم بدوره مهيئا لاستقبال مأزومين جدد.
 
في حقيقة الأمر جاء الديوان؛ كي يمنح هذه الأسئلة الافتراضية الكثير من المشروعية، في كتابة تشبه حجرا أُلقي في بركة ماء، فأنتج دوائر لا نهائية من الأزمة. تتنوع انطلاقا من الداخل إلى الخارج وبالعكس. فلا المرارات انتهت، ولا الفطام كان مجديا، والعالم على موقفه العدائي من هذه الأرواح. مع توفر مواجيد شفيفة تريد مخلصة  العودة لما قبل اقتحام الصبار لهذا الكيان، كي تنتزعه من حضن أخلص وأطهر فترة زمنية عاشها. أو تؤسس لكتابة لا تبتغي التطهر والبوح، بقدر ما تريد العودة لطفولة اغتالتها مركبات المرحلة. لاشك وضعنا العنوان في بؤرة الحالة الشعرية المأزومة بطبيعتها. بتقاطعاتها ما بين اغتراب وغربة وفقد وحيرة، واستشعار حالة من الضعف حيال جور واقع لا يرحم، وأسس تشكلات التجربة، والرؤية ومحدداتها.
(2)
لا أريد التورط في أحكام قيمة ربما لا تتحملها هذه القراءة المتعجلة، لكن من الضروري الإشارة لقناعة خاصة إلى درجة أن العامية كتابة يقين، تمثل عندي ذلك المنحنى الصفري لتماهي الكتابة مع طرائق التفكير. فالشاهد أننا نفكر بالعامية ونكتب بها. اليقين هنا لا يعني طبيعة الالتصاق بالمجتمع ودرجات القرب من مشاكله، وإنما يعني بلوَّرة قيمتين على درجة كبيرة من الوضوح في القصيدة العامية: الحقيقة الاجتماعية في بُعديها الدرامي والتفاعلي. كذلك حضور الجانب الحكائي الذي يبلور بدوره دراميتها. هكذا إذن ظل معنا - مهما احتدم التطوير- الزجل المعني بالحقائق الاجتماعية وأزماتها، مما أنتج إلى حد بعيد نصوصا بطعم الريبورتاج الذي يغطي أزمة الإنسان/ المجتمع. وتجلت معه القصيدة في صورة القصة القصيرة التي صاغها قاص متهور. ينتخب أفكاره من تقاطعات الحالة من جهة، وضغط الواقع من جهة أخرى.

تلاعبني ع المشاريب
ولا على بكره؟
بكره يادوبك طقم شاي ميزو
اتنين جنيه قافل عليهم سُستة امبارح
والزهر بارد
برودة الفتارين على الفقرا

 لم يؤسس "محمد هلال" لكتابة اليقين وحسب، وإنما حقق ما اعتقدته يوما من عبثية البحث عن الهم الخاص في القصيدة العامية، والتي مهما تمركزت نصوصها حول كل ما يشير للذاتية، تظل قادرة دوما على التماس مع العام؛ بسلاسة مدهشة. خصيصة ربما تستحوذ عليها العامية بصور أكبر من مثيلاتها من الألوان الأدبية الأخرى.
إننا مع الرجل نقرأ الواقع بلا حجب، حتى إذا لم تحضر ذاته أو حال حضورها في الآخر المعني بهذا الحوار، والأفكار المُشعرة التي تؤسس لعناصر أزمتها. هنا تتقاطع لن أقول الأزمة في عموم تجلياتها، والمتحققة في كونشرتو من الوجع والأحلام المجهضة أو المبتورة، الحيرة والتوجس من مستقبل لا يحمل غواية انتظاره. بل قد نذهب لملاقاة نصوص تعكس أزمة قرار، تعرَّض لهزيمة الوقت، أو معطيات اتخاذه. وأزعم أن ذوات تستطيع أن تتبين أزمتها بهذا الوضوح، ما كان لها أن تغادر هذا الإيقاع الذي يشبه ترنحات طائر مذبوح.

الفرق ما بينا يا دوب برواز
وشريطة ف لون الحظ الساكن عتبة بابك
وقراية الفاتحة
مستني...؟!
بتحاول تلمح لون الحنة ف كفك
.... ازاي؟!  

لا أستطيع ربط هذه التجربة بتداعياتها بقناعة خاصة، تدفعني لأن أسأل –مثلا- عن المسافة المقطوعة بين الذات والأزمة. خصوصا أن الثبات النسبي لمفردات الرؤية رغم ثرائها، وما استوجبته مخططات الرجل وأدواته؛ كي تبثها على هذا النحو، لا تغريني بسؤال عن علاقة الشاعر بزمنه، فالإجابة هي الديوان تقريبا. لكن أريد أن أبث مواجيدي الخاصة ولاسيما حال القراءة الثانية.

من العبث بمكان أن تمتحن شاعرية الرجل على ضفاف نصوصه، وبطبيعة الحال النقد وإرهاصاته يواجهان هنا حال التصدي لمقدرات الشاعرية ما يشبه نقدنا المدرسي اللزج الذي لا يضيف جديدا للشاعر ومنجزه. أو يلقي الضوء على آفاق أكبر من مجرد قراءة عابرة. 
في حقيقة الأمر سيكون من نافلة القول أن ندور حول مسميات كتابة الأزمة، لكن مشكل الطرح هنا.. أين يقف الشاعر من الأزمة نفسها؟

نعم، من الممكن أن استسلم لمن يعتقد بعبثية هذا السؤال، لكننا ربما ننسى طوعا أو كرها أن الحديث عن المسافة المتحققة بين الذات ومفردات الأزمة قد لا تعني حدوث ما يشير إلى الاشتباك. ربما أستطيع إحالة هذا الهدوء في طرحها لطبيعة شخصية تميل لكراهة الضجيج، جعلتني لا أرى بوضوح ما يشبه الصراخ أو الاحتجاج. لكن يظل توجسي حاضرا ممن يسألون على ضوء هذا الهدوء.. في أي النصوص كانت الشاعرية مشاركة، وفي أي منها كانت مراقبة؟

لنعترف أن من يتابع حدوس شاعر العامية متابعة تحليلية هم الشعراء في الحقيقة، وأن أي ممارسة نقدية كان من المفترض أن تؤسس ذائقة تلقي تقرِّب الناس من طبيعة السلوك المبدع وعناصره. بيد أن النقد في نهاية المطاف قد ذهب مجبرا للمبدع مبتدأ القصة ومنتهاها في آن. من أجل هذا أقول:
إننا نقرأ تجربة ربما يبثها رجل لم تسعفه الحياة أن يقولها في ظروف عادية، أو أوراق تركها؛ كي يميط اللثام عن كل ما غمض على مجايليه ومعاصريه. نقرأ أزمة جيل اصطفت حركة أقداره واحدا من الشعراء المطبوعين يقينا؛ لكي يبثها شكوى متناهية الوجع. ولا يغرينا بأي حال حين نلتمس الهدوء والسكينة اللتين شكلتا الطقس كله للاعتقاد بالدعة، أو أن الشاعرية قد ذهبت في تجلياتها من منطلق شرفة تنظر للأزمة دون التورط فيها.

مازلت مؤمنا أنه لا توجد قراءة بريئة للأدب، ولا أريد أن اختط سبيلا للآخر كيف يمكن قراءة إبداع "محمد هلال" في المطلق، وليس هنا على ضفاف هذا الديوان. وأزعم أن من يدعون التطوير في خطاب العامية لديهم كم من التوجسات من تجربة تختط لنفسها طرائق التعبير التي جاءت في هذا الديوان. وهنا لن أرتدي ثوب المدافع عن تهم لم توَّجه بعد، وإنما أحاول مخلصا أن أمتحن ذائقتي حين تعرضت لما يستفزها يقينا من شعر لا يخاطب أزمتي، بقدر ما يخاطب إنسانيتي المأزومة.
لا غضاضة بأي حال أن يتوارى الخطاب الشعري الممتزج بالصراخ والاحتجاج، لحساب النظرة المتأنية للأزمة وعناصرها، أو الميل الطوعي لجمالياتها. فلا يمكن المُصادرة على نوايا الشاعر إذا انتحل بعض الثبات كي لا تظهر النصوص وكأنها مُصدرة لضعف ذاته في مواجهة أزمته وواقعه.  وكأنه يمارس تساميا مطلوبا يزيح ولو مؤقتا داخل زمنية القصيدة ما يشير لمركبات الانسحاق الواقعي.

هناك من يرى بحتمية الضجيج المضاد، والعبثية في مواجهة اللامنطق والتشتت في مواجهة اللانظام. وإسقاط النماذج من عليائها ومحاكمتها. ربما أتفق مع هؤلاء. لكن، ودون التورط في أكليشيهات.. إن العامية في ذاتها تحمل مكونا حداثيا إذا اعتبرناها التخريج الشعبي للثقافة، قبل أن تكون معنية بتسفيه ثقافة النخبة. الشعر في ذاته احتجاج، والقصيدة مهما بلغ بها الخفوت تظل صرخة أطلقتها نفس معذبة.

هيقول ع البنت اللي بضفايرها البُني
غمت عينه وجرْيت
طفت نور المسرح قبل نهاية العرض بمشهد
وسابتني أكمل دوري لوحدي 

من طبائع الأمور أن نقر بحقيقة واضحة قد قالها الديوان وهي حضور الوعي بشكل سيطر على كامل الأطروحة ومفاصلها. الفكرة كوقود، واللغة بوجه عام، وكذلك لعبة التصوير. وليت شعري حين أسمع من يبحث عن اليومي في ديوان هو التفاصيل كما ينبغي لها أن تكون، تحضر في متون شعرية هي الحياة.
وليس انتصارا هنا للتفعيلة، والموسقة، أو توسل منطقة صراع لا مجال لها مع مشروع النثر، ولا أزعم أن نوايا شاعرنا كانت تقصد أن تصوغ ما يمكن اعتباره كتابة الحل الوسط. حتى وهو يعنون واحدا من نصوصه بالنص المنفلت. بيد أن من المنطقي أيضا أن نتجاوز أكثر إرهاصات النقد صبيانية وعبثية وهي أطروحة الشكل. ولاسيما أن كل ما يمكن أن يقال فيها مردود عليه في ديوان يكفي أن تكون الذات التي أبدعته هي المهمش الرئيس، ونصوصه هي احتفالية تبدو لي مزدحمة بكل أشكاله. { القهوة/ الزهر/ الأراجوز/ القلم الفلوماستر/ الحادي/ قِلامه الكوبيا/ ترتر/ السقا/ البلياتشو}

إن هذه الثنائية الجدلية بين الوعي واللاوعي، حتى مع اعترافنا بحضور الأول بشكل كثيف إلى درجة، تستدعي – لدي- حديثا سمعته من أستاذنا (عبد المنعم كامل) حين أبدى وقتها تصنيفا ثلاثيا للشعراء.. فمنهم من اتسق مع عالمه، ومنهم من رفضه، فتسامى عليه بقصيدة هي الحلم أو تبتغي المثالي المفتقد، ومنهم من سعى لتشويه العالم في شعر، قد يأخذ شكل ردة فعل انتقامية من الواقع وتفاصيله. ربما تذكرت هذا الحديث عندما سألت نفسي: أين يقف "محمد هلال" من تصنيف أستاذنا؟

في القراءة الثانية لهذا الديوان وجدت ودون أن أفقد موضوعية التحليل، أن الرجل هو كل مفردات هذا الثالوث. تماهت أفكاره مع اتجاهات هي متسقة حينا، ورافضة أحيانا، وقادرة على تشويه منطق العلاقات متى أرادت. لكن منطلقات التشويه ربما تسخر من قولنا أن الكتابة إجمالا قد أتت واعية تماما، على اعتبار أن التشويه قد يُؤسس من خلال لاوعي يمور بالعديد من تناقضات الرؤية. فلقد كان من الضروري كي نرضي غرور التأمل في هذه المتون الشعرية أن نجد صورا مسريلة، أو علاقات ضدية متنافرة، أو سقوط الأفكار المتسقة منطقيا في متون شعرية تشير بدلالاتها لفساد منطقها. لكن الغريب فعلا رغم إننا لم نلحظ ذلك بوضوح، لكننا لم نستطع الانفلات من أجواء كتابة قد تبدو كابوسية إلى درجة. أو يا ربما حديث أريكة بثه مريض لطبيبه المعالج.
عارف أنا ليه اتجننت لما نزلت أجازة
لاقتهم دهنين الأوضة زي بقيت البيت
...علشان مابحبش أنام في الأوضة لوحدي...
بخاف
طبعا مش فاهم...!         

هل نفهم من ذلك أن اللاوعي هو المسئول عن إنتاج التشويه الذي يقصده أستاذنا؟ وأن سريلة الصورة هي البنت الشرعية لإرهاصات هذا اللاوعي.
في حقيقة الأمر لي موقف عدائي من"بريتون" الذي أدعى بيقين هذا المعنى في تأسيس التشوهات التصويرية حيث أن اللاوعي تنطلق حدوسه كضد للأطر الجمالية والأخلاقية. لكن يظل السؤال من أين تأتي مفردات اللاوعي أصلا. ألم تكن خبرات ومدركات حسية تم إزاحتها من وعينا، حيث كانت مصدرا مهما للألم، وهل يمكن أن تموت إرادة استدعائها لحساب تشويه، ليس اللاوعي مسئولا عنه يقينا.
من الممكن أن نصف آليات التشويه هنا بأنها لم تكن زاعقة، ولكنها لم تكن غائبة، وما كان حضور شخصية البلياتشو في أكثر من متن أو السيرك عموما إلا إشارة لتشوهات الرؤية من جهة، وتشوهات المرئي من جهة أخرى. نفس الحديث قد ينسحب أثره على مقولات المهمش بنفس الطريقة، فمشكلة المهمش: هل في استدعائه أم خلقه، المهمش قبل النص كان موجودا بالقوة والفعل، وما استحق توصيفنا بكونه مُهمشا إلا بسبب غيابه عن أطروحتنا الشعرية، المهمش حاضر في بيئته بالضرورة، لكنه يعاني فقط من الغياب في خطاب العامية.

على كل حال لنتمسك بمقولات الوعي، ولو قليلا؛ كي نتدارس في هذا الديوان ما كنت أسميه لغة الإنجاز في خطاب العامية.
من علامات شاعر العامية المجيد أن يؤسس للغته وهو يقينا على دراية بأمرين: أن اللغة وعاء الأفكار. في البداية يدرك وظيفتها التعبيرية، وفي إطار الخلق الفني يدرك قيم إشاراتها ورموزها، وبالتبعية حمولتها الدلالية. وعلى الضفة الأخرى من النهر. إن ثراء قاموس العامية ثراء خادع، قاموس ربما يتفوق على نفسه في إنتاج مترادفاته.  

اعترف أن وضوح أزمة الكتابة تناسبت طرديا مع وضوح لغة الديوان وربما صفائها وتساميها، فعندي رهان مضمون الربح أننا لن نصادف مفردة تقترب من الابتذال.
لغة أسس لها الوعي الحاضر بقوة، لغة يقين في الحقيقة، لكن تظل في طبيعة التناول النوعي على قدر وضوحها، تبدو كلغة إشارية بامتياز، ربما لا تختزل بطبائع الأمور دلالات كثيفة نظرا لما صادفت من رحمة في التناول الرمزي الذي يكشف حمولتها، بيد أن من الصدق بمكان أن نعترف بوقوف هذه اللغة بين منطقتين دون الميل لواحدة منهما: لا هي تماهت مع أقصى درجات البساطة، ولا هي مشفرة حد الانغلاق.

وف عز الحزن يزغزغ بعيونه عيونهم
تلمع وتـْمُوج وتموت م الضحك
يتنفس نَفَس الناس الدفيان
وف أخر اليوم يعند وياك
ويراهن ع المُهر الأجمل بيُوميته
ويبات خسران؛ لكن مبسوط!

لست أدري يقينا أيكون وصف اللغة في هذا الشاهد وغيره من مجمل لغة الديوان بالذرائعية سيكون موفقا؟
في حقيقة الأمر استرعاني احتدام الرغبة في تشكيل العامية سواء بفتح من يستحق الفتح أو الضم أو التشديد. والتسكين. في إشارة مبطنة لمخافة سوء التأويل. لكن يظل اللافت حقا، الفطرة الشعرية والطرافة التي تقف مدافعة عن لغة النصوص أمام كل من يدعي بحدوث ما يشير للافتعال أو النحت إذا جاز التعبير، الأمر الذي لا يعكس مضامين الكتابة الواعية، وإنما يعكس درجة من درجات الاستدعاء السلس للمفردات التي تستطيع تدشين الأفكار، والمواجيد، دون التورط في هذه المسميات. حتى في مشكل الحضور للتناصات المختلفة عند قصة يوسف وغيرها.

إن اللغة عند"محمد هلال" لم تفقد طبيعتها الإرسالية في الحقيقة، وربما ذلك ما يفسر عندي وقوف لغته في وسطية مقصودة لذاتها، لكن ظلت الشاعرية في توقدها، تنفلت – أحيانا- تحت ضغط الانفعال الشعري؛ كي تدشن في توهج لغة حية، تزيح بعفوية دلالاتها المستقرة في الذاكرة. وسطية أزعم أنها عالجت زخم الأفكار وزحام المرجعيات والأهم التخفف النسبي من مناخات الحيرة التي تحيط به.
حين يرى "جون كوهين" أن الشعر لغة داخل اللغة، فهو يستهدف هذا البعد الذي ينفلت طوعا من مغبة ثبات الدلالة للمفردة كقيمة وظيفية. لكن إذا أقررنا بحدوث ما يعوق الانفلات، فلا نتورط في سلب الشاعرية مكونات الجسارة، طالما كنا نقر مبدئيا بخضوع الرجل لأزمته بوعي منضبط. على الأقل هنا.
كذلك على ضفاف اللغة التي صيغت منها نصوص الديوان لا ينبغي أن نجرد الشاعر من وعائه الثقافي فقد امتدت الوسطية المنضبطة كي تصل إلى ما قبل النخبوية بقليل. حيث اتسمت بنقاء بنيتها، وهدوء جرسها.   
في ومضات فسفورية إذا جاز التعبير ورغم التعاطي الرحيم مع مفردات اللغة بعيدا عن الترميز المنغلق والتشفير الملغز، ربما يلاحظ قارئ العامية المتمرس بناء الجملة التي تحتوي مفردة أعيد استخدامها خارج معيارها. وهنا أقصد بلا مواربة حسابات السابق واللاحق. وقفت كثيرا رغم يقيني في وسطية الاستخدام اللغوي أمام آليات التضفير التي تضيف حمولات دلالية أكبر من المفردة في محدوديتها. ورغم كل ما يمكن استنباطه من استقلالية الدلالة على ضوء التناول الشعري، لكننا كنا نتورط طوعا أو كرها فيما يشبه الحقول التأويلية في شواهد شعرية أشهد أنها كانت قليلة، لكنها تشير للمقدرة على صياغة ما هو أكبر من مجرد لغة تنطوي على تشفير محدود.   

ورويت ورقتك من عيون الجرح ؛ حبر
فحصدت من أغصان هموم العمر؛ صبر
وجملتين راح ناخد ايه.. غير هو شبر

لا نريد تحليل منطق علاقات الجملة كبنية نصية، فلا نروي الورق ولا عيون الجرح يقينا تفعل، ولا المنبثق من الجرح حبر، لكن ثمة وشيجة بين الري والعيون والورق والحبر.
أستطيع قبل الخروج من هذا المنعطف أن أصوغ حكم قيمة يمتاز بالطرافة فالديوان ربما يكون ديوانا للحنة والضفاير والبلياتشو، وشواهد كثيرة لعدم التعالي على التكرار، فشلت يقينا في استنباط أسبابه.  
(3)
لاشك إننا لا نقرأ النصوص بقدر ما نقرأ أثر النص، فالمسافة المقطوعة بين المتن والهامش، بين النص ومحاولة تفسيره، هي التي تنبني عليها قدرات التأويل الخاصة حيال نصوص، أُتفق يقينا على ثرائها، فالقول –مثلا- بدهشة الصورة يشير إلى متن، بينما تحليل عناصر هذه الدهشة هو الهامش ولاشك.
نأتي للمنعطف الكاشف بجلاء مبهر إننا نطالع شعرا مكتمل البهاء، سنتجاوز مشكل الوعي وحضوره، لكن من العدل بمكان أن نشير لغرائبية البنية النصية للصورة ذاتها.

في سياحة عابرة لهذا الديوان نجد أقل الصور الشعرية رفاهة وهنا أعني التشبيه على اعتبار أنه يعتمد على الربط بين هويتين متباينتين، عن طريق الإلحاح وإبطال مسافة التباين{ وعيونك زي شموس الصيف/ كأن الأرض مأمورة} أو في صعود نلمح انهيارا للفوارق بين المعنوي المجرد والمادي الملموس بتوظيف تبادل المدركات عن طريق التشخيص والتجسيد والتجريد بخلع المشاعر أو الصفات البشرية على الطبيعة الجامدة بقصد أنسنتها { حبلت سفاح كل العيون/  يجهضها لون الغنا/ والمطرة اللي بتغسل وش الأيام}.

إن لعبة تراسل الحواس ربما تحدث في كثافة لافتة، ورغم ذكاء وبراعة الإحالات وتبادل المدركات لإنجاز مضامين إدهاشها، تبدو عفوية بشكل لافت..
{بيقايض بالميّه وجعهم/  لام العيون ع البكا/ فتقابلك شمس اليوم بخجلها الزايد عن حده/ صالب فوق الوش الباهت ضحكة كسيحة} ولعل جمال الصور الفنية المتولدة من التراسل يكمن في رؤية التماثل في اللاتماثل، وقبول الصور الغريبة المتخيلة، والعمل على التآلف معها كما لو أنها واقعية. ولعلنا نلاحظ حركية التبادل في تناول المدركات تناولا حديا معكوسا، يغلب عليه بشكل كبير، هذه الحركية بين البصري والسمعي، أو التجاوز الحاد الذي يستجلب من الاستعارات دهشة فوق حدود المتخيل.

لم يكن من السهل وأنا أقرأ الرجل الانفلات من غواية المفارقات التصويرية التي تأتي في تناسل محير في حقيقة الأمر، فربما كنت ألحظ -رغم صعوبة ذلك- متونا شعرية هي بذاتها لا تحتفل بتشكيلات مجازية أو استعارية لكنها متون مدهشة لم تلجأ لتحطيم العلاقات بالكلية في إطار لعبة التخييل، بيد أنها تتشكل لكسر حالة من التوقع.{ أيقونة العشق الطفولي الغير مبرر للشتا/ طفَّت نور المسرح قبل نهاية العرض بمشهد/ مرصوصة وشوشك جوا طابور}

إن كواليس الصورة مزدحمة نوعيا بكل العناصر التي تستطيع إنتاج صورا تتساقط كالمطر.
إن عالم "محمد هلال" عالمنا، بكل روافده ومؤثراته التي شكلت موقفه من العالم، ناهيك عن ثراء الحصيلة الثقافية التي تؤسس بذاتها موقفه وتصوراته الذهنية حول أزمة وجوده والوجود ذاته، في تماس فكري يريد مخلصا لأن يفهم. فلا غضاضة من لقاء تضميناته البليغة والمؤثرة، الأسطورية والتاريخية{كذب المنجمون ولو صدفوا/ والنحت السريالي لرطوبة واصلة لغاية السقف/ ولسه صبار الفطام بيعمده بالمر/ وان ست الحسن للشاطر حسن/ بتغني لمين ولمين يا حمام/ رؤيا يوسف}

إن مناخات الصورة ودهشتها، وبهذا الكم تجعلنا محاصرين بعناصر صياغتها، إننا نشاهد صورا هي في حقيقتها تجليات. صورا عامرة بالتفاصيل وكأنها مشهد حي يشير بدوره إلى إحاطة شاملة لدرامية الصورة وتفاعلاتها.
في حقيقة الأمر الشعر الطاعن في الاستثنائية يحتاج قارئا استثنائيا، فلقد بات واضحا حقيقة موقف الشاعر من عالمه وتراثه ، لذا من الممكن في حركة تبادلية للمواقع تتماهي مسببات الأزمة، وهنا أعني أزمة الذات أم أزمة العالم، إننا بصدد تأويل جذري لهذه الغيابات، وليس ما يتبدى منها، فكيف نؤسس لمنطق يحكم عالما فاقدا لأي معنى، أو تراتبية يمكن القياس عليها. إن ثراء الصورة ومشهديتها كان مقصودا لذاته، لا لاستعراض أمكانيات الخلق الفني وإنما تحايل من الشاعرية على كل ما يصم الرؤية، ويصفها بالشذوذ أو الانحراف على اختلاف صوره.

إن الشاعر ليس مطالبا بإنتاج أحكام قيمة فيما يعرض له، فليس مُنظّرا ولن يكون، إن هذا الحشد للصور ما كان إلا إعادة عرض لموقف شامل لا يمكن أن يطرح جملة، وما كان الديالوج كتقنية تستحضر الآخر دخل المتن الشعري تقيم معه حوارا، إلا لتفتيت عنصر المسئولية الأيدلوجية التي تقف في الخلف من النص.

أزعم أن صبار الفطام ديوان منتخب بعناية من لدن شاعر لديه ما يقوله، ومنذ أول لقاء مع شعره ورهاناتي عليه متحققة. ربما دعوته لأن ينبش أكثر، أو على أقل تقدير يواجه عالمه بأنياب أكثر حدة، نعلم أن البتر أمر صعب لكنه مهم لباقي الجسد، جلسات الكهرباء قاسية حتما لكنها تنعش العقل. والأهم أن لا يفكر فينا وهو يخط إبداعه. وخصوصا دوائر النقد الغائبة غالبا.   


ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...