الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

أحمد السعيد / العامية في ثوب التجلي

أحمد السعيد / العامية في ثوب التجلي
1/2


الأرض أُمّ المعجزات
 
والفلاحين مش أوليا

 
لكن لهم كرامات

ربّك تبسّم للي شكّ وقال
:
(أُنظر الى الأرض البوار
إزاى بنُحييها ونكسوها خَضار

ولنَجْعَلك آيه
)
الفلاحين قالو
:الرّب ليْه فى كل شئ غايه
.
 
دايماً بيبهرنى بطريقته ف النجاه

وازاى –بصدره بس – واقف للحياة

واشمعنا هوا م
ابعش روحه من زمان
وازاى –بمحض ارادته – وزّع جِلده ع العيله أمان

 
وازاى محافظ ع الإيمان
 والعيشه كُفر الكُفر
ازاى طلع من تحت تحت الصفر

 
نفّض هدومه وابتسملى وقال
:
الحاجَه أُم الصبر

.
 
شُفته

بيشدّ نور الصبح يوميا

من بين سنان الليل

 
و يشدّنى م التوهه فى التأويل

مارتاحش ليه ومسابش لحظه تفوت؟
 قاللى:
(الرّاحه هيا انّك تكون قدّ التعب
والعجز موت
)
بصّيت لقيتنى لسه حىّ
ارتحت
هامش
/  النّص أقرب ما يكون للنحت
.
 
شخص بْتواضع شمس آخر اليوم

 
إزاى تسيب دور البطوله للقمر

رغم انّه أصلا مش مُضئ

هوا اللى مهّدلى الطريق

هوا اللى قاللى ازاى أكمّل سكّتى مستناهوش

وازاى أأجل دمعتى لمشهد أخير بعد الستار

 
فمَمثّلوش

وازاى أدوّر ع الإضاءه ف حته برّا الكادر

 
وازاى أخلى الضعف سر
ّ
وازاى أخلّى لنفسى صدر بْعضم ضهرى

أنا
.. من يوم ما علّمنى المواجهه
بطّلت أجرى

.
 
كلّمته عن ضعف الغلابه المحقونين بالقهر

قالّى
:  الأرض صابره
 
اللى انتقم للطينه من دوس الجبابره

نفس اللى عطّرها برفات الصالحين

 
بس احنا شفنا الكُلّ قبر

كلّمته عن جيب الفقير اللى اتنهب

عربون مقاولة

قالل
ي:  الفرحه أخت المال رضاعه مش نسب
والدمّ أولى

.
 
كلّمته عن حزنه و عمره اللى اتسرق

قاللى
:  الدمع بيبوش ف العرق
و العين مش اصدق م اللسان

الرّز أكتر بهجه من ورده لجعان

أنا عشت للدنيا 3 ادوار و حتة أرض

و عشت لاخواتك دراع و جدار وشيش

و عشت للدولة موظف ف الحكومه و عِشتلك

مفضيتش اعيش

.
 
للعلم بالشئ ومن باب الأمانه

نَصّ الكلام متقالش حرفياً

أنا

-
ولأنه كان معجون تعب دايما
-
كنت اكتفى بهدوءه توجيه للرضا

 
ف استنى واجمد

هوّا

 
علشان مهوّاش من هُواة الفضفضة

 
وفّر على نفسه الكلام

 
سمّانى أحمد
!!

***
لا تتحد الرغبة في إنتاج الحزن والشعر إلا في تجارب إنسانية حقيقية بامتياز، مع رصيد متطرف من موهبة التعبير الشعري الدال، والمؤثر. هي تجربة قادمة ولاشك، ما لم تعرقلها الحياة والبشر، أو يا ربما سقطت عنوة في آتون الظروف.

ليس من السهولة بمكان أن تصادف شعرا يضغطك على هذا النحو، يستطيع أن يحيلك إلى كتلة من التأثر الشفيف، حال التماهي مع وجع صاحبه، في جمل شعرية هي أقرب لترنحات طائر مذبوح. فالقصيدة هنا  تتميز بقدرة فائقة على الاعتراف، تتحسس مواضع التعرية والمواساة في آن. كما إنها تستطيع بسلاسة صادمة أن تورطك فيما يشبه لقاء جزء مهمش من دراما الحياة.

هو إذن ينتمي للصنف الثالث من الشعراء الذين لا يدفعهم إلى العالم أي دافع من وئام، أو يا ربما في خصومة مع تفاصيله. تتجاوز ما يمكن توصيفه عتابا إلى ما يشبه الطعن والتجريح. الأمر الذي يعكس بضراوة أن ثمة هزيمة قاسية وعنيفة قد تعرضت لها الذات، ربما في بواكير الاشتباك مع عالمها.  
الأرض أُمّ المعجزات
والفلاحين مش أوليا
 
لكن لهم كرامات
ربّك تبسّم للي شكّ وقال:
(أُنظر إلى الأرض البوار
إزاى بنُحييها ونكسوها خَضار
ولنَجْعَلك آية)
الفلاحين قالو:الرّب ليْه.. في كل شيء غاية



إن الاستهلال هنا كان معنيا برغبة التأسيس للجدال الدائر بين الأب و الابن الشاعر. اعتناء لم يؤسس للشاعرية في معناها المجازي، بل رحنا معه في لغة هي أقرب للذرائعية التي تستعد لإنجاز مواجيدها. مقدمة كانت تستقي من براعة الصياغة المعتمدة على رهافة اللغة، والسيولة التي تليق بشعر يعتمد على درامية الفكرة بأكثر من اعتماده على إنتاج قضايا كبرى لا يحتملها النص.

هنا سألت.. أين صدمة الصورة، أو البحث عن علة غيابها؟
في حقيقة الأمر النص إجمالا يبدو لي صورة شعرية  مكتملة الأركان، حتى وإن اعتمدت على ذاك الديالوج، وإن المتن المفتتح لم يخل بالكلية من المجاز، بل إن التصوير نفسه قد سار على نحو ما؛ كي يدشن أزمة النص والذات معا. لأن اللاحق لهذا المتن من متون شعرية سيشهد صعودا حادا للتصوير المبدع والمدهش. وأزعم أن الرجل يمهد لوجوده قبل الدخول للنص، يؤسس استهلالا يكشف عن شاعرية صنعت كل شيء: التقرير، التحفيز، التناص، سلاسة اللغة، القدرة على التوريط الدرامي لديالوج على درجة من السخونة، وإن لم يخلُ من حميمية.  

دايماً بيبهرنى بطريقته ف النجاه
وازاى –بصدره بس – واقف للحياة
واشمعنا هوا مابعش روحه من زمان
وازاى –بمحض إرادته – وزّع جِلده ع العيله أمان
 
وازاى محافظ ع الإيمان
 والعيشه كُفر الكُفر
ازاى طلع من تحت تحت الصفر
 
نفّض هدومه وابتسملى وقال:
الحاجَه أُم الصبر

في حقيقة الأمر عند مركزية الألم، وحميمية العتاب، لا يمكن الرهان بأبعد من لقاء هذه التقنية التي تعتمد الديالوج الشعري. وهنا نحتاج لأن نقف وقفة حيال هذا الملمح. لأننا – يقينا-  نقرأ حالة شعرية هي أقرب للتجلي، مأساة أكبر من أن تتحملها قدرات الرجل. لذا من الممكن أن يصادف قارئ العامية المتمرس شعرا بإيقاع الركض الخائف، فالقصيدة أو الفاعلية الشعرية إذا جاز التعبير تبدأ من منطلقات مرتبكة، متوترة، ومن ثم تنطلق الحدوس الشعرية في إطار لغة تم تأسيسها على إيقاع صوتي يوحي باللهاث، والاضطراب، حتى تصل لسطر شعري هو أقرب للموت، أو السقوط من شاهق. وكأن المتن الشعري الواحد يتوقف وقوفا قدريا، لا دخل للإرادة فيه. الغريب إننا لا نصادف الراحة ألا بالوصول عند سطر شعري منتم للحكمة{ الحاجة أم الصبر}. وهو السطر الذي يفض الاشتباك مؤقتا. كي نخفف إيقاع الركض، وسخونة الجدال، والذي يؤسس مزاج الحيرة لدى الذات الشاعرة التي تطرح أسئلتها في يقين الأب. بعد أن سيطر عليها انعدام اليقين والجدوى.

في هذا المتن ارتفعت الإنتاجية الشعرية نسبيا، بدت المفارقات التصويرية المنتجة للشاعرية وكأنها مجازات فطرية إلى درجة، تكشف مدى البساطة وارتفاع شكل الموهبة، مع إنتاج آليات التخييل عند الرجل. فلا يبدو الصدر في مواجهة الحياة سوى حيلة مجازية معلومة بالضرورة لدلالة المواجهة، لكن حضور بصدره (بس) تظل الإضافة الأعمق، في إشارة لفرادة المواجهة دون توريط الشاعرية في إلقاء تهم التخلي حيال آخر لم تذكره القصيدة. أما عن هذه الصورة المفجعة دلاليا والتي تجعلك تشعر ببعض القشعريرة حال تلمس ما تثيره في ذهن التلقي{ وزع جِلده} حينها من السهل أن يتمثل لديك حضور ذاك الجسد المنهك الذي أمتثل عاريا لفعل التوزيع الطوعي الذي مورس حيال شبكة الأب الاجتماعية التي لم تجد في إشارة عفوية وعبقرية في آن ترد على أصحاب القراءات البريئة لِم لم تقل الشاعرية {وزع لحمه} ففي مأساة تتسلل في هكذا نص، لا يمكن توقع غير الجلد المنهك. ولا نغفل ذلك الضغط المهم الذي لم يتعالَ على التكرار { كفر الكفر/ تحت التحت} للتدليل على عظيم ما صادف هذا الكيان الإنساني من أزمة شديدة الأثر.       

شُفته
بيشدّ نور الصبح يوميا
من بين سنان الليل
 
و يشدّنى م التوهه في التأويل
مارتاحش ليه ومسابش لحظه تفوت؟
 قاللى:
(الرّاحه هيا انّك تكون قدّ التعب
والعجز موت)
بصّيت لقيتنى لسه حىّ ارتحت
هامش/  النّص أقرب ما يكون للنحت

إن الحديث عن مأساة تقف خلف كتابة جاءت على هذا النحو ليس من قبيل المبالغة، بل إن التركيبة النفسية التي تتعامل مع ديالوج شعري بهذا الوجع، لا تعني تحت ضغط الشاعرية قدرة ما على إنتاج أزمتها، وبث تخريجات أخرى لمشكل الرفض الذي تماهى مع مشكل الرضا المنبثق من خطاب الأب في متن القصيدة، بل قد تغرينا للاعتقاد بتأسيس انسجام ظاهري مع حركة الأقدار{ الأب}، رغم احتدام الرفض في الداخل{ الابن الشاعر}.

بطبيعة الحال وكما سبق القول سترتفع آليات التخييل المدهش تدريجيا، فهنا الشاعرية تصول وتجول في إلقاء مجازاتها. من { شد نور الصبح/ من بين سنان الليل} صورة تشبه إلى حد كبير من فتح قوسا وأغلقه. وبتضاد عفوي بين الصبح والليل كان الحضور للصورة طاغيا جدا، مع إشارة لليل بعدم التفريط، الأمر الذي جعل الصبح عالقا بأسنانه، بل وقد نذهب لأبعد من ذلك إذا سألنا الشاعرية.. ماذا تبقى من هذا الصبح العالق بأسنان الليل سوى أشلاء؟ إذن قد نفسر دلالات الصورة لصبح مبتور المعني، صبح مختلف عن أي صباحات أخرى.
{ التوهة} البحر أو هي الغرق، بيد أن من المنطقي بمكان أن نعيد ربط الموقف الإنساني بالموقف الفكري هاهنا، لا لشيء، فالرجل يقينا قد جعل التوهة بشكل حصري لحساب التأويل. لذا جاءت(قاللي) لا لتؤسس إجابة ترضيه، وإنما لتضع حدا فاصلا لتصورات الذات الشاعرة التي أرهقها البحث عن تبرير مقنع لحركة الأب في الحياة.  وجملة القول. هي الأداء الحكمي الذي تتوقف عنده الشاعرية مؤقتا؛ كي تلتقط أنفاسها. جملتان لا يؤسسان وحسب للشاعرية، بل للمفارقة التي لا يمكن دحضها تفسيريا. فإذا اتفقنا أن الشاعر ليس ملزما بأي حال أن ينتج أحكاما قيمية، فإن الرجل هنا قد راوغ وهو يبتغي أن يؤسس هذا الحكم، لذا لو توقفنا قليلا لتفسير ماهية الراحة، لأدركنا أن الراحة تأتي في تكافؤ القدرة والجهد حيال الأمر المستحق لها. أو أقوى من(الجالب للتعب) على أضعف الاحتمالات. وعند من يفكرون بهذه الطريقة فمن الحتمية أن يكون العجز هو المرادف الطبيعي للموت.
لا أميل للمصادرة على نوايا الشاعر، لكن آخر سطر بدا لي إشارة لو تخلت عن (النحت) لكانت بمثابة من يؤسس انحرافا سرديا يعطي للشعر بُعدا من مراوغة للتخفيف من حمولة الضغط بوجع شخوص النص. 

 شخص بْتواضع شمس آخر اليوم
 
إزاى تسيب دور البطوله للقمر
رغم انّه أصلا مش مُضئ
هوا اللى مهّدلى الطريق
هوا اللى قاللى ازاى أكمّل سكّتى مستناهوش
وازاى أأجل دمعتى لمشهد أخير بعد الستار
 
فمَمثّلوش
وازاى أدوّر ع الإضاءه ف حته برّا الكادر
 
وازاى أخلى الضعف سر ّ
وازاى أخلّى لنفسى صدر بْعضم ضهرى
أنا.. من يوم ما علّمنى المواجهه
بطّلت أجرى

كنت ومازلت مؤمنا أن أهم مواجيد شاعر العامية عندما يلجأ طوعا لقصيدة المرآة، والتي تعني محاكمة الذات من الخارج. بيد أن هذه الآلية لم تخضع بالضرورة لشكل رؤية الشاعر، بل ذهبت أبعد حتى من هذه الرغبة؛ كي تنجز الدراما والدراما المضادة. يجعلنا نشعر بصوت الشاعر كصدى لصوت الأب أو العكس، وفي تنويعات شبه سردية تستطيع الانفلات بالانحراف والتعليق؛ كي يبث وجعا طاعنا وشفيفا أمام جمهور هو المشكلة، وظروف هي القصيدة.

طالما لا توجد قراءة بريئة للأدب، ففي هذا المتن الشعري من السهل أن أفقد موضوعيتي يقينا، لا لشيء، لكن لهذا التماس الحاد مع مناخ الاغتراب والنفور، وذاك التواصل المبتور مع العالم وتفاصيله. الأمر الذي هزمني إنسانيا حال التقيت به شعرا هنا.

ربما غاب الأب - لأول مرَّة-  من إشكالية الديالوج، غياب تكمن عبقريته في حضور ضده. وأعني هنا المونولوج. صوت الشاعر الفرد الذي يعتلي خشبة مسرح يبث ما علق من إشارات في ذاكرته، من آثار ومناقب ذاك النموذج الإنساني الفريد. وتحققت مجددا الفاعلية الشاعرية يا ربما في أعلى صورها. في تناسل مجازي مُبهر إلى حد بعيد. 

أزعم أن أي قراءة حاسمة أو تكاد للعامية ليست معنية بتفسير النص أو شرحه، إننا نبحث في بلاغة الأثر، مشكل التواصل مع الإدهاش، وحساب الدلالات، ومدى إنجازها لنوايا صاحب النص وأفكاره.
أبتدع الشاعر المونولوج الإخباري عن الأب. والتوصيف الشعري المتجه إلى صياغة المديح المأزوم لمناقبه أو كلماته التي قالها في معرض نصيحة، مديح ممتلئ بأطياف من أزمة قد تحيلها لنا شاعرية هذا الوصف.لذا لن نلجأ للمصادرة على ذائقة التلقي، وإنما سنشير بطرف خفي لشكل التناول الشعري ودلالاته..  {شخص بْتواضع شمس آخر اليوم}. يقال أن التشبيه يربط بين هويتين متباينتين بالضغط والإلحاح. لكن هل يجوز لرجل بهذا السمت أن لا يكون الشمس نفسها قبل التورط في التشبيه؟ إن شمس منتصف النهار أو التي تسعى حثيثا لغروبها لم تفقد في رحلة النهار شموخها وكبريائها في الحقيقة، وإنما قوتها اللافحة، لذا ربط الزوال بالتواضع الذي تأسست عليه الصورة تشير ضمنيا لهذا اللين والدعة، بيد أن ما يثير فضولي هنا كيمياء الفرق بين (في تواضع / بتواضع) ومن المعلوم أن (في) تعني الظرفية المتداخلة في مشكل التواضع، بينما بـ تواضع  تعني المصاحبة أو الرفقة. لذا كنت أميل نسبيا إلى (في) للدلالة على تماهي الشخص في ذاك التواضع. والتخلي عن الباء التي قد تعني عند التفسير السلبي أن تواضعه قد جاء منتحلا، وليس سمتا أصيلا فيه. رغم أنها في كل الحالات لم تفقد الصورة براعتها وبكارتها. مؤكد كان حضور القمر على ظلال هذه الصورة حضورا عفويا، بل أن تواضع الرجل الذي يشبه شمس آخر اليوم الساعية لغروبها وإيذانا بدخول الليل، قد جعل من ذاك النموذج الإنساني متعاطفا مع القمر الذي سيتولى قيادة المشهد(دور البطولة) بيد أن الانتصار  لتنازله الضمني لا ينفي بأي حال واستنادا للحقيقة الفلكية الجغرافية أن القمر معتم في ذاته، ويستمد ضوءه من الشمس حتى وإن بدت للرائي في زوال حاسم.

ربما يعتقد البعض أن الشعر لا ينبغي له التورط في هكذا أحكام، لكن عبقرية هذا الامتداد التصويري تظل أكبر وأهم من التخلي عن المعايير العلمية المعلومة بالضرورة عن عتمة القمر وافتقاره للضوء ما لم تمنحه الشمس إياه.
لا أميل عادة لتفسير الشعر أو شرحه، أو يا ربما المصادرة على نوايا صانع الحالة الشعرية، ودوائر التلقي معا. ولاسيما أن باقي هذا المتن قد تعامل مع منطق المفارقات التصويرية والتي تعني عبقرية الصياغة التي تحيلك للاعتقاد أنك أمام إنتاجية شعرية تقترب من كونها مجازا.

{وازاى أأجل دمعتي لمشهد أخير بعد الستار.. فمَمثلوش}. إن التأسيس المعكوس للبكاء المشير لضعف قد صار في حكم السلوك الإرادي، وكأن الضعف الناتج من البكاء يأتي بقرار. ربما سيقول قائل: أنه تعلَّم ذلك من سلطة الأب الحاضر في النص، وهذا صحيح يقينا، لكننا لا ندري إلى أي درجة تحققت هذه الإرادة التي سعت لتأجيل بكائها. وإن ظلت عبقرية التواري بالبكاء بعد نزول الستار.
 
في البحث عن الضوء خارج الكادر قد يحيل التأويل ناحية الجسارة أو خارج حدود النمطي. أو الطعن في مظهرية الضوء، فداخل الكادر قد يبدو الضوء مشكوكا فيه.

عند الإشارة لكيمياء المواجهة تعلمت الذات أن تؤسس لعظام الصدر المعني بتحقق المواجهة أن تكون من نفس عظام الظهر الأشد قوة. وفي شرطية حاسمة تعترف الشاعرية أن التراجع عن المواجهة، لا يعني باطنيا الخوف في حدود المعنى الأقرب، بل إن المواجهة قد عطلت فعليا آلية الركض، والتي تعني يقينا ما هو أكبر من الخوف. رغم أن { بطلت أجري} قد تؤسس للخوف فعلا. في مراوحة كنائية دالة ومعبرة أن يكون الجري معادلا للخوف وللتخلي في آن.      


الجمعة، 10 يوليو 2015

سامي العدل .. متعة أن تكون أبن بلد

في المناطق الخلفية مع الفراشين والعمال كانت المسافة التي تفصلنا عن الحفلة كبيرة نسبيا. ومكانها بالضرورة عبقري، ملاعب التنس بـ "جرين لاند" قصر المنتزه. مسرح مصمم بشكل جيد، إضاءة مبهرة، فرقة هاني مهنى الموسيقية. في ليلة من النصف الثاني لثمانينات القرن الماضي.
رجل طويل ورشيق، أذكره بدقة. يرتدي بنطلون رمادي في درجة من درجاته المؤثرة. قميص أحسبه حريريا من نفس اللون. حذاء كلاسيك رمادي أيضا، وفي يده علبة سجائر(كارتيير) سيجارة جُبلت أن أحترم من يشربها .

 يسير في هذه المنطقة. يتحدث، ويشرح أشياء لفتاة نحيلة، قصيرة بشكل لافت، وكذلك شعرها. ترتدي فستانا ورديا، جميلا وبسيطا.
لم يكن لتخطئه عيني ساعتها هو" سامي العدل". لكن كنت مندهشا وأنا أركز في وجه الفتاة كي أتأكد أن هذه هي المطربة سميرة سعيد التي نراها في التليفزيون.
نادى رجلا يعرفه وطلب: خد (سميرة) لمكانها. هكذا وبدون أي ألقاب. ثم عاد ليجلس وحيدا على طاولة بالقرب من العمال الذين يتحركون بشكل دائب. يتأمل المكان والطقس والقصر. لم تكن الصورة تعكس وقتها أكثر من مدخن شره. وكل تفصيلة في وجهه واضحة.. الأنف أنف، والعين عين. حتى لتحسبه وجها فرعونيا مما نراه على جدران المعابد. أتته قهوة. رشف منها رشفتين ونادانا نحن صعاليك مثل هذه الحفلات. نحاول أن نتصيَّد مكانا مناسبا للفرجة.
-         ناويين على أيه يا صياع؟
ضحكنا. شعرت أن صوته ضربنا. صوت قوي وعميق. الغريب أن دعانا، وأمر لنا بشاي نشربه، وعلى طاولته. وراح يؤسس حديثا منقطع الصلة عن "سامي العدل" الذي نراه على الشاشة. ابن بلد حقيقي، معلم بكل ما تحمل الكلمة من معنى. كان الحديث منطلقا منه حول القصر، والملك فاروق، وكيف لمكان كهذا ليس به مسرح. الغريب وبعد عام أو يزيد أسس جلال الشرقاوي مسرحا وأذكر أن أول عرض كان مسرحية "بولوتيكا". أظهر ابتسامة ذات معنى حين قلت على أثر سؤال عن انتماءاتنا الكروية إني زملكاوي. بعد صمت قام الرجل وطلب مني أن أصطحبه وأودعني في آخر صف في الحفلة. وكأنه لم ير الاثنين الذين كانا معي. وتمتم بكلمات: لو كانوا زملكاوية مش كان زمانهم معاك. وأطلق ضحكة كأنها الحرب.

والآن مات "سامي العدل" لا لكي أحزن عليه، ولا على هذه الذكرى التي تفصلني عنها سنوات طويلة جدا، وحسب. لكن حزني الأشد على تواطؤ الرجل مع زمنه الذي لم يأخذ من رصيد موهبته ولو مقدار عشر منها. بل إن أعظم ما قدمه "سامي العدل" لمحبيه هي بصمة شخصيته التي كانت تحيل الورق العاجز إلى علامات من الصعب أن تنسى.  

الاثنين، 22 يونيو 2015

ياسر المناوهلي .. صوت الحلم المباح

قدرا أصادف صوته، وتحديدا في رواق اليوتيوب. مؤدٍ بارع، بلاغة تأثيره تكمن في صدقه، وإحساسه المتطرف بالكلمة التي يغنيها. وربما ذلك ما يعوض غياب الجانب التطريبي. العُرب والتريلات والزخارف والتصدير.

 الغريب في كل مرة أراه، يثب للمخيلة Ray Charles بنظارته السوداء، بيد أن صاحبنا مُبصر ، نبتهل لله أن يحفظ له هذه النعمة.

ربما حضر مع الثورة أو قبلها، لكن مع بواكير الحلم بالتثوير على أجنحة يناير، كان حاضرا، لا بشخصه، ولا بصوته وحسب، وإنما كجيل كامل، جيل كان منتميا للغياب القهري، صرخ بهدوء، واحتج في خجل العروس ليلة زفافها. وأزعم أن كل من جاء لهذه الدنيا في حقبة الستينات يشتمل على هكذا صفات. 

لم يكن ليدهشني لقبه رغم غرابته، وأنا يقينا لا ينبغي لي أن اندهش، فعمة أمي كان أسمها { لا يُعلم }. ولم تأخذني تقنية عزفه على الجيتار، رغم براعته اللافتة. أو تعاطيه مع كلمات أغانيه، في أداء يقترب من المونولوج الفكاهي، لكن عنده كثيرا ما يرتدي واقعيته الموجعة. لكن يأخذني دائما اتساقه مع نفسه، وتراجع مشكل وجوده لحساب قضيته التي يبثها فنا للناس. هو في يقيني مطرب الثورة الحقيقي، وربما الوحيد، والذي جاء من بعيد، كي يتنفس الحرية، والتي تعثرت قليلا قبل أن يكتمل مبناها و معناها. لكن على الواضح أنه مازال يصدح، متسلحا بإيمانه، وبيقينه إنه قد طلَّق الخوف ثلاثا، لا رجعة فيهم.      

الثلاثاء، 26 مايو 2015

لكم الشعر .. وللطحان رب يحميه!!

لا أدعي أن "حازم حسين" طاعن في العمر؛ كي تكون أحكامه حيال نص شعري هي تجسيد لصراع أجيال. ومن يذهب لهذا الظن مؤكد لا يعرف الرجل. فلن أتحدث هنا عن شاعريته وموهبته. بل، سأذكر أهم ما لمسته من حرص بالغ أن يأتي بالعامية المختلفة. ربما نتشابه في كثير ونختلف فيما هو أكثر،  لكن يجمعنا –بيقين- غيرتنا على العامية والتي تواجه آفة الزحام المعوِّق، وغياب مظلة نقدية تضع العامية الحقيقية في مكانها. ومن الموضوعية بمكان أن أعترف هنا إنني أكثر سلبية، هو صارع من أجل أن ينتصر لهذه العامية في ثوبها المختلف، وكنت أنا منسحبا يائسا.

 في حقيقة الأمر قلت: إن نص (زينب) هو أهم نص ظهر في الربع أو الثلث الأول من هذا العام. والغريب لم أصادف تعليقا واحدا يسألني لماذا هو مهم؟ وكأن (الفيس بوك) على ما يبدو غير معني بطرح هذه الأسئلة التي تنتج سجالا تحتاجه العامية. على الجانب الآخر قلت مرارا إنني لست مرجعية لأحد. وتظل آرائي كلها انتصارا للعامية حسبما أرى.

سأورد هنا حديثا لا أذكر إن كنت سمعته أو قرأته. سئل يوما رياض السنباطي هذا الموسيقي البارع. فيما تفكر وأنت تلحن لأم كلثوم؟ فقال:
أفكر في ثلاثة أمور: صوتها العبقري، وإمتاع الناس، وأقراني من الموسيقيين حين يسألون ما الجديد الذي جئت به في هذا اللحن.

لذا على هامش لقاء المنصورة مع الشاعر الطحان نفسه قلت: أن (زينب) عندي ما بين 12 إلى 14 متن شعري هم من يؤسسون للرجل كشاعر بالقوة والفعل. متون اعتمدت على مفارقات تصويرية ولغوية شديدة الإبهار والمفارقة، وقارئ العامية المتمرس يستطيع أن يلمس هذه المتون دون إي جهد. وباقي النص استلهم قوته من كاريزما الطحان، ومصداقية الحالة الشعرية نفسها. والتي بدت حتى من طريقة إلقاء الرجل، والتي بدت شجية وحزينة.
هو نص مهم، لكننا تعلمنا بحكم السن والخبرة وطول النظر أن هناك ثمة فرقا بين النص المهم والنص العظيم. وأزعم وليس المجال هنا للتفسير أن النص المهم ينتج شعرا، بينما النص العظيم ينتج بلاغة الأثر الذي يظل يتصاعد في كل مرة يُقرأ فيها.

قلت وعندي من الشهود الكثير على هذا الكلام: إذا احترم الطحان العامية وكان معنيا بتأسيس فرادته، وتخلى طوعا عن مزاج الكتابة لانتزاع آهات الجماهير، أو تقنيات الزجل القديم الذي يؤسس كتابة أقرب للريبورتاج؛ فإن أحمد الطحان سيحفر أسمه عميقا في هذا الجيل. رغم ما أراه من سيولة تجعلني متحفظا قليلا حيال هذا التقسيم للأجيال.

لا توجد خصومة لي مع أي شاعر عامية أيا كان هو، ولا أنافسهم، لا عن تواضع مني، وإنما لثقتي وإيماني إنني لست شاعرا أصلا. أو للدقة لستُ موجودا. لكني خصم عتيد لكل التجارب الشعرية المجانية التي تخرج بلا دم صاحبها وروحه وعذاباته. وأزعم أن الشاعر والصديق حازم حسين كما عرفته هو أيضا ليس في خصومة مع هؤلاء الذين عبر على أسمائهم. بيد أنه في خصومة مع الطقس كله التي تعرض فيه نصوص بطعم اللاشيء، أو طقس الشللية والذي هو يقينا ليس بجديد على واقعنا الأدبي، بل إن حازم نفسه قد يكون واحدا من ضحاياه.

ربما لن تسعفني فرصة تكرار هذا الحديث، ولاسيما إنني ممن يمقتون مسألة العراك الأدبي المجاني على الدرجة نفسها.
" إن كتابة العامية التي ترضيك أوردني المهالك" كانت هذه عبارة "عمرو حسن" التي قالها لي في ليلة من ليالي القاهرة، وفي حضور شعراء سكندريين وقاهريين على السواء. ولقد احترمت الرجل وصراحته. إذن هو يؤسس لوجوده، في هذه المرحلة على الأقل. لكن أشهد للرجل بشاعرية قد تطول النجوم إذا أراد.

أخي الحبيب حازم وأنت واحدٌ ممن يدركون حالة السيولة التي نحياها. إن ما يحدث في حظيرة العامية هو التواطؤ بعينه.
إن السؤال عن الجماهير في خطاب الفصحى والذي جعلنا نرى منجزها الآن مثيرا للشفقة لا يدفعنا مطلقا لأن نكتب العامية فوق مستوى الجماهير، وإن كنت مدركا إنك تريد عامية للجماهير، لا تقصد الاتساق معهم، بقدر ما تريد الصعود بهم. لكن يظل السؤال من منّا يمتلك جسارة أن يصنع هذا الطقس. ونحن إلى الآن نصارع المؤسسة الرسمية التي ترى العامية شعرا شعبيا فلكلوريا لا يستحق أي احترام.


من منّا يستطيع أن يعطي مقاليد الريادة لتجربتين منفلتتين من عامية الرواد واحدة صاغها حاتم مرعي(قبل ديوانه الأخير بالطبع)  والأخرى حمدي عبد العزيز – مع حفظ الألقاب للرجلين-
من منّا تصدى لتقييم إرهاصة" إبراهيم رضوان" أو الراحل الكبير محمد عبد المعطي، أو عبد الناصر حجازي- متع الله الأحياء منهم بالصحة-  كي يعرف القادمين خلفهم ما الذي أصطنعه هؤلاء لخطاب العامية. من منّا يمتلك جسارة تعرية العادي والنمطي أو يحاكم الردّة الزجلية التي ارتدها شعراء كنا نحسبهم معنيين بتطوير القصيدة العامية.

إن أزمة الوجود والتواجد في هذا الزحام، لا تعني بالضرورة أنها المعبرة عن قضية كبرى تعتمل في يقين الشاعر المعني- أصلا-  بإنتاج موقف محدد من العالم. المسافة بعيدة جدا. ومناخ الاستهلاك أمتد رغما عنك وعني حتى طال الشعر نفسه. لذا يظل المشهد عبثيا مهما تطرف حرصنا للانتصار للعامية المرتجاة. كل من تراهن عليهم انتهوا تقريبا. تبخروا تحت سقف الضرورة. بل قد أطرح عليك هنا سؤالا. لا أجد إجابة له.. ما سر ارتباط توقف الإبداع باللحاق بقطار المؤسسة الثقافية؟

إن نص "زينب" قد يكون حجر زاوية للحديث عن العامية إجمالا، لكنه – للأسف- قد أضاء مرحلة من أسوأ مراحل العامية. فمن السهل أن يبدي حازم حسين امتعاضا مستحقا حيال المشهد. لكن لن يجد في حياته متسعا من الوقت كي ينتصر للعامية المنفلتة والمختلفة والتي صارع جل عمره من أجلها. صراعا ربما خلق خلافات حدية أحيانا مع شعراء لم يكن بينه وبينهم غير الأخوة والإنسانية العميقة.
ربما استطعت في قادم الأيام أن أكتب شيئا حيال هذه الأزمة مع الاعتراف بضيق الوقت والرزق. لكن أدعوكم فقط أن تختلفوا مع حازم حسين بأدب، وأن تنتصروا للطحان من شعره وليس لأنه صديق رائع، وإنسان نادر.    

الجمعة، 8 مايو 2015

العامية بطعم محمد هلال

صبار الفطام
العامية بطعم محمد هلال
(1)
صبار الفطام ديوان تم التنازل عنه، وخرج من يقين صاحبه لدوائرنا؛ كي نلاقي ما نسمعه عادة من مصطلحات عن المنجز والمشروع وغيرها من مقولات. لا أرفضها يقينا، وإن كنت هنا أحسبه منتجا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فمنتج العامية لا يخضع للقولبة أو القصدية، أو كل ما يمكن أن يغتال الحدوس الشعرية المنفلتة -غالبا- تحت زعم التصنيف والمحدودية. وأزعم أن بعض من حاولوا تأسيس خطا لديوانهم، غالبا ما وقعوا في مغبة الاجترار، أو صدَّروا ثبات الهدف في أطروحات لا ينقصها الملل. إذن لنتفق أن ما نطالعه اليوم هو منتج "محمد هلال" الشعري.الذي يمنحنا النظر لمواجيده، وكأنها نتاج حالة من تضافر مواد خام، صياغة وصناعة وتجويد ومراجعة؛ كي نصل للمتن المراد النظر إليه بغرض تحليله.

هل من المفيد أن نبدأ من العنوان ونحلله، أم نلج للمتن الشعري؛ كي نبرره. إن قيمة العناوين المراوغة وكثافة حمولتها، أنها تدفعنا لتلمس ما يكشف عبقرية اختزاليتها من المتون الشعرية، بمعنى أن يكون النص واحدا من التخريجات الدلالية لهذا العنوان، ومن ثم، وفي تفسير معكوس نعيد إسقاط العنوان كقيمة اختزالية ونصية، ونذهب معه في، لن أقول تفسير النصوص المنضوية تحت لواءه، وإنما التماس الإشارة التي أودعها العنوان في متن النص والمجموعة إجمالا.

لم يفقد العنوان هنا غوايته رغم استحضاره من موروث العامية العميق، ولم يفقد كذلك قدرته على التحريض، بما يملكه من إشارات، وقيم دلالية ربما أكثر مراوغة من العنوان نفسه كبنية نصية، منتمية للتراث الشعبي بامتياز.
ربما تتفانى الذائقة، وهي تتعاطى مع العنوان. فالصبّار وإشارته لعملية الفطام، تعني في التفسير الأقرب إقامة الحد الفاصل بين الرضاع، ومرحلة أخرى، تقترب من الاعتماد على النفس، يتنامى معها الإحساس بالبعد النسبي عن صدر الأم.
فهل الديوان -هنا- مرحلة ما بعد الأم. وما ينتج عنها من مواجهة العالم بدون هذه الحميمية، الأمر الذي يؤسس بدوره الاختلاف بين هذا الحضن وسواه. مما يفسر ذلك الحنين الفطري لمذاق هذا القرب، مهما تطاولت الأعمار.

يا ربما نقرأ على ضوء هذا التفسير متونا شعرية بطعم الاغتراب، أو بالأحرى الافتقاد لشيء ما ولاسيما الماضي. إن الصبّار وما يحيله من شعور بالمرارة، يبرر عند أصحاب القراءات البريئة هذا الفاصل كنهاية لمرحلة، بيد أن من الإنصاف إحالة الصبار على مواجيد الشاعرية، لا كمجرد فاصل، وإنما اقتحام مركبات الحميمية بمرارٍ طاعن ولافت.

تتجلى تداعيات أخرى لهذا العنوان تؤسس لمراواغاته الممكنة، بداية بمن وضع الصبار؛ كي ينهى ما اعتقدته الشاعرية أنه الأفضل، ومرورا بسؤال مستحق.. هل الذات كانت مهيأة لإنجاز تحولها للاعتماد على نفسها يقينا، وبالضرورة مُشكل التوقيت. وهل كل اللاحق لهذا الفاصل الذي أسس له الصبار مرير بالكلية، وهل لسان حال الشاعرية يصرخ فينا: ألم يكن من الأجدى الانتظار ولو قليلا؛ كي نستحق الفطام، ويكون العالم بدوره مهيئا لاستقبال مأزومين جدد.
 
في حقيقة الأمر جاء الديوان؛ كي يمنح هذه الأسئلة الافتراضية الكثير من المشروعية، في كتابة تشبه حجرا أُلقي في بركة ماء، فأنتج دوائر لا نهائية من الأزمة. تتنوع انطلاقا من الداخل إلى الخارج وبالعكس. فلا المرارات انتهت، ولا الفطام كان مجديا، والعالم على موقفه العدائي من هذه الأرواح. مع توفر مواجيد شفيفة تريد مخلصة  العودة لما قبل اقتحام الصبار لهذا الكيان، كي تنتزعه من حضن أخلص وأطهر فترة زمنية عاشها. أو تؤسس لكتابة لا تبتغي التطهر والبوح، بقدر ما تريد العودة لطفولة اغتالتها مركبات المرحلة. لاشك وضعنا العنوان في بؤرة الحالة الشعرية المأزومة بطبيعتها. بتقاطعاتها ما بين اغتراب وغربة وفقد وحيرة، واستشعار حالة من الضعف حيال جور واقع لا يرحم، وأسس تشكلات التجربة، والرؤية ومحدداتها.
(2)
لا أريد التورط في أحكام قيمة ربما لا تتحملها هذه القراءة المتعجلة، لكن من الضروري الإشارة لقناعة خاصة إلى درجة أن العامية كتابة يقين، تمثل عندي ذلك المنحنى الصفري لتماهي الكتابة مع طرائق التفكير. فالشاهد أننا نفكر بالعامية ونكتب بها. اليقين هنا لا يعني طبيعة الالتصاق بالمجتمع ودرجات القرب من مشاكله، وإنما يعني بلوَّرة قيمتين على درجة كبيرة من الوضوح في القصيدة العامية: الحقيقة الاجتماعية في بُعديها الدرامي والتفاعلي. كذلك حضور الجانب الحكائي الذي يبلور بدوره دراميتها. هكذا إذن ظل معنا - مهما احتدم التطوير- الزجل المعني بالحقائق الاجتماعية وأزماتها، مما أنتج إلى حد بعيد نصوصا بطعم الريبورتاج الذي يغطي أزمة الإنسان/ المجتمع. وتجلت معه القصيدة في صورة القصة القصيرة التي صاغها قاص متهور. ينتخب أفكاره من تقاطعات الحالة من جهة، وضغط الواقع من جهة أخرى.

تلاعبني ع المشاريب
ولا على بكره؟
بكره يادوبك طقم شاي ميزو
اتنين جنيه قافل عليهم سُستة امبارح
والزهر بارد
برودة الفتارين على الفقرا

 لم يؤسس "محمد هلال" لكتابة اليقين وحسب، وإنما حقق ما اعتقدته يوما من عبثية البحث عن الهم الخاص في القصيدة العامية، والتي مهما تمركزت نصوصها حول كل ما يشير للذاتية، تظل قادرة دوما على التماس مع العام؛ بسلاسة مدهشة. خصيصة ربما تستحوذ عليها العامية بصور أكبر من مثيلاتها من الألوان الأدبية الأخرى.
إننا مع الرجل نقرأ الواقع بلا حجب، حتى إذا لم تحضر ذاته أو حال حضورها في الآخر المعني بهذا الحوار، والأفكار المُشعرة التي تؤسس لعناصر أزمتها. هنا تتقاطع لن أقول الأزمة في عموم تجلياتها، والمتحققة في كونشرتو من الوجع والأحلام المجهضة أو المبتورة، الحيرة والتوجس من مستقبل لا يحمل غواية انتظاره. بل قد نذهب لملاقاة نصوص تعكس أزمة قرار، تعرَّض لهزيمة الوقت، أو معطيات اتخاذه. وأزعم أن ذوات تستطيع أن تتبين أزمتها بهذا الوضوح، ما كان لها أن تغادر هذا الإيقاع الذي يشبه ترنحات طائر مذبوح.

الفرق ما بينا يا دوب برواز
وشريطة ف لون الحظ الساكن عتبة بابك
وقراية الفاتحة
مستني...؟!
بتحاول تلمح لون الحنة ف كفك
.... ازاي؟!  

لا أستطيع ربط هذه التجربة بتداعياتها بقناعة خاصة، تدفعني لأن أسأل –مثلا- عن المسافة المقطوعة بين الذات والأزمة. خصوصا أن الثبات النسبي لمفردات الرؤية رغم ثرائها، وما استوجبته مخططات الرجل وأدواته؛ كي تبثها على هذا النحو، لا تغريني بسؤال عن علاقة الشاعر بزمنه، فالإجابة هي الديوان تقريبا. لكن أريد أن أبث مواجيدي الخاصة ولاسيما حال القراءة الثانية.

من العبث بمكان أن تمتحن شاعرية الرجل على ضفاف نصوصه، وبطبيعة الحال النقد وإرهاصاته يواجهان هنا حال التصدي لمقدرات الشاعرية ما يشبه نقدنا المدرسي اللزج الذي لا يضيف جديدا للشاعر ومنجزه. أو يلقي الضوء على آفاق أكبر من مجرد قراءة عابرة. 
في حقيقة الأمر سيكون من نافلة القول أن ندور حول مسميات كتابة الأزمة، لكن مشكل الطرح هنا.. أين يقف الشاعر من الأزمة نفسها؟

نعم، من الممكن أن استسلم لمن يعتقد بعبثية هذا السؤال، لكننا ربما ننسى طوعا أو كرها أن الحديث عن المسافة المتحققة بين الذات ومفردات الأزمة قد لا تعني حدوث ما يشير إلى الاشتباك. ربما أستطيع إحالة هذا الهدوء في طرحها لطبيعة شخصية تميل لكراهة الضجيج، جعلتني لا أرى بوضوح ما يشبه الصراخ أو الاحتجاج. لكن يظل توجسي حاضرا ممن يسألون على ضوء هذا الهدوء.. في أي النصوص كانت الشاعرية مشاركة، وفي أي منها كانت مراقبة؟

لنعترف أن من يتابع حدوس شاعر العامية متابعة تحليلية هم الشعراء في الحقيقة، وأن أي ممارسة نقدية كان من المفترض أن تؤسس ذائقة تلقي تقرِّب الناس من طبيعة السلوك المبدع وعناصره. بيد أن النقد في نهاية المطاف قد ذهب مجبرا للمبدع مبتدأ القصة ومنتهاها في آن. من أجل هذا أقول:
إننا نقرأ تجربة ربما يبثها رجل لم تسعفه الحياة أن يقولها في ظروف عادية، أو أوراق تركها؛ كي يميط اللثام عن كل ما غمض على مجايليه ومعاصريه. نقرأ أزمة جيل اصطفت حركة أقداره واحدا من الشعراء المطبوعين يقينا؛ لكي يبثها شكوى متناهية الوجع. ولا يغرينا بأي حال حين نلتمس الهدوء والسكينة اللتين شكلتا الطقس كله للاعتقاد بالدعة، أو أن الشاعرية قد ذهبت في تجلياتها من منطلق شرفة تنظر للأزمة دون التورط فيها.

مازلت مؤمنا أنه لا توجد قراءة بريئة للأدب، ولا أريد أن اختط سبيلا للآخر كيف يمكن قراءة إبداع "محمد هلال" في المطلق، وليس هنا على ضفاف هذا الديوان. وأزعم أن من يدعون التطوير في خطاب العامية لديهم كم من التوجسات من تجربة تختط لنفسها طرائق التعبير التي جاءت في هذا الديوان. وهنا لن أرتدي ثوب المدافع عن تهم لم توَّجه بعد، وإنما أحاول مخلصا أن أمتحن ذائقتي حين تعرضت لما يستفزها يقينا من شعر لا يخاطب أزمتي، بقدر ما يخاطب إنسانيتي المأزومة.
لا غضاضة بأي حال أن يتوارى الخطاب الشعري الممتزج بالصراخ والاحتجاج، لحساب النظرة المتأنية للأزمة وعناصرها، أو الميل الطوعي لجمالياتها. فلا يمكن المُصادرة على نوايا الشاعر إذا انتحل بعض الثبات كي لا تظهر النصوص وكأنها مُصدرة لضعف ذاته في مواجهة أزمته وواقعه.  وكأنه يمارس تساميا مطلوبا يزيح ولو مؤقتا داخل زمنية القصيدة ما يشير لمركبات الانسحاق الواقعي.

هناك من يرى بحتمية الضجيج المضاد، والعبثية في مواجهة اللامنطق والتشتت في مواجهة اللانظام. وإسقاط النماذج من عليائها ومحاكمتها. ربما أتفق مع هؤلاء. لكن، ودون التورط في أكليشيهات.. إن العامية في ذاتها تحمل مكونا حداثيا إذا اعتبرناها التخريج الشعبي للثقافة، قبل أن تكون معنية بتسفيه ثقافة النخبة. الشعر في ذاته احتجاج، والقصيدة مهما بلغ بها الخفوت تظل صرخة أطلقتها نفس معذبة.

هيقول ع البنت اللي بضفايرها البُني
غمت عينه وجرْيت
طفت نور المسرح قبل نهاية العرض بمشهد
وسابتني أكمل دوري لوحدي 

من طبائع الأمور أن نقر بحقيقة واضحة قد قالها الديوان وهي حضور الوعي بشكل سيطر على كامل الأطروحة ومفاصلها. الفكرة كوقود، واللغة بوجه عام، وكذلك لعبة التصوير. وليت شعري حين أسمع من يبحث عن اليومي في ديوان هو التفاصيل كما ينبغي لها أن تكون، تحضر في متون شعرية هي الحياة.
وليس انتصارا هنا للتفعيلة، والموسقة، أو توسل منطقة صراع لا مجال لها مع مشروع النثر، ولا أزعم أن نوايا شاعرنا كانت تقصد أن تصوغ ما يمكن اعتباره كتابة الحل الوسط. حتى وهو يعنون واحدا من نصوصه بالنص المنفلت. بيد أن من المنطقي أيضا أن نتجاوز أكثر إرهاصات النقد صبيانية وعبثية وهي أطروحة الشكل. ولاسيما أن كل ما يمكن أن يقال فيها مردود عليه في ديوان يكفي أن تكون الذات التي أبدعته هي المهمش الرئيس، ونصوصه هي احتفالية تبدو لي مزدحمة بكل أشكاله. { القهوة/ الزهر/ الأراجوز/ القلم الفلوماستر/ الحادي/ قِلامه الكوبيا/ ترتر/ السقا/ البلياتشو}

إن هذه الثنائية الجدلية بين الوعي واللاوعي، حتى مع اعترافنا بحضور الأول بشكل كثيف إلى درجة، تستدعي – لدي- حديثا سمعته من أستاذنا (عبد المنعم كامل) حين أبدى وقتها تصنيفا ثلاثيا للشعراء.. فمنهم من اتسق مع عالمه، ومنهم من رفضه، فتسامى عليه بقصيدة هي الحلم أو تبتغي المثالي المفتقد، ومنهم من سعى لتشويه العالم في شعر، قد يأخذ شكل ردة فعل انتقامية من الواقع وتفاصيله. ربما تذكرت هذا الحديث عندما سألت نفسي: أين يقف "محمد هلال" من تصنيف أستاذنا؟

في القراءة الثانية لهذا الديوان وجدت ودون أن أفقد موضوعية التحليل، أن الرجل هو كل مفردات هذا الثالوث. تماهت أفكاره مع اتجاهات هي متسقة حينا، ورافضة أحيانا، وقادرة على تشويه منطق العلاقات متى أرادت. لكن منطلقات التشويه ربما تسخر من قولنا أن الكتابة إجمالا قد أتت واعية تماما، على اعتبار أن التشويه قد يُؤسس من خلال لاوعي يمور بالعديد من تناقضات الرؤية. فلقد كان من الضروري كي نرضي غرور التأمل في هذه المتون الشعرية أن نجد صورا مسريلة، أو علاقات ضدية متنافرة، أو سقوط الأفكار المتسقة منطقيا في متون شعرية تشير بدلالاتها لفساد منطقها. لكن الغريب فعلا رغم إننا لم نلحظ ذلك بوضوح، لكننا لم نستطع الانفلات من أجواء كتابة قد تبدو كابوسية إلى درجة. أو يا ربما حديث أريكة بثه مريض لطبيبه المعالج.
عارف أنا ليه اتجننت لما نزلت أجازة
لاقتهم دهنين الأوضة زي بقيت البيت
...علشان مابحبش أنام في الأوضة لوحدي...
بخاف
طبعا مش فاهم...!         

هل نفهم من ذلك أن اللاوعي هو المسئول عن إنتاج التشويه الذي يقصده أستاذنا؟ وأن سريلة الصورة هي البنت الشرعية لإرهاصات هذا اللاوعي.
في حقيقة الأمر لي موقف عدائي من"بريتون" الذي أدعى بيقين هذا المعنى في تأسيس التشوهات التصويرية حيث أن اللاوعي تنطلق حدوسه كضد للأطر الجمالية والأخلاقية. لكن يظل السؤال من أين تأتي مفردات اللاوعي أصلا. ألم تكن خبرات ومدركات حسية تم إزاحتها من وعينا، حيث كانت مصدرا مهما للألم، وهل يمكن أن تموت إرادة استدعائها لحساب تشويه، ليس اللاوعي مسئولا عنه يقينا.
من الممكن أن نصف آليات التشويه هنا بأنها لم تكن زاعقة، ولكنها لم تكن غائبة، وما كان حضور شخصية البلياتشو في أكثر من متن أو السيرك عموما إلا إشارة لتشوهات الرؤية من جهة، وتشوهات المرئي من جهة أخرى. نفس الحديث قد ينسحب أثره على مقولات المهمش بنفس الطريقة، فمشكلة المهمش: هل في استدعائه أم خلقه، المهمش قبل النص كان موجودا بالقوة والفعل، وما استحق توصيفنا بكونه مُهمشا إلا بسبب غيابه عن أطروحتنا الشعرية، المهمش حاضر في بيئته بالضرورة، لكنه يعاني فقط من الغياب في خطاب العامية.

على كل حال لنتمسك بمقولات الوعي، ولو قليلا؛ كي نتدارس في هذا الديوان ما كنت أسميه لغة الإنجاز في خطاب العامية.
من علامات شاعر العامية المجيد أن يؤسس للغته وهو يقينا على دراية بأمرين: أن اللغة وعاء الأفكار. في البداية يدرك وظيفتها التعبيرية، وفي إطار الخلق الفني يدرك قيم إشاراتها ورموزها، وبالتبعية حمولتها الدلالية. وعلى الضفة الأخرى من النهر. إن ثراء قاموس العامية ثراء خادع، قاموس ربما يتفوق على نفسه في إنتاج مترادفاته.  

اعترف أن وضوح أزمة الكتابة تناسبت طرديا مع وضوح لغة الديوان وربما صفائها وتساميها، فعندي رهان مضمون الربح أننا لن نصادف مفردة تقترب من الابتذال.
لغة أسس لها الوعي الحاضر بقوة، لغة يقين في الحقيقة، لكن تظل في طبيعة التناول النوعي على قدر وضوحها، تبدو كلغة إشارية بامتياز، ربما لا تختزل بطبائع الأمور دلالات كثيفة نظرا لما صادفت من رحمة في التناول الرمزي الذي يكشف حمولتها، بيد أن من الصدق بمكان أن نعترف بوقوف هذه اللغة بين منطقتين دون الميل لواحدة منهما: لا هي تماهت مع أقصى درجات البساطة، ولا هي مشفرة حد الانغلاق.

وف عز الحزن يزغزغ بعيونه عيونهم
تلمع وتـْمُوج وتموت م الضحك
يتنفس نَفَس الناس الدفيان
وف أخر اليوم يعند وياك
ويراهن ع المُهر الأجمل بيُوميته
ويبات خسران؛ لكن مبسوط!

لست أدري يقينا أيكون وصف اللغة في هذا الشاهد وغيره من مجمل لغة الديوان بالذرائعية سيكون موفقا؟
في حقيقة الأمر استرعاني احتدام الرغبة في تشكيل العامية سواء بفتح من يستحق الفتح أو الضم أو التشديد. والتسكين. في إشارة مبطنة لمخافة سوء التأويل. لكن يظل اللافت حقا، الفطرة الشعرية والطرافة التي تقف مدافعة عن لغة النصوص أمام كل من يدعي بحدوث ما يشير للافتعال أو النحت إذا جاز التعبير، الأمر الذي لا يعكس مضامين الكتابة الواعية، وإنما يعكس درجة من درجات الاستدعاء السلس للمفردات التي تستطيع تدشين الأفكار، والمواجيد، دون التورط في هذه المسميات. حتى في مشكل الحضور للتناصات المختلفة عند قصة يوسف وغيرها.

إن اللغة عند"محمد هلال" لم تفقد طبيعتها الإرسالية في الحقيقة، وربما ذلك ما يفسر عندي وقوف لغته في وسطية مقصودة لذاتها، لكن ظلت الشاعرية في توقدها، تنفلت – أحيانا- تحت ضغط الانفعال الشعري؛ كي تدشن في توهج لغة حية، تزيح بعفوية دلالاتها المستقرة في الذاكرة. وسطية أزعم أنها عالجت زخم الأفكار وزحام المرجعيات والأهم التخفف النسبي من مناخات الحيرة التي تحيط به.
حين يرى "جون كوهين" أن الشعر لغة داخل اللغة، فهو يستهدف هذا البعد الذي ينفلت طوعا من مغبة ثبات الدلالة للمفردة كقيمة وظيفية. لكن إذا أقررنا بحدوث ما يعوق الانفلات، فلا نتورط في سلب الشاعرية مكونات الجسارة، طالما كنا نقر مبدئيا بخضوع الرجل لأزمته بوعي منضبط. على الأقل هنا.
كذلك على ضفاف اللغة التي صيغت منها نصوص الديوان لا ينبغي أن نجرد الشاعر من وعائه الثقافي فقد امتدت الوسطية المنضبطة كي تصل إلى ما قبل النخبوية بقليل. حيث اتسمت بنقاء بنيتها، وهدوء جرسها.   
في ومضات فسفورية إذا جاز التعبير ورغم التعاطي الرحيم مع مفردات اللغة بعيدا عن الترميز المنغلق والتشفير الملغز، ربما يلاحظ قارئ العامية المتمرس بناء الجملة التي تحتوي مفردة أعيد استخدامها خارج معيارها. وهنا أقصد بلا مواربة حسابات السابق واللاحق. وقفت كثيرا رغم يقيني في وسطية الاستخدام اللغوي أمام آليات التضفير التي تضيف حمولات دلالية أكبر من المفردة في محدوديتها. ورغم كل ما يمكن استنباطه من استقلالية الدلالة على ضوء التناول الشعري، لكننا كنا نتورط طوعا أو كرها فيما يشبه الحقول التأويلية في شواهد شعرية أشهد أنها كانت قليلة، لكنها تشير للمقدرة على صياغة ما هو أكبر من مجرد لغة تنطوي على تشفير محدود.   

ورويت ورقتك من عيون الجرح ؛ حبر
فحصدت من أغصان هموم العمر؛ صبر
وجملتين راح ناخد ايه.. غير هو شبر

لا نريد تحليل منطق علاقات الجملة كبنية نصية، فلا نروي الورق ولا عيون الجرح يقينا تفعل، ولا المنبثق من الجرح حبر، لكن ثمة وشيجة بين الري والعيون والورق والحبر.
أستطيع قبل الخروج من هذا المنعطف أن أصوغ حكم قيمة يمتاز بالطرافة فالديوان ربما يكون ديوانا للحنة والضفاير والبلياتشو، وشواهد كثيرة لعدم التعالي على التكرار، فشلت يقينا في استنباط أسبابه.  
(3)
لاشك إننا لا نقرأ النصوص بقدر ما نقرأ أثر النص، فالمسافة المقطوعة بين المتن والهامش، بين النص ومحاولة تفسيره، هي التي تنبني عليها قدرات التأويل الخاصة حيال نصوص، أُتفق يقينا على ثرائها، فالقول –مثلا- بدهشة الصورة يشير إلى متن، بينما تحليل عناصر هذه الدهشة هو الهامش ولاشك.
نأتي للمنعطف الكاشف بجلاء مبهر إننا نطالع شعرا مكتمل البهاء، سنتجاوز مشكل الوعي وحضوره، لكن من العدل بمكان أن نشير لغرائبية البنية النصية للصورة ذاتها.

في سياحة عابرة لهذا الديوان نجد أقل الصور الشعرية رفاهة وهنا أعني التشبيه على اعتبار أنه يعتمد على الربط بين هويتين متباينتين، عن طريق الإلحاح وإبطال مسافة التباين{ وعيونك زي شموس الصيف/ كأن الأرض مأمورة} أو في صعود نلمح انهيارا للفوارق بين المعنوي المجرد والمادي الملموس بتوظيف تبادل المدركات عن طريق التشخيص والتجسيد والتجريد بخلع المشاعر أو الصفات البشرية على الطبيعة الجامدة بقصد أنسنتها { حبلت سفاح كل العيون/  يجهضها لون الغنا/ والمطرة اللي بتغسل وش الأيام}.

إن لعبة تراسل الحواس ربما تحدث في كثافة لافتة، ورغم ذكاء وبراعة الإحالات وتبادل المدركات لإنجاز مضامين إدهاشها، تبدو عفوية بشكل لافت..
{بيقايض بالميّه وجعهم/  لام العيون ع البكا/ فتقابلك شمس اليوم بخجلها الزايد عن حده/ صالب فوق الوش الباهت ضحكة كسيحة} ولعل جمال الصور الفنية المتولدة من التراسل يكمن في رؤية التماثل في اللاتماثل، وقبول الصور الغريبة المتخيلة، والعمل على التآلف معها كما لو أنها واقعية. ولعلنا نلاحظ حركية التبادل في تناول المدركات تناولا حديا معكوسا، يغلب عليه بشكل كبير، هذه الحركية بين البصري والسمعي، أو التجاوز الحاد الذي يستجلب من الاستعارات دهشة فوق حدود المتخيل.

لم يكن من السهل وأنا أقرأ الرجل الانفلات من غواية المفارقات التصويرية التي تأتي في تناسل محير في حقيقة الأمر، فربما كنت ألحظ -رغم صعوبة ذلك- متونا شعرية هي بذاتها لا تحتفل بتشكيلات مجازية أو استعارية لكنها متون مدهشة لم تلجأ لتحطيم العلاقات بالكلية في إطار لعبة التخييل، بيد أنها تتشكل لكسر حالة من التوقع.{ أيقونة العشق الطفولي الغير مبرر للشتا/ طفَّت نور المسرح قبل نهاية العرض بمشهد/ مرصوصة وشوشك جوا طابور}

إن كواليس الصورة مزدحمة نوعيا بكل العناصر التي تستطيع إنتاج صورا تتساقط كالمطر.
إن عالم "محمد هلال" عالمنا، بكل روافده ومؤثراته التي شكلت موقفه من العالم، ناهيك عن ثراء الحصيلة الثقافية التي تؤسس بذاتها موقفه وتصوراته الذهنية حول أزمة وجوده والوجود ذاته، في تماس فكري يريد مخلصا لأن يفهم. فلا غضاضة من لقاء تضميناته البليغة والمؤثرة، الأسطورية والتاريخية{كذب المنجمون ولو صدفوا/ والنحت السريالي لرطوبة واصلة لغاية السقف/ ولسه صبار الفطام بيعمده بالمر/ وان ست الحسن للشاطر حسن/ بتغني لمين ولمين يا حمام/ رؤيا يوسف}

إن مناخات الصورة ودهشتها، وبهذا الكم تجعلنا محاصرين بعناصر صياغتها، إننا نشاهد صورا هي في حقيقتها تجليات. صورا عامرة بالتفاصيل وكأنها مشهد حي يشير بدوره إلى إحاطة شاملة لدرامية الصورة وتفاعلاتها.
في حقيقة الأمر الشعر الطاعن في الاستثنائية يحتاج قارئا استثنائيا، فلقد بات واضحا حقيقة موقف الشاعر من عالمه وتراثه ، لذا من الممكن في حركة تبادلية للمواقع تتماهي مسببات الأزمة، وهنا أعني أزمة الذات أم أزمة العالم، إننا بصدد تأويل جذري لهذه الغيابات، وليس ما يتبدى منها، فكيف نؤسس لمنطق يحكم عالما فاقدا لأي معنى، أو تراتبية يمكن القياس عليها. إن ثراء الصورة ومشهديتها كان مقصودا لذاته، لا لاستعراض أمكانيات الخلق الفني وإنما تحايل من الشاعرية على كل ما يصم الرؤية، ويصفها بالشذوذ أو الانحراف على اختلاف صوره.

إن الشاعر ليس مطالبا بإنتاج أحكام قيمة فيما يعرض له، فليس مُنظّرا ولن يكون، إن هذا الحشد للصور ما كان إلا إعادة عرض لموقف شامل لا يمكن أن يطرح جملة، وما كان الديالوج كتقنية تستحضر الآخر دخل المتن الشعري تقيم معه حوارا، إلا لتفتيت عنصر المسئولية الأيدلوجية التي تقف في الخلف من النص.

أزعم أن صبار الفطام ديوان منتخب بعناية من لدن شاعر لديه ما يقوله، ومنذ أول لقاء مع شعره ورهاناتي عليه متحققة. ربما دعوته لأن ينبش أكثر، أو على أقل تقدير يواجه عالمه بأنياب أكثر حدة، نعلم أن البتر أمر صعب لكنه مهم لباقي الجسد، جلسات الكهرباء قاسية حتما لكنها تنعش العقل. والأهم أن لا يفكر فينا وهو يخط إبداعه. وخصوصا دوائر النقد الغائبة غالبا.   


ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...