الأربعاء، 30 مارس 2016

أحمد الخدرجي .. شاعرية الضد الجميل

أحمد الخدرجي
شاعرية الضد الجميل

هو واحدٌ من الشعراء القلائل الذين يستطيعون بسلاسة غريبة أن يؤسسوا للمأساة جمالياتها. فيجعل من الغربة وطنا له، ولكل الذين يعانون من شح الونس. وغياب الصحبة. يجعل من الدهشة أمرا عاديا، ومن الانفعال الإيجابي حيال شعره سلوكا مضطردا.

اعترف له بروافد كبيرة ومتشعبة. لم تكن بأي حال مجانية، صنعت منه شاعرا حقيقيا. وحين أقول حقيقيا أعنيها تماما. فالشاعر الحقيقي في زعمي يمتلك موقفا واضحا من العالم، وتفاصيله وأزمته. يحتفظ في كينونته بسرٍ علوي. يجعله يحلم نيابة عنا، ويصرخ ويحتج، ويعاتب زمنه نيابة عنا.  ويؤسس عوالمه التي تتسامى فوق واقعنا المغرق في إحباطه.

لم تكن شاعرية الخدرجي تؤسس لما هو أبعد من وجع خاص. نعم. لكن في آتون العامية ليس كل ما هو خاص متمركز حول الذات يجد صعوبة في أن يجد صداه في الآخر. بل إن الذاتية من شأنها أن تكون هلامية إلى درجة. فالعامية شئنا أم أبينا كتابة يقين. تقترب من كونها حقيقة اجتماعية. تماهت فيها الشاعرية حتى صارت هي ما نعيشه.

قد يلوم البعض الذاتية، وقد تلصق بمواجيده. الغنائية الزاعقة أحيانا. وقد يتهم شعره بغياب القضية والأسئلة الكبرى. التي تعكس للقارئ مفاهيم الكتابة المنطوية على وعاء معرفي، مؤسس على دراية كاملة بكيفية تشكيل الوعي. كذلك الأنساق الثقافية المختلفة من تراث وأسطورة وتاريخ. لكن كل هذه التهم مردودٌ عليها. بل إننا نصادف هذه المكونات. وقد لا يشقى قارئ العامية المتمرس إذا أمعن النظر في نصوص الرجل كي يستنبط هذه الروافد بطبيعة الحال. لكنها لا تبلور موقفا من أزمة كبرى أو سؤالا كبيرا. قدر ما تنتج جماليات خاصة بالسلوك الإبداعي نفسه. فالخدرجي في زعمي يدعونا أن نقرأه هو من جهة. ونتحد مع يقينه الشخصي في قيمة الشعر والقصيدة، التي باتت عنده أطهر بقعة قد يعيش في رحابها إنسان. نعم أتفق مع كل من يرى أن القصيدة عند الخدرجي قد تخلت عن قيمتها الإشارية كمحاولة لتفسير أزمة ما في الواقع المعاش، أو يا ربما رسالة تبتغي أن تلمس المرسل إليه. في خطاطة قد تدعو الكثيرين للعودة لهذه الجدلية: فن للفن.. أم فن للمجتمع؟

لا أريد هنا الاشتباك مع هذه الجدلية، وإنما أدعو من يعتقد في معنى هذه الجدلية ضرورة حتمية لأن يناقش الفن موضوعا قائما. أن يحاكم واقعا على هذا القدر من الارتباك.

 إن جور الواقع، وتجبر أزمته قد تبدو لشاعرية على هذا القدر من الرهافة وكأنها ضد الشعر نفسه. الشعر الذي هو قدس الأقداس في يقين هذه الروح. قد نقبل كرها أن يحطمنا هذا الواقع بتفاصيله المجحفة. وأن يؤسس غربتنا الوجودية والمرجعية. في إشارة هنا لاغتراب ملموس يجعلنا لا نفقد الثقة على التغيير وحسب، وإنما يدعونا أن نفقد جوهر الدور الإنساني الذي يستطيع أن يتفاعل مع هكذا تفاصيل. لذا لا أجد غضاضة إذا رحت لاعتبار القصيدة عند الخدرجي هي حضن ذاك الأب الذي غاب بفعل الموت. أو هي الأم التي لم ترهقها الحياة، وسلبت عطفها الجم حياله. بل وقد أذهب هنا إلى أقصى درجات التصور إذا ما ربطت ضجيج القصيدة؛ بالرغبة في استحداث الونس المفقود والصحبة الغائبة.

من الضروري أن نعترف للقصيدة إنها في مرافئ شاعريته قد تخلصت من كونها إرسالية لمعنى ما.. يضيء أو يفسر أو يحلل. حتى وإن بدت محتجة أو صارخة. فهي منتمية لروح رغم كل ما تعانيه، تلتمس من روح القصيدة ما يعين على تدليلها. أو تنبش رغبة العالم في أن يدللها ولو على استحياء. وربما ذلك ما يفسر حرص الرجل أن تكون أزمته هي المعادل الموضوعي لأزمة آخر لا يعرفه.

لا أحاكم الواقع. لكن أقول لدعاة القضية التي يطرحها الشعر. أو يبحثون عن أسئلة كبيرة تعبر عن الحيرة حيال ذلك الزمن.. أين هو ذلك الواقع الذي يستطيع أن يطرح هكذا مواقف أو أسئلة في وقت فاقد للحد الأدنى من المعيارية المنضبطة.. أو طقس عام  يكشف معاناة سقوط أثينا الفلاسفة أمام أسبرطة الغوغاء؟      

كان من الممكن أن تموت شاعرية هذه مقدراتها. أو أن تكفر باللعبة كلها. لذا عاد الرجل وأحسبها عودة منطقية للذات. للداخل المرتبك، وللأحلام المجهضة، وللغربة القدرية التي ما كان له يدٌ فيها.

إن شاعرية الخدرجي حسبما أفهم لم تكن لتؤسس لنفسها في قالب منتم للنمطي والمكرر والمستهلك أحيانا. فالرجل لا ينتصر يقينا لهذه الأدوات التي تنجز ما يمكن أن نسميه الإنتاجية الشعرية. لا ننفي هذه العناصر بطبيعة الحال. لكننا لا نراها كالنتوء أو كإشارة للامتلاك. نراها ذائبة في تداخل شفيف لاعتراف المذنب الشاعر للكاهن القصيدة.

كنت أرى شاعرية تجافي النهار، تؤسس عوالمها ليلا حين يخمد الصخب وينزوي الزحام، وتأوي الأوجاع إلى مضجعها. هنا يبدأ الشعر الذي يأخذ سمت الممارسة الفلسفية التي تأخذ بالتأمل، تراجع يومها وفق ما تعتقده في تفسير أزمتها. التي تسمو بدورها فوق هذا العالم وتفاصيله. هو الليل إذن الذي لن يموت بإرادة قناص ضعيف النظر؛ كي يأتي بالصباح الجديد. أصبحنا نسمع الوحدة، ويتسلل لنا ذاك الفراغ العاطفي الرهيب، الذي يبحث عن أنثى، أكثر نضارة من الجحيم.

لم يكن الخدرجي في زعمي يسوق الدليل الأكثر حسما في تصوره للحب كأكبر وأطهر حالة قد يعيشها إنسان، في هكذا واقع ينتحل شخصية قاتل مأجور، يغتال كل رغبة حقيقية للبحث عن هذه العاطفة، ومن ثم هذا النموذج الذي يسمو فوق تصورات الخيال، والذي يصاغ بدم الروح. فيأتي دائما أقل من المتخيل، وأقل تأثيرا من هذه القابعة في البعيد تسيطر بصولجانها على كل مفردات الحلم كي تسخر منه.

إن هذا البحث الدءوب هو الذي جعلني في لحظة ما أصف هذه الأنثى على ضوء شعره بالمستحيلة أو الأزمة. وقتها كنت أقع تحت غواية الإنتاجية الشعرية التي تبلور هذا الافتقاد. حتى تمنيت في دواخلي أن يلقاها كي تهدأ نفسه. لكن ماذا عساه أن يكون إذا وجدها.. فيا ربما خمدت فورة البحث التي تنتج هكذا شعر، أو يا ربما فقدت التجربة جزءا كبير من وقودها.

لم أكن وقتها أملك رفاهية النصيحة أن يبحث الرجل عن بديل. أو أن يؤسس متوازيا إبداعيا لهذه الإشكالية التي تشكل جُل طموحه الفني. مع الوقت بدأ الخدرجي يؤكد يقيني في كون المسألة أكبر بكثير من يقين فراشة تتدثر بالعتمة كآخر حصن يعصمها استهداف الضوء لحياتها. وأن السباحة في تلاطم البحث كان شاطئه الأكثر أمانا لروحه أن يستريح خلف عدسة شاعريته، كي يرصد لنا لطف التفاصيل. حين تتآلف في دراما أقل حدة من واقع يتفانى في مجابهة الأنفس المُرهفة التي تعلن في شرف.. ضعفها النبيل في مواجهة عالمها.

كانت شاعرية الرجل محاولة لإعادة ترتيب الفوضى، بخطاب شعري يؤسس جمالياته الخاصة انتصارا للرؤية من جهة، وانتصارا للمهمش الجميل الذي توارى بدفئه وغوايته تحت ركام من قبحٍ لم يكن ليتحمله.

لم تكن شاعرية رد الفعل. حقيقة كان يجب الدفاع عن مشروعيتها من كل ذائقة تماست مع شعره. أو أدركت بشكل طبيعي إلى درجة كنها أزمته.
إن المسافة المقطوعة بين شعر الأريكة والواقع الذي سبق عملية الإبداع ذاتها، لا يغرينا بزوال القضية وهنا أعني المستهدف الرئيس من الكتابة، لأن مشكل البوح الذي ينتخب لحظات الكشف كيما تتعرى الحقائق المسكوت عنها، ولو بالتلميح أو الإبانة.. برموز وإشارات تحاول اختزال الأزمة في خطاب شعري ينتصر لقيمة البحث عن جماليات تستحق التقديس، أو تفاصيل بريئة تعاني الغبن. يُشكل في رأيي منطلقات لحظة التسامي المطلوب والتي غادرت في عناد كل ما يشير لثبات الأزمة التي تمنع بدورها تواصله الشفيف مع العالم الذي بات في فطرة الرجل..  قادرا على إنتاج جماله، رغم يقينه المتحقق في اتساع القبح وثراء شواهده.

كان الانتصار للتفاصيل هو المعادل الرؤيوي إذن. والإقرار برفض الانصياع لهذا التراجع. وكان الحب ولقاءه أعظم الأزمات. والبحث عن هذه الأنثى التي ترضى لأن تكون سمكة السلمون التي قطعت رحلة البحث عن روحه كي تقف منتشية تحت هدير الشلال.
كذلك العودة للذات كآخر محاولة للاحتجاج كونه ضدا، وكآخر صرخة تستفز الأنفس الميتة أو تكاد: إني غريب. ولقد آن الأوان أن يحل الخلاص مادامت القصيدة تنزف فوق الصليب.

ربما يحتاج مشهد العامية أن ينتحل بعض الموضوعية، أو أن يكف نقاد الأدب عن ذاك الامتهان الفصامي حيال هذا المشهد إجمالا. أن ينتهي الاحتفال بالموتى الذين أنتجوا شعرا. له ما له، وعليه ما عليه.

لا أريد بأي حال إنتاج أحكام قيمة لا أحب إنتاجها. فحسبي إنني هنا ليس انتصارا للخدرجي كونه شاعرا يستحق، بقدر ما هو تعويض فقير مني لسلسال طويل من شعراء أحسبهم نجوما كانت تبدد عتمة المشهد. بمجرد أن تعبر أسمائهم الزكية حتى لأكاد أبكي. 

نعم يغتالنا سقف الضرورة، وتشغلنا الحياة بالرخيص من تفاصيلها. لكن يا ربما كان الخدرجي باختلافه بابا للدخول حيث هؤلاء الكبار؛ كي نعفر رؤوسنا في تراب الاعتذار.. يا ربما غفروا لنا غفلتنا وأشفقوا علينا. كوننا صغارا حد التلاشي. 


ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...