حامد صبري
مشروعية
المفارقة 2/1
(1)
لا تتحول التجربة نتيجة لمفرداتها بقدر ما يحدث
تطورها باختلاف البيئة التي تمارس فيها. والزمنية الخاصة التي تشارك في صنعها.
ولاسيما أن عبثية قصيدة النثر تنطلق من مضامين الغفلة عن هذه القصيدة وطبيعتها
وأهدافها.
إذا كانت الرومانسية قد أعادت الاعتبار إلى الذات
والغنائية، والتوغل في المضامين الفلسفية، وتقديس الطبيعة والجمال، بعد طول إرهاق
للكلاسيكية والتي انتصرت بدورها للقديم والمحافظ، وعملت على ترسيخ التصورات
الجامدة للحياة وتفاصيلها. وإذا كانت الواقعية قد أسقطت مملكة الحلم الرومانسي من
عليائه في استسلام طوعي منها للانطلاق من الواقع وأزماته، أو العودة إليه إذا جاز
التعبير. فإن الحداثة وما بعدها كانتا محاولتين لإعادة الاعتبار للهوامش التي
أنسحقت تحت استبداد المتون الرئيسية للأزمة في تصورها الكلي المفزع.
لا أريد هنا استنطاق معنى ما يشير لضرورة قصيدة
النثر، أو قيمتها في الراهن الرؤيوي، وحساب قيمة الاتساق مع مفردات واقعها
وتحولاته. بيد أن من الموضوعية بمكان لفت نظر قراء الشعر على إطلاقهم، أو حتى خصوم
هذه القصيدة لحقيقتين:
الأولى: إن أزمة قصيدة النثر لم تعد
أزمة وجود بأي حال. وأن من يذهب خلف هذا التصور ربما يقبع خارج الزمن.
الثانية: إن هرطقات بعض النصوص
المنتمية للنثر، أو المدفوعة بتداعيات الاستسهال والمجانية - يقينا - لا تمثل كل المشهد.
(2)
بطبيعة الحال، ودفعا لذلك التصنيف الكلاسيكي
المتجه لكون الشعر معنيا بالوجدان والشعور، والنثر ذلك الأدب المعني بارتفاع قيمة
الفكر. وهو تصنيف أتحفظ عليه إلى درجة إنكاره. ولاسيما أن "أرشيبالد
ماكليش" في كتابه الأهم{التجربة الشعرية} يقول: إن خطيئة نقاد الشعر، حين
راحوا للزعم بأن النثر ضدٌ للشعر. بل إن الحقيقة المجردة أن الشعر ضد للعلم، ولا
شيء سواه. بل إن الركون لهذه الجدلية ربما أوعز للبعض بنفي الشاعرية نفسها عن خطاب
النثر، وتحويل القصيدة إلى مونولوج عقلي جامد هو أبعد ما يكون عن كونه شعرا.
في حقيقة الأمر لا أملك تعريفا جامعا مانعا
لقصيدة النثر يخصني في إطار رؤيتي لهذا المنتج الأدبي، وإن كنت اعتبرها موقف عقلي
يمكن تأويله جماليا، بما يتسق مع الحد الأدنى من معطيات العرض الفني الذي يكتسب
قيمته من رهافة هذه الرؤية، وطريقة بسط التصورات الذهنية لموقف الذات، وشكل
علاقتها بالعالم. من هنا يجوز الاعتقاد أن روح قصيدة النثر تنطلق أساسا من قيمة
الموقف، والذي يصطبغ أحيانا بممارسات تشبه إلى حد كبير الممارسات الفلسفية. فالشعر
في زعمي ممارسة فلسفية لا تخلو من تأمل، هو يقينا لا يؤسس كدأب الفلسفة تصورات
كلية للعناصر المشاهدة، وليس معنيا كذلك بإنتاج أحكام قيمة تخص مجالات الرؤية،
لكنه في سبيل إنتاج رؤيته يحاول أن يجعلها أكثر غواية، ربما لن يقترب الشعر؛ كي
ينجز حقائق يقينية مسلما بها، لكنه قد يكون أداة أو وسيلة لكشفها أو الاقتراب
منها.
كنت أستطيع هنا أن أشير إلى إشكالية الوعي كمحك
رئيس يقف خلف أطروحات خطاب النثر، بيد أن مشكل الوعي في ذاته، إذا لم يكن متسقا مع
موقف واضح أو يكاد من الأزمة وعناصرها، فإن النص كظاهرة سيتحول إلى ما يشبه
الهذيان باللغة.
(3)
يرتكز خطاب "حامد صبري" على موقف واضح
من العالم، يغلب عليه طابع التحفز، الذي قد يصل للتنمر، وربما نستطيع مع أطروحته
أن نرى امتعاضا أو كراهية، أو آيات عدم الاتساق. موقف من الصعب أن نحاكمه رؤيويا؛
لأن شواهد الأزمة لا تغري بتبني الضد. لذا تتحرك تجربة الرجل؛ كي تنجز اندهاشها،
وفي إطار سياقات هي كذلك مدهشة. تحاول في جهد أن تتلمس معنى واحدا ينتحل بعض
المنطقية. وإن كانت شواهد التجربة من نصوصها تحاول ضبط إيقاع المأساة للتخفيف من
قتامها. رغم كل ما يتداعى من مظاهر عدم القدرة على الفهم، لا لانعدام أدواته، بل
في إشارة لتعملق الأزمة نفسها حيال روحه الشفيفة. وقد أفقد هنا موضوعيتي إذا قلت:
إن كتابة الرجل هي الاغتراب في أزهى تجلياته. فقدان تام للمعنى، وإقرار ضمني بعدم
الجدوى. مع ثقة متطرفة في أن تتزحزح الأزمة من مكانها يوما.
أسألها و هي تمسح على رأس الليل العجوز
و تراقب هذا الذي يجلس أمامها و تضحك
: بدين جدا .. كيف تحتملين بدانته تلك؟
: ليس بدينا، بل العالم هو الذي صار ضيقا أكثر .
لا يمكن الانفلات هنا من إشارات كاشفة أن المصالحة
بين الذات والعالم مستحيلة. بل إن معنى الانسجام المنشود بات أقرب حيال الذات.
الأمر الذي يحيلنا لتلمس الزهد في التعاطي مع خطاب وجداني يسعى للبوح الفضفاض. هي
شاعرية عابر سبيل ولاشك، أدرك القتام، وحاول تخفيفه، يصادف المأساة فيدير لها ظهره
أو يكاد.
أزعم عند التصدي لموقف يماثل موقف شاعرنا هنا،
والذي ارتضى أن يعبر عن مواجيده نثرا، فإننا نصادف خطابا شعريا بطعم الأريكة، لن
أقول بوح العليل للمعالج، وإنما هذيان إشاري يحمل إحالات هذه الغربة القدرية. لكن
في إطار لغة أكثر استقلالية، لكنها مشحونة بالعاطفة المتوترة، والإحساس المرتبك أو
العاجز. فالواقع عدائي إلى درجة، لكنه قاهر، أكبر حتى من قدرة ذواتنا على تحمله في
غالب الأحيان.
إن إشكالية قصيدة النثر على ضفاف تجربة كهذه
تتحدى نفسها؛ كي تنتصر لأهم مهمش في هذه اللحظة(الإنسان) لكن تظل الآلية الأشد
ضراوة هنا كيف يمكن تسريب الموقف بتصوراته الذهنية على تنوعها ومظاهرها. ولاسيما
أن المسكوت عنه على ضوء ما لدي من شواهد، يؤسس لنصوص تريد أن تفهم بالضرورة ماذا
حدث. حتى مع تنامي عزوف الرجل الشكلي عن طرح هكذا أسئلة. بل قد أذهب لأقصى درجات
التهور إذا قلت: إن جوهر تجربة حامد صبري.. كيف أكتب نصا لا أظهر فيه بمثل هذه
الهشاشة؟
كانت الحيلة الأولى لدفع هذا الشعور الطاعن أن
يؤسس النص مقطعيا. في محاولة واعية لوقف الاسترسال في الأزمة. مقاطع ليست يقينا
تتآزر مع غيرها؛ كي تمهد أو تفسر أو تحفز، لكنها زاوية رؤية قد تتوازى مع أخرى، أو
تتقاطع معها. دون الإشارة هنا لمعنى الاستقلالية الحاد لكل مقطع، بل إن المعنى
الخفي المراد الانسلال إليه إشارة على عدم الاكتمال، فالرجل إلى الآن على الأقل لا
يملك حكما نهائيا حيال أزمة واقعه، مع الإقرار الضمني بعد الاتساق معه، وأسبابه
الواضحة.
أمي صديقة مقربة لمذيع النشرة
كلما اختلت به سمعت صياحه
وهو يهدئ العراك الصباحي
بينها وبين كل أمهات
القتلة ..
بطبيعة الحال إن الفطرة التي تستطيع تأسيس
انفلاتها بعيدا عن مشكل الوصف والتوصيف لهي فطرة جديرة بالتأمل، لأن المسألة جدا
ملفتة. فالجمع هنا بين الغنائية والسردية لم تدفع به للإلحاح الذي يشير بدوره
للتوصيف المرعب لأزمة عالمه. لذا من السهل أن نشير لمفهوم الهدنة الشعرية ولو من
طرف واحد. الشاعر على الأقل. وهذه الهدنة قد تأخذ عند حامد صبري شكل السخرية
المبطنة من بعض التفاصيل.
في حقيقة الأمر هناك ثمة علاقة طردية بين السخرية
والأزمة. فموسم رواج السخرية هو من يعبر عن رواج مماثل للأزمة. بل إن من يدعي الآن
تخليق مفهوم المفارقة عليه أن يمتن للواقع كونه ينتج مفارقاته العجيبة التي تسخر
بدورها من أي منطق. فانطلاقا من البدانة في الشاهد الأول هنا. أو العلاقة المرتبكة
بين الأم ومذيع نشرة الأخبار، وكل ما يشير له من غموض التفسير. وغيرها من تناقضات.
إن الاعتراف بالانسحاق أمام هذا الواقع لا يؤسس
وحسب خطابا شعريا يتسامى فوق مركبات الأزمة، دفعا لعدم الظهور بمثل هذه الهشاشة
التي أشرنا إليها. بيد أن من الإنصاف بمكان الاعتراف للشاعرية هنا بمقدرات السخرية
التي تخفف من غلواء هذا الشعور. لكن على الضفة الأخرى من النهر، وفي تماس مدروس مع
الحد الأقصى من الفهم لطبيعة قصيدة النثر، فإن النزوع للدراما، حيث تتسع عوالم
الذات لحضور الآخر في متون هي بالضرورة مأزومة، يمثل حيلة أخرى تبلور هذا الاغتراب
من جهة، وتؤسس لمفهوم الصراع على اتساع مظاهره.
أزعم وقد يصح زعمي أن "حامد صبري" يدرك
كغيره من الشعراء المجيدين أن مكمن إشكالية قصيدة النثر في كونها تصورات ذهنية قد
تكون أكثر تركيبا من العالم، حتى وإن تجلى الأخير في قمة ما يعرض من تناقض. الأمر
الذي يؤسس بدوره لقصيدة النثر كحالة جدلية منشأة لصراعات ثنائية ترصد التنافر، والصراع
على إطلاقه. مع العالم وتفاصيله وظروفه، وربما مع حركة الأقدار نفسها. من هنا
تتأسس الفطنة. فصراع الذات مع عالمها لم ينفِ الآخر. لأن الركون إلى فاعلية
الدراما قد يفقد الكثير من بهائه إذا استقر فعل البوح عند مشكل المونولوج الشعري.
بيد أن اللافت هنا ترسيخا لدرامية النص ذاك الحرص الذي لم يكتفِ وحسب بالسماح
للآخر بالدخول لعوالم الرؤية. وإنما في تخليق حركة تبادلية للمواقع بين تشيؤ
الإنسان، وأنسنة الأشياء.
الشعب أبو بكر البغدادي : يقيم الحد على ظله ..
هنالك فلانتين حدث في غيابك/ و أنا لا أجد غيركِ في المطبخ/ بجانب السكين سكيني التي لا
أستعملها إلا لتقطيع الفاكهة .. تضحك مني باستمرار .. و تشعر بالحنين لأخواتها في
برنامج النشرة/ وأنا كلما فكرت بكِ /هوى نصف شقتي و صرت شرفة!!
تقر شاعرية حامد صبري على ضوء هذا الشاهد أن
إعادة تنسيق الواقع الخارجي على ضوء مشاعرنا الداخلية مسألة جدا صعبة. فلا الرجل
على دراية كاملة بحقيقة العلاقات المرتبكة في ذاتها خارجه، ولا يستطيع إعادة ترسيم
مدركاته التي تتجه بدورها لترميم هذه الشظايا. هي أزمة سياقات ولاشك، تخلق بدورها
تخريجا جديدا للدراما. تندهش ضمنيا من حضور النظام في اللانظام والعكس. لكنها ترصد
واقعية التحولات الحادة التي تثبت يقينا مدى تحقق العبثية كردة فعل حيال عبثية أشد
وأعنف. وتعترف أيضا أن ترف توصيف الأشياء بات فاقدا معناه. وكأننا فقدنا دون رغبة
منّا معنى الوصاية على الأشياء.
(4)
إننا حين نقول المفارقة في شعر "حامد صبري"
لا نقصد أن هذا كل ما يمكن أن يقال. وإن كنت أحاول منطلقا منها للإشارة لعدة
مفاهيم. يا ربما تمكنا من فض الاشتباك ولو مؤقتا. لأن خطاب النثر قد أوعز لدعاة
الاستسهال، واستنادا على المفهوم الأكثر شيوعا الذي يتجه لبناء النص على تصورات
ذهنية والذي أغرى البعض للاعتقاد بكونه تأسيسا لغياب الشاعرية.
اعترف هنا أن الصورة الشعرية هي أهم مقدرات
الشاعر على الإطلاق، بل قد تكون هي المحك الذي يعبر عن أصالة موهبته، وآليات
استخدامه للغة استخداما فنيا.
بطبيعة الحال ومع غياب عناصر الموسيقى الخارجية
التي تم تجاوزها مع الوزن وتداعياته، فإن الصورة كضمانة فنية على التناول العقلي
وتأويل مواقفه حيال الواقع تأويلا جماليا، قد تدفع بالصورة أو لعبة المجاز في
ضرورة أن تتماهى في لحمة النص؛ كي تحمل على عاتقها مضامين التجربة، متجاوزة في ذلك
أداء المعنى في صورة مباشرة. كذلك وتضفي من لدنها ذاك التكثيف الشعري الذي يقتل
المسافة بين الشعر والواقع.
كبقعة زيت التصق الشعر بثوبي
هكذا، وبمجرد أن طوى أبي الجريدة
و قرر أن يكون أبا
ولدت مبقعا
وهكذا ازدحمت حجرتي بالورود والأشجار
والجثث والطيور والموسيقا والغيوم و الطلقات
وجثث ال"أحبك"
المستعملة
إن البيئة على إطلاقها حال اصطدامها بالشاعر
المطبوع تؤسس لهذا الدرب من الصور. مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة الشاعر إجمالا.
لكن هنا أريد الإشارة إلى معنيين على درجة كبيرة من الأهمية. ففي هذا التماهي بين
ما هو حسي وذهني في نفس اللحظة. الحسي المُدرك من لغة الحياة اليومية، والذهني
القائم على دعائم موقفه الأصيل من الأزمة وحكمه عليها. تتجلي قيم الارتباك. هذا
أولا. وعلى صعيد مختلف. فإن القدرة الخاصة على بناء هذا المزج تشير لانعدام قيمة
التآزر بين التفاصيل، والتي بدت في خصومة حدية، حتى قبل أن تدخل إلى متن النص.
الصورة إذن في قصيدة النثر حصيلة وعاء معرفي يؤسس
لوجودها، لكن يظل السؤال مطروحا على شاعرية "حامد صبري" وبالتبعية على
عنصر المفارقة عنده، والمستند في خصوصية على مضامين الارتباك الرؤيوي الداعم لحالة
اغترابه.. كيف يمكن تأسيس المجاز مع هكذا موقف؟؟
إن أول ما يمكن ملاحظته سقوط كل ما يحول بين
النفسي والمعنوي من المدركات. لذا لم يكن تأسيس المفارقة عنده عفويا رغم تجليات
هذه العفوية الزاعقة. بل يمكن القول: إن المساحة القابعة بين النفسي والمعنوي هي
التي أوعزت في تناول ذرائعي صياغة المفارقة استنادا على المغامرة المحسوبة باللغة
من جهة، أو على تراسل الحواس من جهة أخرى، والذي يؤسس ضمنيا جوهر المفارقات
المدهشة. حين تصوغ الشاعرية التماثل في اللاتماثل. وتخليق غرائبية لا يمكن تخيلها
في دوائر التلقي.
حين مشيت على أفواههم المفتوحة الجائعة
عشت ككراسة رسم في يد طفل محدود الذكاء
صعلوك يجر كيسا من الأحزان
والصدمات والمخاوف
إن المعادلات النفسية ولاشك على ضفاف هذه الشواهد
هي العالم الأكثر حميمية من العالم المتخيل بكل بهاؤه. والتي تنشئ بدورها جدليتها
مع الواقع. بمعنى إننا نرى تصويرا يقترب من كونه كابوسا إذا ما قورن بغيره من
مجازات تتحرك بقوة وجودها الواقعي؛ كي تنجز تفاصيل هذه الرؤية الكابوسية.
في حقيقة الأمر إن المعنى الإنساني الذي يسير
كتفا بكتف مع ضعفنا البشري ما كان حال إسقاطه على مفردات واقعنا بقادر على بسط
معطيات تصوير منتمية للحد الأدنى، الذي يعبر عن اتساقنا المفقود. بل إن قمة التجلي
لمأساة الاغتراب قد يأتي هنا ليعبر. لا عن تشويه متعمد لمنطق العلاقات التي ينبني
عليها المجاز، بقدر ما هي إشارة واضحة لانسحاق المعنى الإنساني في عالم مجحف
التفاصيل.
إن العقل الذي يصوغ أفكارا أكثر تجريدا من
مدركاتنا الحسية لا يقع في شرك المغامرة أو الرهان على هذه الحزمة من المحسوسات،
حتى ونحن نصوغ عالمنا الموازي الكاشف بدوره عن عظيم ما نلاقيه من تيه. لذا فإن "حامد
صبري" يقدم لنا تنازلا كاملا عن كابوسه، الذي ساهم في بناء مجازه الخاص ومن
ثم مفارقاته، والتي لا تعكس وحسب ارتباك البنية المعرفية أو التعاطي المرتاب مع
مدركاته، وإنما تعيد تخريج منطق العلاقة الخاصة مع عالم ومناخ عام يغلب عليه هذا
القتام المرعب. والذي يشتت كل محاولة لإقامة تصور يقترب من الوضوح حيال الأزمة.
لذا كان طبيعيا أن نرى تلاطما لمفردات البناء المجازي. هو بالضرورة أكبر من منطق
المفارقة حتى مع الاعتراف بضديتها لكل ما هو مألوف ومكرر ونمطي. وأقول تلاطما
وأعنيها تماما؛ لأن الرجل يقينا بفطرية التعاطي مع منتجه الشعري الثري بتحولاته.
لم يكن يريد ممارسة الحشد الكامل لعناصر جمالية ضاغطة أكبر من ضغوط الواقع المعني
بمجازاته. بمعنى أن يظل التلاطم أولوية عنده إذا ما قورن بتكثيف المجاز في كتابة
تضفي أجواء من عمى قد يفقد الصورة في المطلق قيمتها كإضاءة للأزمة وعناصرها.
خمسةُ جنيهاتٍ أتحسسها
و هي تجلسُ بمجونٍ في جيبي
وأفكر - ربما - كنت سأحبكِ أكثر
لولا ساقاها العاريتان
من أكثر صور المفارقة رهافة تلك التي تجعل من
الأشياء تتسامى فوق شيئيتها.
لاشك أن العالم على حالته تلك سيكون منتجا سخيا
للمفارقة. ففي حال الفقدان شبه الكامل للمعيارية وغياب الحد الأدنى من الاتساق، مع
سيولة الأوضاع. فنحن نعيش في هذا الارتطام الذي تمثله في هذه التجربة. الذات
وعالمها. بل إن شاعرية الرجل على ضوء هذه الشواهد القليلة نسبيا تؤسس لغياب
الأسباب الواضحة التي تنعكس بدورها، كي تجعل من النص نتيجة هلامية إلى درجة.
إن المنتج الشعري عند حامد صبري هو إقرار بالفشل
المتطرف على القيام بأي محاولة للتأليف. وأزعم أن قصيدة النثر الآن هي تجسيد لهذه
المعضلة. وإلا لِم كنا نتحدث عن جماليات التشظي، ونؤسس حداثتنا – أحيانا – على
الإقرار بالطعن في الأبدي والانتصار للامكتمل؟
{أمي تنام قطعة من الحلوى في ورقة سيلوفان}، { كان قبل اختراع الحديقة يتكلم عن
الغيوم}
لقد قلت مرارا: إن الشاعر المجيد عليه أن يذهب
لأبعد نقطة من جنونه، لا لكي ينهل من معين هذا الاضطراب، بل وهنا المأساة؛ كي يحقق
حالة من الانسجام مع جنون العالم. إن أبدية المعاناة في رأيي أن تجابه الجنون
بخطاب عقلي واع. والتي أحسبها حيلة دونكيشوتية إذا جاز التعبير في التعامل مع واقع
طواحين الهواء. فإذا كان العالم يضرب كل
أشكال التوقع، ويسخر علانية من أي منطق، فلا أقل من أن يأتي الشعر وليس هنا تحريا
للمصداقية بقدر الحرص على خلق مساحة من الكشف قد تساعدنا في فهم التعقيدات الحادة
التي تنبثق من جدليات مجهولة المصدر، أو على الأقل تعجز في نفسها أن تتسق مع حدود
رؤيتنا.