لكل خطاب روائي ثمة غواية، إما أن تدفعك لملاحقة نمو
الحكاية استنادا للدراما في صعودها؛ كي تصل لمآلات السرد. أو أن تدفعك
دفعا للتربص بالمتن. لا لكي ترصد مفاصله، وإنما لتحاكمه أحيانا. ولاسيما أن
الصفحات الأولى لم تخذل توقعاتنا. امرأة تكتب، وامرأة هي محور الأحداث التي انصاعت
طوعا وكرها لصولجان الراوي العليم المهيمن على كل تحولاتها، يخلع عليها وعلى
الشخوص المحيطة بها أحكامه، يتكلمون من خلاله، ويحلمون أحلامه، ويتشكلون كصدى
لإحباطه.
لم يكن صعبا بأي حال أن تبحث" مي سعيد" عن أفق
زماني أو مكاني. فالواضح أن صوت الراوي قد انتخب 2012 كمنطلق للسرد. ففي إشارة جدا
واضحة(ص 14) { طبيعي جدا أن تكون هذه هي طريقة الإخوان
المسلمين في الحكم وإدارة البلاد. فلِم العجب!}
في حقيقة الأمر لا أريد محاكمة النية التي تتصدى لنسج
حكاية هكذا تبدو أو تكاد. بيد أن هذا التاريخ بعيدا عن إشاراته هنا. كان من الممكن
أن يرصد في تشكيل دلالي أبعد أزهى أشكال التشتت والتشرذم الذي يستطيع بدوره أن
يستفز كاتبا أن يحكي من منطلقات هذه اللحظة؛ كي يرصد الانقسام والبراجماتية
الرهيبة التي مارسها الجميع. لكن هذا لم يحدث. لا لشيء، لكن يا ربما قد وقعت الكاتبة
في غواية (نور) لتمرير الأفكار والرؤى التي يراد تصديرها في متن روائي لم يكن
قليلا على حساب صفحاته، ولم يكن كبيرا كذلك.
بطبيعة الحال تتحدث الرواية عن فتاة قاهرية من أسرة نرى
أفرادها كل يوم في حياتنا. فتاة تمثل منطق الأنثى الأزمة. أو الخطيئة على حد تعبير
الكاتبة. هنا يطالعنا أفق المكان. الذي يتشكل مع أزمة الشخصية الروائية، حيث
القاهرة بكل ضجيجها وزحامها. الشعور الحاد بالاختناق الذي يجعل من الواحة والصحراء
والنخيل مجرد حلم يتكرر كحيلة هروبية من كل عناصر الضغط المحيط بالشخصية المركزية،
وعالمها في آن. بالإضافة إلى ضغط الثلاثين سنة والتأسيس الدرامي لهاجس العنوسة.
والذي وإن لم يضغطها من ذاتها، فمؤكد يضغطها اجتماعيا. ولاسيما أن آلية التعريف
والتوصيف لـ (نور) لا تغري بالاعتقاد أن هذه الفتاة قد تصادف أزمة بوار محتمل،
كونها على مقاييس معينة تحوز قدرا من الجمال. هنا تطرح الرواية أول أسئلتها. أين
الأزمة؟
إن ثمة علاقة طردية بين المتن والهامش في الخطاب
الروائي، والذي يعكس بدوره ثنائية باختين الشهيرة: الأنا السارد، والأنا الكاتب.
الأول هو ذلك الحكاء، والثاني هو محور الطابع الإرسالي في الرواية، والذي يحمل على
عاتقه مضامين الحكاية وأهدافها. هنا نلتمس ولاشك قيمة أن تحكي من منطلقات لم يكن
من الصعب الرهان عليها. فمنذ أن تبدأ سباحة في عوالم الروائية "مي سعيد"
حتى تدرك أهم إشكالياتها وشكل تعاطيها الرؤيوي مع العالم.
فلم تكن حكاية (نور) مع عالمها القشوري المستفز يؤسس
لأزمة وجودية وحسب، وإنما حضر تأسيس الموقف الأيدلوجي حيال حالة مجتمعية لا يمكن
إنكارها، ربما ترتكز على مقطع رأسي وأفقي من حياة هذه الشخصية المركزية، ولاسيما
إن السرد لم يسع لأن يرصد ريبورتاجا عن اليومي بتفاصيله في حياة هذه الشخصية. بل
أسس في تناول أشهد له هنا بالوعي المدروس في صياغة متواز لهذه الحياة يأتي من
تفاصيل حلم يعكس أو يبلور أو يكشف إلى حد بعيد عناصر الكشف والانفتاح للفاعلية
السردية. حتى وجدناه هو مبتدأ الحكاية..
{تقف في وسط الصحراء والنخلات
تحيط بها من كل جانب، أدركت أنها في الواحات، فهذه هي الصورة التي رسمتها لها من
خلال ما رأته من صور. وما قرأته عنها. بينما هي واقفة مرَّ بها العديد من الناس
يلقون عليها التحية، ويدعونها باسم آخر غير نور}
بطبيعة الحال كانت الرواية في متونها السردية محاولة
لتفسير هذا الحلم. ففي الإحالة الأولى هو مجتمع بداوة، ولست أدري يقينا كيف يمكن
المطابقة بين المتخيل والواقعي الذي يجعل من هذه الواحة الحُلمية مطابقا لِما
قرأته أو تسمع عنه؟ رغم يقيننا أن الحلم ضد المنطق في غالب الأحيان.
حاولت جهدي استنطاق قيمة هذا الخلط فوجدت ملمحا من يأس
يجعل من الحلم هو منتهى ما تريده الرواية، رغم ما يمكن أن يميل بي ولو بشكل شخصي
للاعتقاد أن هذا الحلم نفسه كان من المفترض أن يكون الرواية في أغلب مفاصلها. وليس
عندي من دليل لقارئ الرواية المتمرس حين يصادف كل ما يشير لجفاف حياة بطلتها. بيد
أن منتهى الحكي يعود بها للواحة لاستدراك قيمة أن نبدأ من هناك إذا كنا يقينا نريد
الإصلاح.
أزعم وقد يصح زعمي أن هذا هو المفتاح الذي يجب من عنده
أن تنطلق الرؤية حيال أزمة المتن كاملا. لكن للصدق كان الخطاب الروائي يبتغي في
نفس اللحظة محاكمة نسق التدين الشكلي أو
الإشارات الصريحة والضمنية لأزمة تيار بعينه يدعي امتلاك الحقيقة أو للدقة
المصادرة على تعاطي الناس مع مفهوم الإيمان، وما يتبعه من سلوك وممارسة. ربما لا
يغرينا هذا أن نقول بحدوث تشتت في القيم المراد طرحها؛ لأن الرواية بالفعل على
درجة كبيرة من التماسك، لكننا كنا نسبح مع تيار السرد حتى نتعثر في قيمة فكرية أو
رأي على درجة من الصدامية كان من الضروري أن نتوقف عنده طوعا أو كرها؛ كي نؤسس
علاقتنا الإيجابية بالرواية إجمالا. هذا بالإضافة لصولجان اللغة التي أحسبها على
ضفاف هذه الرواية كانت على أعلى درجات الصفاء والشاعرية، وبلاغة الأثر.
{ أصدقاء نور هم انعكاسات
متعددة لها، نيجاتيف لصورتها الداخلية، صدى الخفي الجلي}
لا يوجد غضاضة بأي حال أن تكون راويا عليما وتقع في
غواية بطلة قصتك. قيمة جمالية أضافتها"مي سعيد" هنا بسلاسة. لكن لن أقول
لتماهي الأزمة، أو لكون امرأة تكتب عن أزمة هي جزء لا يتجزأ من أزمتها أو تكاد. بل
قد أصل لمنتهى التطرف إذا أدعيت -جدلا- أن
مركزية الأزمة التي تناولها هنا الراوي العليم هي قضية ذات بعد تأصيلي استهلك عمره.
ولعلنا نلاحظ هذا الثبات النسبي لعناصر الأزمة الواقع عليها فعل السرد. فالرواية
تقريبا لم تبرح شخوصها وثباتهم الرؤيوي، ولا ثبات أماكنهم، هم بالضرورة يخضعون هنا
لهيمنة الراوي العليم، بيد أن من الإنصاف بمكان أن يتحركوا في إطار رواية محدودة
الصفحات دون أن نلمس نموا استعاريا في أدوارهم المحددة سلفا، بمعنى أن يتوقف رد
فعلهم الدرامي الذي ينعكس بدوره على شكل حياتهم والآخرين، حتى وإن خضعت لهذا
التشويه المقصود لذاته، متى أرادت الراوية.
إن الإشارة
الدلالية لمجتمع البداوة الذي يؤسس له حضور الواحة، الصحراء والنخيل والتمر،
والعابرون الذين لا ينادونها باسمها الحقيقي.
هذه الواحة نفسها تعرضت في إطار واقعها لمحاولة أنثى أخرى بخلاف نور{ لات:
روح حرة /محاربة/ قوية/.. وغيرها من صفات}
إن غواية التغيير في بيئات اجتماعية على هذا القدر من
الثبات هو مكمن الأزمة التي تنتصر لها الرواية. وأزعم أن إشكالية الربط بين
مدنية(نور) وهذه الصحراء بمكوناتها(الواحة) ربما تلقي الضوء على قيمة المثقف
والمختلف في بناء التغيير المنشود الذي يستطيع أن يضرب أنساق الخرافة والجهل. وقبل
كل هذا محاكمة هذا الثبات. بل إن (نور) في الدلالة الأبعد لمنطق السرد هي نموذج
يشير ضمنيا لضرب هذا الثبات الذي تكوَّنت على ملامح شخوص أزمتها كل معاني الدهشة..
حين تطلب بإرادتها أن تنتقل من المدينة بصخبها وحراكها كي تعمل وتعيش في هذه
الواحة. في إشارة جدا مهمة لحقيقتين:
الأولى: المسئولية الأخلاقية لحزب المتعلمين والمثقفين حيال أزمات الناس ولاسيما
في هذه الأقاليم النائية.
الثانية: التأكيد على أهمية البدايات التي يمكن أن نؤصل نظرياتنا على ضوءها
وصلاحياتها للاختبار في مجتمعات بسيطة، دون الوقوع في فخ أن مجتمعات المدينة
المعقدة باتت عصية على التغيير إذا ما قورنت بهذه البيئات الاجتماعية.
لاشك إن هذا المستوى من الدافعية هو الذي خلَّص الرواية
في رأيي من نمطيتها، وهنا أعني موضوع الكتابة النسائية التي تكتفي فقط بتوظيف
السرد لإظهار هولوكوست ذكوري تعيش فيه المرأة إذا جاز التعبير.
لا أستطيع أن أسير مع أصحاب القراءات البريئة للأدب أن
الرواية تنتحل مصداقيتها حتى وإن حدث ذلك التماهي بين الواقعي والمتخيل. واستنادا
لهذا الامتزاج الرائع بين متون السرد على دفتي الفصحى والعامية. بل يمكن القول أن
الفصحى في مكانها المحبب. والعامية في إطار توظيفها الفاعل الذي ينعكس بدوره على
مصداقية المتن إجمالا وارتباطه الوثيق ببيئته. وحتى لو ارتديت ثوب المدافع عن
عتبات كل فصل والتي قد تأتي كسياق حَكمي، أو مقولة مفتاحية. فإن هذه العتبات في
تفسيري لوجودها. تبدو لي إشارات مختزلة لأزمة المتن المنطوي تحت لواءها من جهة،
وإشارات مفتاحية من جهة أخرى.
أزعم وقد يصح زعمي أن بسط معطيات المنطق على عالم النص
وتشكيلاته. والتي تدفع بالقارئ لمحاكمة النص وإبراز عيوبه وحسناته لم تعد في
الخطاب الروائي الآن ذات بال. رغم صدامية الثلاث عشرة صفحة الأولى. والتي تجعلك
تعتقد إنك تقرأ أحكام تتسم بالإطلاق. بل قد أذهب إلى أبعد نقطة إذا قلت: إن هذه
الرواية من الممكن أن تظلمها القراءة الأولى. ومن حسن الحظ أنها محدودة الصفحات؛ كي
نتمكن من إعادة قراءتها، وندرك تغطيتها الكاملة أو تكاد لأزمة الفعل الروائي
نفسه. والذي تسلل في ثنايا لغة أحسبها على أعلى درجة من درجات النقاء.