ثمة فرق كبير بين الإيمان المطلق، والإيمان
المتوتر الذي تحركه الظنون. وفي حياة رجل مثلي لابد من قضية كبرى أحيا من أجلها.
خذلتنا السياسة ومآلات الثورة، تسلل العمر من بين أصابع إرادتنا، أرتد القلب إلى
حال البراءة الأولى؛ خال من البحث عن الحبيبة المستحيلة. أختطف الموت نصف جيلي أو
يكاد، ولم يتبق لي غير العامية والخدرجي.
العامية.. يا الله!! شعر البسطاء والمنسيين.
والعالم الأكثر طهرا ورحابة. بيد أن الراهن الذي تعيشه محبوبتي قد أتى عليها
بالكثير من التشوهات. باتت تعاني من سيولة النظم والأفكار والاجترار. والتشابه الضاغط
والتكرار الكريه.
هنالك كان ذلك الشاب النحيل يقف وحيدا منفردا،
يغترف من روحه ودمه مداد هذا الحلم في عامية أقرب للتجلي.
لم تكن تجربة الخدرجي في زعمي تتحرك في عالمها
بروح الباحث عن العامية وحسب، بل إنه المغامر القديم الذي يبحث عن الأرض الجديدة
والبعيدة، التي تستطيع أن تستوعب أحلامه في الاختلاف. وفي سبيل ذلك مارس طوافا
يكاد يصل لحيرة الفراش المولع بملاقاة قدره المحتوم محترقا في يقين الضوء. مؤسسا
لشاعرية عالمه الخاص الذي يعيشه بكل تفاصيله. مستندا فيه على الرهافة، والدخول
الشفيف لأزمة الذات والعالم. ويعيد ترجمة أصوات المنسيين والمهمشين بصورة أكثر
حضورا وتأثيرا.
قد يبدو شعر الخدرجي من أول وهلة متساميا فوق
الشعور الحاد بالأزمة، لكن حتى هذا المعنى لا ينفي الواقع المأزوم بطبيعته. بل قد
أذهب لكون هذا السمت محاولة أصيلة للإقرار بصعوبة الحياة في تفاصيلها التي تتجلى
على هذا النحو المفزع. فقصيدة الرجل في مبناها محاولة لخلق العالم المرجو، لكن في
الكثير من معانيها تبدو لي كحصان طروادة، تبتغي اللحظة المناسبة لتحطيم كل مركبات
الأزمة التي يكشف عنها الزمن وأهله، بل وأزمة العامية نفسها.
في هذا المنعطف، كان لزاما أن يتبنى الخدرجي
خطابا جماليا خاصا يمثل الوسائل التي تمنحه هذا التسامي، وتستطيع بدورها أن تمرر
رسائله الممتعضة حيال واقعه. لذا من السهل أن نلقى المجازات العميقة والمدهشة في
آن. والحضور الطاغي لأسلوبية تتصاعد بالعامية لإنجاز أهداف شعرية وفنية أكبر منها.
الأمر الذي يخلق من لغته مناطق أكثر غواية من لغة العامية في استخداماتها
المعتادة. ولن أتحدث عن اللغة، فمتابعو الرجل يعرفون باليقين كيف يستعملها، ولا عن
مجازاته المدهشة التي تنتج إحالاتها على أروع ما تكون الإشارات والتأويلات. بيد أن
ما يبدو جديدا هنا أن العالم بتفاصيله قد بات متحدثا عن نفسه. الزمن يشكو مستجدات
باتت غريبة عنه. والمكان يئن تحت ضغط التشوهات المستحدثة والتي أفقدته معنى أن
يتسق مع نفسه، والشاعرية تصرخ من فداحة غربتها.
"جليمونوبلو" ديوان بطعم العودة لأكثر
من طريق. تبدأ من الذات مرورا بالواقع، لكن أي واقع. والماضي في كثير من الصور
يحضر كإدانة للراهن الإنساني والشعري معا. حتى لتشعر في لحظة ما أن الشعر هنا قد
تحول لاستغاثة رجل يستشعر عظيم الكارثة. يتحدث للنبي(ص)، وإلى الله سبحانه. يتوسل ويقر
بذنبه؛ كي ينال التطهر المطلوب. وعلى الضفة الأخرى من النهر. سنصادف مونولوجاته
العاطفية الرقيقة، التي تصدر حالة العشق في جلالها المثير، لكنها تعكس-كعادته- استحالة
تحقق النموذج المعني بمشاعر الرجل الذي لم يهدأ أو يتوقف عن البحث. يا ربما وجده
أخيرا. أو السقوط مجددا في آتون الغربة التي يجوز توصيفها بالغربة المرجعية.
العصية على التحطم إزاء نموذج أنثوي على درجة من الغواية تستطيع أن تكسر الحصار
الذي يمنع هذه الروح من التحليق في سماوات الحب بالصورة التي تتسق بدوره مع ما
يتمنى.
أزعم أننا بصدد ديوان ثري. قد أخذ من روح صاحبه
الكثير. لذا أدعو القارئ المحتمل لعامية الرجل أن يلتمس طقوس الشاعر في عرض
مواجيده؛ كي يدرك أن العامية ليست هي كل ما يُطرح على ذائقة التلقي.
