الجمعة، 30 مارس 2018

وطر الروح.. جماليات الأزمة.. لــــــــ وئام أبو شادي

(1)

وطر الروح.. لم يحمل العنوان اسماً غرائبياً، لكنه يكشف إلى حد بعيد وفقا لتأويلات(وطر) إنه المطلب والغاية والهدف والبغية التي تسعى لإدراكها الروح.
توقفت كثيرا عند إشكالية الاختيار، ولماذا لم تكن النفس بديلا عن الروح؟

أزعم أن النفس قد باتت في طور المصطلحات سيئة السمعة بالضرورة، وأذكر أن قرأت على لسان أم كلثوم في حوارها مع الصحفي المهم محمود عوض قالت:
إن نفسي هي أبغض كلمة إلى نفسي.
هنالك ظننت أن المطالب الإنسانية في حقيقتها ربما ترتبط بالروح التي لا تفنى، ولا يطرأ عليها من زوال. وكأن النفس لا تتسق بأي حال مع سرمدية الاحتياج الذي يليق بديمومة الروح حتى بعد الموت. وكأن طاقة الحاجة كامنة فينا، لا يعطلها الموت نفسه. وعلى ميزان التوفيق في اختيار العنوان أحسب الروح كبديل مشروع عن النفس قد يكون من سبيل المبالغة الدالة على شغف الإنسان الدائم لإدراك الأشياء والمعاني، كما إنه يحمل سمتا صوفيا يفسر الأشياء بردها لأصولها الغيبية.
   
"وطر الروح" أحسبها سيرة ذاتية للاوعي فصامي، يعترف طوعا في سرد بديع بمكامن المأساة وانعكاساتها على الآن، والقادم من تفاصيل درامية تخص الشخصية وتفاعلها اليومي مع عالمها.
ربما لم يحدث تحايل من الكاتبة كي تبدأ في السطر الأول الحكي من الداخل {أنا راغب داود}. بعد هذه العتبة وإلى النهاية فجَّرت الرواية العديد الإشارات، لعبة السرد، علاقة المتخيل بالواقعي، الإحالات النفسية ودوافعها. وعلى الجانب الأسلوبي لمسنا حساسية الأنا الساردة مع اللغة، والتواصل الشعري مع توصيف الأحداث، وبخاصة تحريك عناصر الحياة اللاواعية التي تحتاج للغة على هذا القدر من الشاعرية القادرة بدورها على انسيابية الحركة بين الواقع والمتخيل(إرهاصات لاوعي الشخصية).

"عشقي للشر من مستصغره إلى أكبره والذي كان يقطن كل نوافذي جعلني لا ألتفت إلى بصمة الله البديعة الوهابة لخلقتي أو استثمارها على أي نحو..وهكذا بقي وجه حاتم الذي كان يحمل روح العصافير عائقا بيني وبين سلامي الداخلي ليال طويلة.. تًبا لكل نظراته الرحيمة"

في حقيقة الأمر لا توجد سلطة للخطاب السردي تجعلنا نثق في ذاكرة الحكاء، فإذا كانت طبيعة الراوي العليم إنه يسيطر على كل تفاصيل الحكاية وشخوصها، فإن الراوي من الداخل ينقل بصورة فردية موقفه الخاص من العالم. قد لا يتورط في إنتاج أحكام قيمة، بيد أن أزمتنا مع هذا الشكل السردي في إشكالية التلقي، أو بالأحرى بلاغة أثر الأحداث المروية على محك الصدق، وهنا لن يجد القارئ أزمة في تلقي الحكاية، أو الطعن في كون هذه الشخصية والشخصيات المتحركة في عالمها لا تنتمي للواقع. دون التورط في محاكمة هذا النمط، الذي يُحاكم أصلا من خلال الذات الروائية.

"وطر الروح" في نظري لم تخترع تيمة أراها قد صارت متحققة كثيرا في روايات هذه الحقبة، وهنا أقصد حسابات المرآة، أو انتهاج كتابة تبتغي التعرية، والفضح والكشف لنماذج بشرية تستحق الرصد والتحليل. لكن هذا لم يحدث يقينا، بل ذهبت الرواية لما هو أبعد، لأننا يقينا أمام إشكالية متطرفة من التحليل النفسي الذي لا يعري بقدر ما يبحث فيما ورائيات السلوك، منظومة الدوافع، الاتجاهات وتكوينها، التعاطي المركب مع تفسير الشخصية لحركتها وحركة الآخرين.
هنا لا نقرأ مونولوجا دراميا. يشبه ما يحدث في المسرح حين ينبري البطل في حوار طويل يضيء به العرض، لكننا نقرأ أحداثا تقترب من كونها حديث أريكة، وكأن المريض يسرد ماضيه كي نلمس منطقة العقدة التي أنتجت هذا النمط المركب.

(2)

إن البنية السردية في هذا الإطار تخلق عالما مسكونا بالحيرة والتخبط، تتمركز فيه الأزمة؛ كي يأخذ كل واحدٍ من شخوص الأحداث نصيبه منها، فقد نلمس هذا الترابط الخفي بين الذوات في تشتتها وديمومة الشعور العارم بالبحث عن استقرار مستحيل. الغريب أن صوت الساردة هنا جزء لا يتجزأ من أصوات عديدة متشابكة ومتداخلة. لكن ما لم يجعلنا نشعر بفداحة هذا الطقس أن الزمن الروائي كان طبيعيا ومنطقيا ويتحرك في انسيابية تتسق مع مفهوم الزمن الطبيعي وليس الروائي في معناه. لذا رغم يقيننا في أزمة شخوص المتن، كنا نسير خلف الأحداث في تدفق لم يجعلنا نشعر ببشاعة الأزمة بشكل ضاغط، وكذلك لم نندفع لإنكارها.

للصدق حاولت أن أفسر ذلك الأمر فوجدت:
إن العودة للمفهوم الشائع للسرد الغنائي هو المسيطر على تقنية الكتابة، فالذات المركزية -عادة- لا تستطيع كسر الزمن الروائي، وهنا أعني قيمة الاستباق(التقدم في الزمن) والاسترجاع(العودة للماضي) أو الإيهام بالواقعية، أو على أقل اللجوء لتيار الوعي كأن نطلق لأنفسنا العنان كي نعلق على الكتل السردية التي تنطوي في دواخلها على مناطق ملبدة بأزمات نوعية مركبة أو تكاد. أو نكسر الزمن ونجمده ونختزله، لكن هنا لمسنا ببراعة عنصرا مهما من تيار الوعي وهو الاستغراق في التفاصيل واللغة في ثوب التطرف الجمالي، والحوارات المُرمزة الشديدة الإيحاء.  

إن التقاطع الأدبي في الخطاب السردي دراميا لا يمثل ركيزة أساسية لفكرة التصعيد التي ينبني عليها هذا النمط من السرد، بمعنى أن منطقية الأحداث أو تسلسلها في إحكام لا يعني بالضرورة تقديس الزمن في المعالجة الروائية، ولاسيما أن روح المونولوج ظلت للنهاية منطلقة من الصوت الواحد الذي أسس الحكاية من بدايتها. وأزعم أن اللغة هنا كانت تنتصر لكسر التوقع من خلال سياقات سردية تغنينا بشكل مؤقت عن شعورنا الطبيعي بالزمن الروائي الذي بدا في تدافعه غير محتفل باقتحام قدري لأحداث مباغتة قد تكون قادمة من زمن آخر وحيوات أخرى. رغم أن التأسيس المتوفر لشخصيات الرواية قد جاء من ماضٍ يتم سرده، وليس ماضيا يتم استدعائه كي يقتحم لحظة السرد الآنية. أو لنعيد صياغة الحقيقة السردية بطريقة أخرى أن نقول: إن الآن جاء من رحم ماضٍ سبق الإشارة إليه وبطريقة طبيعية للغاية. فالرواية لم تبدأ يقينا من الآن. وهذا التوجه قد ينفي حدوث ما يفاجئ القارئ حال تتبع مآل هذه الشخصيات. بل ويصادر على شكل النتائج التي لعب فيها الماضي دور المقدمات إذا جاز التعبير. هنالك يشعر القارئ وكأنه أمام سيرة ذاتية متوقعة  للراوي المركزي. لكن حتى هذا المعنى يمكن دحضه فالخطاب الذكوري مع حضور الساردة الرئيسية(سيدة) قد يؤجل هذا الظن، وإن كان يحيلنا - فرضا- لمعرفة يقينية تربط بين المبدعة والشخصية الرئيسية في روايتها. والرواية برمتها قد اتخذت سمت المحاكمة لهذا النمط. من زاوية أخرى فإن الإشارة في زمن مرتبك لنفوس على هذا القدر من التشتت ليس من دواع التشهير، بقدر ما هو نوع من إلقاء الضوء على عوار بعض النفوس وإن كانت الإشارات هنا أكثر تماسا مع دوافع هذا العوار وأسبابه. دون الوقوف كثيرا عند مشكل الارتباط العضوي بين الذات الساردة وشخوص الرواية.   

لاشك أن الإيهام بالواقعية في هذه الرواية قد يكون مردودا عليه. وخاصة أن النماذج البشرية التي تماس معها المتن الروائي لا تبدو غريبة بالكلية، فاليومي قد يمنحنا شخوصا على هذه الشاكلة، والظرفية الزمنية والمكانية ليست خارقة للعادة، فالرواية هنا هي الحياة. بيد أن المتن في إشاراته وإحالاته يدفعنا  لإدراك مساحة أخرى من الوعي المدروس الذي سبق عملية الخلق الفني، فعناصر التحليل للأزمات النفسية، ومشكل الدوافع، ومكامن العقدة التي تتبلور بدورها لحتمية ما، تدفع بالسلوك لمنطقة معينة، تكشف إلى حد بعيد أن الرواية هي في حد ذاتها هامش تفسيري لمتن آخر قد تم إخفائه(عالم النفس الغامض). وأن الأحداث المروية ليست كاشفة عن أزمة بقدر ما هي شواهد على أزمة أخرى أكبر وأعنف.  

"طلابها يشعرون دائما أنهم شعب الله المختار على هذا الكوكب.. يأكلون وسط رائحة الدمار، يشربون بكل هدوء أمام عفن الجثث لا يبالون لشيء.. و ُرغم أني اعتقدت
أني المادة الخام للشر أحادي الخلية.. إلا أنني أبدا لا تستدعيني معطياته المأخوذة من الدم"  

لكن ورغم كل هذا من الصعب بمكان أن نشير هنا أن "وئام أبو شادي" تمنحنا تصورا كليا للمجتمع، وبخاصة عند واقعية الأزمة، وأحسب أن الرواية -أي رواية- لا تبتغي إنتاج أحكام قيمة حيال واقع على هذا القدر من الارتباك.

في حقيقة الأمر ودون الرهان على كون الكاتبة(سيناريست) في الأساس. كنت أسأل المتن في كل مرحلة من مراحل القراءة سؤالا مفاده.. إلى أي مدى لا يمكننا كسر الزمن كي نحافظ على ما يمكن تسميته جماليات الترابط؟

بطبيعة الحال أستطيع القول إن أهمية هذه الرواية لا تكمن في فكرتها، ولا للغة التي صيغت بها، رغم إقرارنا برهافتها وشاعريتها. ولا لمناخ الجرأة على اقتحام التفاصيل، فالمناخ الروائي هنا يقدم بوضوح عالما يتصف بالخديعة وانسحاق المعاني، اللامنطق واللاجدوى، الاغتراب والوحدة، وكثيرا من الملل والعبث. لكن في إطار أكثر انضباطا من تفاصيل ذلك المناخ. هنالك يتقاطع المنطق مع شخصيات خارج الأطر المنطقية، تعجز عن تفسير الأشياء. وآفة هذا الشعور تكمن في كوننا نلمس الحيرة موضوعة وفق قوانين على درجة من الثبات وهذا ظل يشكل في نظري هذا الشعور بالدهشة كلما توغلت في الحكاية، فكيف يمكن أن نلمس هذا الترابط وهو يحوي في داخله كل هذا الكم من الاضطراب.

إن قارئ الرواية المتمرس قد لا يصادف أزمة تفسير هذا السمت، إذا كان من الأساس من الذين يسيرون في فعل القراءة وفق قوانين السببية التي ترتبط بمنطـَّقة الأحداث وتسلسلها الخالي من الوثبات الفجائية التي تضر حسابات السياق، لكن بحسابات الممارسة الأدبية لم نلحظ لغة متوترة تتسق بدورها مع توتر الأحداث وحيرة الشخصيات. وإن كنا قد لاحظنا تناولا خشناً يستطيع نبش الذاكرة كي تجتر عذاباتها التي أثرت على شكل تعاطي الشخصيات مع عالمها وظروفه. ناهيك عن الإيغال في الوصف على حساب التحليل الذي هو بطبيعته كان ركيزة الرواية.
   
(3)

توجد ثمة علاقة قوية بين التفاصيل المروية متى كانت غزيرة ولعبة الإيهام بالواقعية، لأن التفاصيل حال تتلاحم وتترابط تنتج إلى حد بعيد عالم الرواية إجمالا. لكن من جملة مناقب هذا المتن الروائي أن التفاصيل قد اتخذت تخريجات جديدة. ولكنها أسست عالمين متوازيين يؤيدان هذا الفصام المنشود التي تريد الرواية أن تلقي عليه الضوء. كما أن للأشياء سلطتها حيث تناكف شخصيات الرواية حتى لتحيلها في بعض الأحيان إلى مجرد أطياف تقدم من خلال أثاث أو أكسسوار معين، كما أن الأسماء رموز في ذاتها، قد تبرز كتهاويم أو تنزوي مهمشة تحت ضغط الأزمة.

إننا لا نرى عالما روائيا يجوز رصده إلا إشكاليا، تجاوز المفهوم النمطي للعالم في تركيبه الإشاري الذي يمنحك تصورا جيدا عن الحركة. ومن أين تأتي الحركة ونحن نقرأ توصيف الفعل وليس حركته في إطار وظيفي يمنح الزمن مشروعيته، فالزمن هو ذلك الإطار الفيزيقي الذي يحوي أفعال البشر بين لحظة وأخرى. لكننا هنا نطالع يقينا آثار الأفعال ودوافعها، الشخصيات المأزومة هي السمت الأبرز وليس العالم بطبيعته الذي تتحرك فيه هذه الشخصيات، لذا من الممكن أن نبرر هذا الشعور الخفي بانسحاق المكان والزمان أو ظهورهما الطيفي وكأنهما منسحقان كشخوص الرواية. طرأ عليهما نفس التشوه. أو إننا نرصد جدليات ثنائية تتحرك فيها الشخصيات كي تشرح أفعالها ومبرراتها وتغض الطرف أو تكاد عن مفهوم الظرفية التي تُخلق في إطارها هذه الأفعال.

قد يسأل البعض أين ذهبت هذه الظرفية؟
أقول: إن النمو الاستعاري للأحداث المروية والمستند على براعة اللغة الوصفية كان يخفي في طياته هذا الشعور بالمكان والذي تجلى كضباب، وبدا الزمن على الضفة الأخرى وكأنه أكثر تشظيا وغموضا من البشر ولا يمكن الإمساك بتفاصيله. وربما لو اندفعت في تبرير أكثر لهذه الإشكالية لذهب لكون العالم الروائي قياسا على مركبات الأزمة النابعة من حياة أبطاله وعلاقة ماضيهم بحاضرهم لأدركنا بلا شك أن الزمن لا يمكن إدراكه للذين استسلموا لنوازعهم وهواجسهم، والذين تمركزوا حول ذواتهم. أو أن توقف الشعور ببلاغة الفعل والتأثير، غالبا يتجاوزهم هذا الشعور بالوقت. هذا بالإضافة لعدم الشعور بالمكان أو يا ربما استحكام حالة من العدائية مع هذا المكان ومن فيه.       

"لأجد نفسي في غرفة العناية المركزة في المستشفى.. الأجهزة ترتدي كل جزء في جسمي.. وبدا كل شيء كالضباب وصفير يروح ويجيء في أذني.. أنظر للمكان  وأحِدق
 في الفراغ"

من جملة الأسئلة الإشكالية في هذه الرواية وأكثرها غواية وإمتاعا أنها تبلور الأزمة والحل دون تلميح واضح أو إشارة مجانية في الحقيقة. فعاطفة الحب مثلا حالة من التزام أخلاقي وليست مجرد لقاء رجل بامرأة لأسباب ليس من بينها أن يكتملا. في إشارة ضدية لتجاوز متطلبات الجسد والاندفاع المحموم وراء نزوات عابرة.

من زاوية أخرى الإشارة الواعية للأسقف المرجعية التي تعصم الإنسان من مغبة الانزلاق في تهويمات لانهائية تعمق لديه الشعور الفادح بالأزمة واليأس من حلها.
بطبيعة الحال لا توجد هنا قرينة أيدلوجية أكثر وضوحا وبروزا من قضية الله، والذي يُمارس عليه نوعا من الدلال الذي لا ينفيه بأكبر من التدليل الشفيف على الإيمان به.{ أتمرد على فروض الله وأسخر منها وأهجره الهجر الذميم}. إذا أخذنا العبارة على معرض الإقرار بالمعصية فربما انفلتنا من صدامية المعنى الظاهري لمكونات الجملة. هذا إلى جانب أن المسكوت عنه يشير بوضوح أن لله فروضا قد تم تجاوزها.  
"يا الله ما أشد بطشك.. كيف أكفر عن كل ما فعلت.. كيف أضم يدي إلى جناح رحمتك لتخرج بيضاء من غير سوء.. أما زال لرحمتك باب يمر بي.. ما السبيل إلى وصالك ُدلني؟ ما السبيل؟"
إننا هنا لا نحاكم معتقدا في الحقيقة، ولا يمكن بأي حال في إطار المجاز الأدبي على أقل تقدير أن نشير إلى حالة من السقوط تحيط بهذه النفس التي تبحث عن خلاصها، فلا يوجد تناقض مرجعي بين حالة يأس عارضة تستوجب لجوءا مخلصا لمن يملك أبواب الرحمة القادرة على استيعاب الحيارى. لذا من السهل على ضوء ذلك المعنى أن نصادف الإشارات الإيجابية للتعامل مع فكرة الموت، بل وتأسيسه كمعادل للحياة الحقيقية. والتلميح لكون أرض المقابر هي محتوى الأحياء وزوارها هم الموتى يقينا.

الغريب أن هذا الطقس لم يأت من فراغ وخواء روحي عند الذات الساردة، فالمتن في جملته على معايير الأسلوبية، قد يبدو احتفالية عبَّر عنها هذا الكم من الترصيع الذي اجتذب النص القرآني أو استجلاء معناه في بنية اللغة. (وما كان ربك نسيا)، (ويسألونك عن الروح). وشواهد كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.

...
خاتمة:
وطر الروح مونولوج ممتع وشجي من البوح، يكشف في إطار جمالي أزمة النفس والإنسان في المطلق على ضوء ما نعيشه الآن من اغتراب وانسحاق. حكاية صيغت من أحلام وهواجس وزلات وانكسارات، كوابيس محفوفة بالإحباطات، وملفوفة بالحيرة في مناخ قد لا يجد بوصلة تهدي فيه الحيارى. أو يا ربما كانت تؤسس في إمتاع الدرب الذي ينجينا من هذه الملهاة المتناهية التلفيق.   


الأحد، 25 مارس 2018

محجوب العياري 2010/1961 .. ذكرى شاعر حققيقي

أقنعت صديقي الجاحد بصعوبة أن نرحل لتونس كي نبتاع بضائع نحتاجها، وكان لي بشكل شخصي مآرب أخرى.
لم يكن لديَّ معلومات، لكن الربح قرين الجسارة. ألقانا الحظ في طريق واحد من المهربين وسألناه مباشرة، فتعاون معنا.
تحركت في يومين أو ثلاثة البضاعة مرورا من ليبيا إلى مصر. هنالك لم يفكر صاحبي كثيرا فحرق العودة في تذكرة الطائرة. ورحل براً. بينما ظل معي أسبوع لا أدري كيف سأنجز فيه ما سعيت له.

لم يكن من أحد محسوب على تونس والمشهد الشعري التونسي يمنحني التشجيع حين سألت عنه، وخاصة بعد أن وقع بين يدي ديوان له"حالات شتى لمدينة".
على استحياء ألمحوا لاتهامه بالتعالي والكبرياء المتطرف. أو ربما كانوا يحسبونه على حزب المتوائمين مع السلطة. والحقيقة أن شعره لم يمنحني يقين التوائم. ففي شعره ثمّة احتجاج ونقد شفيف للواقع، مع تلميح بأزمة الإنسان وبخاصة التونسي.   
لكن أعترف حين التقيت به كانت ملامحه من ذلك النوع التي قد تظلم صاحبها. فرغم كونه جميل الشكل والهيئة، لكن بدت عليه أمارات الصرامة. التي لم يستطع المرض إخفائها.

من مصر حاولت الاتصال به، وبذلت في سبيل ذلك جهدا كبيرا، فإيماني به جعلني أكتب عن ديوانه قراءة نقدية. وحين اهتديت لبريده الالكتروني أرسلت له توطئة القراءة التي تسبق تحليل نصوصه. شكرني وألمح إنه يعتذر لكونه تأخر في الرد لأنه مريض.
أنجزت القراءة وأرسلتها، قلت يا ربما أسعدت روحه، فاعتراف الرجل بالمرض لا يوحي إنه مرض عادي. وحين قررت السفر لتونس كنت أرسلت في طلب عنوانه ورقم هاتفه فسوف أرسل له كتبي، والحقيقة لم يكن عندي وقتها غير ديوان واحد.

كانت خطتي تنقسم بين اتجاهين أبدأ بمحجوب العياري في "نابل" ومن ثم أتحرك إلى المنستير.

وصلت "نابل" وكان الوصول لبيته أصعب من الوصول للمكتبة الجهوية. فانتظرته هناك بعد أن هاتفته عن طريق هاتف بالعملة.
وصل أخيرا وبدا لي مريضا فعلا بمرض عضال. تظاهر بالثبات والتماسك، بيد أن الحركة نفسها كوني أخبرته إنني قد جئت من مصر خصيصا كي التقي به. حركة قد أسعدته وأحسبها أبكته في انضباط. كما كان ممتنا للقراءة وأثنى عليها.

عبرت له عن إعجابي. ولم أرد أن أشق عليه. ولكني ألمحت لمعنى الخصومة التي لمستها حيال أسمه من حزب الشعراء الذين سألتهم عنه. وحين سألني عن رأيي قلت: قد أغفر نرجسيته مادامت الحقيقة الشعرية مضيئة وقوية.

الغريب في هذا اللقاء أن الرجل ظل يناديني"شوكت"، والأغرب إنني لم أصحح له الاسم. والمؤلم أن ظننت إنه قوي وسيقاوم، لكن في منتصف مارس 2010 كنت قد أرسلت له مقدمة قراءة جديدة لديوان" حرائق المساء حرائق الصباح" ولكنه لم يرد. في نهاية الشهر كنت أقرأ نعيا يشير لموت"محجوب العياري" ورغم الشعر كمركز للمعرفة ولهذا اللقاء العابر لم أستطع تفسير لماذا اعترتني هذه النوبة من البكاء. ولاسيما أن خبر موته كان مشفوعا بقصيدة يرثي بها نفسه.

سأمــوتُ من وَلـَـهٍ... أمــوتُ
،سأموت حقـًّـا، لا مجازا
.ثـُــمّ يطــــويني السّـُـــكوتُ
سيسيرُ خلف النّعش أصحاب قليلٌ
.سوف يمشي أدعيـاءُ وكاذبُـــونْ
سيقول نُـقّــادٌ كلاما غامضــــا
..ليُـوفّـــرُوا ثمنا لكبـش العيد حتّى يفرح الأطفالُ
سـيهبُّ أكثر من مذيع فاشل
ليبُثّ صوتي عبر حشرجة المساء
ستُـعيدُ بعضُ صحائفٍ نشرَ القديمِ من الحواراتِ القليلهْ
بعضُ اللُّصوص سيحتمي بظِلال مسبحةٍ كذوبٍ
...ثمّ يتلو ما تردّد عن عذاب القبرِ
عُشّاق صغار، ساسةٌ حمقى، سماسرةٌ، نهاريُّــــونَ، كُـتّابٌ بلا كُتبٍ، وحُجّابٌ بلا حُجُبٍ، وحطّابون في ليل القصيدة دونما قبسٍ، ومشّاؤون نحو ولائم :السُّــرّاقِ سوف يردّدون جميعُهم
،محجوبُ مِـنـَّـا-
نحن حذّرناهُ أنّ العشقَ، مثل الخمر، مثل الشّعرِ قاتلْ
محجوبُ مِـنـّـا-
...نحنُ أطعمناه من جوعٍ، وآمنّاه... كان لنا رفيقاَ
..محجوبُ منّا-
لستُ منكم-
لمْ أُرافقْ غير جُــوعي
لستُ منكم-
لمْ أُرافقْ غير حُــزني
لستُ منكم-
لمْ تُـرافقني سوى أُنثى أنا أوغلتُ في دمها... فمعذرةً-
سوى صحبٍ قليل عـدُّهُـمْ
لكنّهم كانوا صباحي
لستُ منكمْ-
لستُ من أحدٍ
وكفّي هذه بيضاءَ أرفعُها... وما رافقتُ من أحـــدٍ
أنا رافقتُ جـــوعي
،وقصيدتي جاعتْ وما أكلتْ من الثّــديَـيْـن... جـاعت
خوّضتْ في اللّيلِ حافيةً، ونامـتْ
!لمْ تُفتّحْ لارتعاشتها البـُـيُـــوتُ
سأمــوتُ من وَلـَـهٍ... أمــوتُ
،لكـنّ كاساتي، وكاسات الأحـبّــةِ فِـضّـــةٌ
.وكــؤوسُ أعــدائي خُــفُــــــــوتُ
ولنا الصّباحاتُ التي لا تنتهي
.ولهم فواجع أمسهم
.لهم السّـُـكــوتُ
.سأمــوتُ من وَلـَـهٍ... أمــوتُ
سأمــوتُ حـقًّــا، إنّـمــا
،من لحم أغنيتي ستطلعُ كــرْمــةٌ
.سيحـطُّ فــوق جـبـيـنـها حبــقٌ وتُــــوتُ
سأمــوتُ ؟
وهْــمٌ ما أشاع المـيّـتُــونَ
وهــلْ أخُــو وَلـَـهٍ... يمُــوتُ ؟
! هــلْ أخُــو وَلـَـهٍ... يمُــوتُ ؟


الجمعة، 16 مارس 2018

التجارة بيناير !!

لا أحب أحكام القيمة أو الأحكام المطلقة بوجه عام. ولاسيما أن فلاسفة الجمال قد اختلفوا في وضع أطر ثابتة لغايات الإبداع. وهنا أعني المذهبين الرئيسيين: الفن للفن، أو ذلك الفن ذو النزعة الإرسالية والأهداف العليا.

في حقيقة الأمر لا أدري سببا واضحا لهذا الشعور. فلم أجدني للحظة متعاطفا مع ما يقدمه "حمزة نمرة".. وليس طعنا في أدواته الفنية، وإنما فيما يطرحه من غناء أحسبه مؤدلجا؛ دون توريطه في منحى الفن ذي الأهداف العليا، بل يجوز أن نصف الأمر إذا جاز الوصف بـ (الأغنية النظيفة). فالرجل واضح من البداية إنه ضد القاموس المألوف للأغنية العاطفية والتي لا يقدمها أصلا كي لا يتورط في الخدود والعيون وغيرها من مفردات. ولا يمكن هاهنا أن نصفه بتقديم الأغنية التي تنتصر للإنسان. فلا أزعم أن الإنسانية غاية بعيدة عن الفن(أي فن).

من جملة الأسئلة الإشكالية هنا .. هل الأغنية العاطفية تتقاطع مع المفهوم الأخلاقي الذي تتبناه رؤية الفنان؟؟ أو لنكن أكثر تحديدا: هل هناك ثمة مخالفة تتبدى في معالجة عاطفة الحب فنيا؟ 
لا غضاضة عندي. وإن كنت سأترك الإجابة لضمائر من يقرأ هذا الحديث، أو من يحاول تفسير بكاء هذه السيدة البدينة وأم كلثوم تقول: يا قلبي آه في رائعتها"هو صحيح الهوى غلاب".

أعترف إنني أُدفع لسماع "حمزة نمرة" وغالبا كي أبدي رأيي المتواضع في كلمات أغانيه. هنالك أدرك أن الرجل قد سبق بالنغم مولد الكلمة. فلا أدري حقيقة نسق الأغنية وشروطها الفنية الخاصة ببنائها وهي تُغني من خلاله. الغريب أن هذا السمت منتشر في جل أعماله إن لم تكن كلها. وخطورة هذا التعاطي إنه يصادر على قرائح المؤلف؛ الذي توضع له القيود اللحنية والتي تتطلب كلاما يتسق معها. بل قد أزيد هنا وأقول: إن الرجل يريد من المؤلف أن يفكر بنفس طريقته، أو على الأقل يشاركه تصور الأغنية وأهدافها في تطابق قد لا تؤيده الوقائع. بل إن الانسياق الجارف وراء هذه التقنية قد يشوه حقيقة الشعر الغنائي نفسه، ويؤسس غالبا معنى يأتي بدوره ضد طبائع الأمور.. فالمطرب يبحث عن الكلام، ومن ثم يصوغ اللحن الذي يستطيع أن يعبر عن الكلام وأهدافه.

من زاوية أخرى فإن ثبات الدوافع الكامنة خلف وظيفة الأغنية عند الرجل قد يؤدي إلى عدم إحساسنا بالاختلاف والتنوع. أو على الأقل السقوط العفوي في اجترار نغمي، ينعكس بدوره على اجترار موضوع الأغنية نفسها. طالما أن مركزية الموضوع هو الإنسان واليومي المعاش في إطار أحسبه قد أنزلق في آتون النمطية ولو قليلا.  دون أن يٌفهم هنا دعوتي لأن يترك غيره يلحن له. بل أزعم أن الشعر الخام المنفلت من أي ضوابط هو الضمانة على اختلاف الرؤية النغمية التي تؤدي لخروج لحن مختلف عن غيره، ودون الركون لمركزية الرؤية التي تبلور اللحن كي تجعله أقرب لغيره من ألحان. لم تكن لتستوعب اختلافا حادا في كلمات الأغنيات اختلافا يجوز رصده.

هل أكون في جانب الصواب إذا قلت إن من يسمعون"حمزة نمرة" نوستالجيون" عتاة؟
بطبيعة الحال إن الحنين لأيام يناير لا يدفعنا للاستماع لمن أصطلح على تسميتهم مطربي الثورة. فأبعد من "ياسر المناوهلي" لا يوجد مطرب للثورة. بل لو كان علينا ضبط العلاقة بين الفن ويناير، لقلنا: إن الفن أنتج خطابا بطعم الريبورتاج لتغطية وتوثيق حدث مبهر ومحرض ولم يكن متوقعا. بل إن مطربي الثورة (مجازا) أولى بهم أن يتجاوزوا الانسياق وراء هذا المفهوم الذي جمَّد معظمهم تقريبا{تيمات/أفكار}. بل وأزعم أن هذا المزاج من الحنين الذي يجعلنا نسمع هؤلاء ليس في مصلحة مفهوم الثورة إذ يحولها للحظة تاريخية قد انقطعت صلتنا بها، ولاسيما أن ما يغنى الآن لم يعد ينتج التحريض أو التثوير.  

أقسم لستُ ضد ما يطرحه الرجل وإن كنت لا أعفيه من تهمة الاستبداد الذي يحتاج لثورة غالبا قد تأتي منه عليه.



الأربعاء، 7 مارس 2018

تداعيات التعب !!

لم أستطع الجلوس على المقهى أكثر من المدة التي قضيتها مع الابن الشاعر "أحمد مدره" مريض إلى درجة ومعدتي معتلة. تحايلت ببعض الأقراص واجتهدت، لكن هيهات. لا أدري فربما نمت، وقمت كي أطرح هذه الإشكالية على الليل والفراغ.
{ ثمة لاوعي هوليودي يريد أن ينتصر لكل ما هو أنجلوساكسون*. أو يا ربما ينتمي له!!}

اعترف أني واحد من مدمني السينما ومحبيها. وعلى ضوء ما أسفر عنه الأوسكار الأخير وجدت أن فوز "جاري أولدمان" كأفضل ممثل عن دوره في فيلم Darkest Hour والذي جسد فيه شخصية رئيس الوزراء التاريخي "ونستون تشرشل" ربما لم يكن فوزا عشوائيا. إذا أخذنا بعين الاعتبار أن واحدا من جملة ما حصلت عليه "ميريل ستريب" من أوسكار كان عن المرأة الحديدية، والذي قدمت من خلاله حياة "مارجريت تاتشر" رئيسة وزراء بريطانيا زمن حرب الفوكلاند.

سبحت في الماضي البعيد فوجدت أن في عام 1930 حصل الممثل "جورج إرليس" على أوسكار عن دوره في فيلم "ديزرائيلي" والذي كان أهم رئيس وزراء يمثل العصر الفيكتوري. وفي سباحة أخرى اكتشفت أن" بول سكولفيلد" حصل على الأوسكار عام 67 عن  فيلمه الأهم "رجل لكل العصور. والذي جسد من خلاله مأساة القديس الإنجليزي"توماس مور". ونفس الشيء  فيلم (الملكة) حين حصلت"هيلين ميرين" على أوسكار 2007 عن دور إليزابيث الثانية. وحصول " كولن فيرث" 2011 على أوسكار عن دوره في فيلم خطاب الملك. والذي جسد فيه شخصية (جورج السادس).

على سبيل الجملة الاعتراضية فإن من قاوم بريطانيا العظمى في الحقبة الاستعمارية قد حصل على الأوسكار عام 1983 ممثلا فيمن جسده على الشاشة"بن كينجسلي". عن دوره الأهم في فيلم"غاندي".  

على نحو مختلف في الداخل الأمريكي، تفاوت التعامل مع أصحاب البشرة السمراء؛ فلم يحصل "دينزل واشنطن" على أوسكار حال تجسيده لشخصية "مالكوم إكس" واحد من دعاة الحقوق المدنية وباحث إسلامي. بينما حصل عليها 2005 "جيمي فوكس" حال تجسيده حياة المغني الذي أحبه"راي تشارلز". وعند الرئيس السادس عشر والأيقونة. فاز "دانيال دي لويس" بالأوسكار  كونه قد جسد حياة " أبراهام لنكولن". وحين قدمت هوليود قصة حياة الكاتب  والسينارست الأهم" ترومان كابوتي" 2006حصل"فيليب سايمور هوفمان" على الأوسكار.    
........................
* كل ما هو متعلق بالثقافة الإنجليزية.   



السبت، 24 فبراير 2018

أصوات

في ثمالة قديمة اكتشفت أن "فايزة أحمد" هي أجمل صوت نسائي نطق حرف "السين" عبر التاريخ، ومنذ عرف العرب الأبجدية.
في ثمالة أخرى، حاولت تأصيل هذا الكشف العبقري من وجهة نظري؛ بأصوات نسائية أخرى، والتركيز على الانطباعات والإحالات التي تحدث وأنا أسمعهن. فوجدت أن صوت "هدى سلطان" كان يحيلني لحلاوة المولد. وحين أسمع "شادية" فأنا يقينا في رحلة سعيدة. وحين أذهب مع صوت"صباح" أرى بيتا للعائلة، تجمَّع فيه كل فرد فيها، يهللون ويمرحون، بينما ظل الانطباع الأكثر رسوخا مع الوقت إنني مع صوت "ليلى مراد" قد تم دعوتي لحفل عند ناس أولاد ذوات فعلا.

لم يتعاطف أخي الكبير مع صوت أم كلثوم. ولم أضبطه متلبسا بسماع واحدة من أغانيها إلا نادرا. وحين امتلكت جسارة مناكفته. سألته عن السبب. فقال عبارته الخالدة: صوتٌ مستبد، وأنا أكره المستبدين. ولأني كنت أحبه ولا أريد الانسياق وراء ميوله بلا وعي، كنت أناكفه واستفزه بالراديو، وخصوصا من إذاعة أورشليم القدس التي كانت تذيع يوميا أغنية لها. وأزعم وأنا أتجاوز الخمسين من عمري إنها الصوت الذي علمنا نحب، وتجلت في أغانيها متعة الحب وعذاباته، والغريب عبـَّرت عن كل أحواله بصدقٍ موجع.

لست أدري في بواكير الشباب لماذا لم أتعاطف مع صوت "وردة"؟
كنت أظنها تغني بالقدرة وليس بالإحساس. أشعر أني في فرح شعبي، غالبا في الشارع، أو فوق سطح بيت قديم. مع الوقت أدركت أن صوتها صوت مبروك، يُشعرني أن الدنيا بخير. أما عن "نجاة" وأختها السندريلا الراحلة، فلقد كانت الكلمة المركزية في صوتيهما هي الحضن. والذي يباغتك غالبا في الطقس البارد. فصوت "نجاة" كان يعني لي الاحتواء والدفء. بينما ظل صوت "سعاد حسني" يجعلني أشعر وكأنها تغني في حضني. ولي بشكل حصري، وبغناء هو أقرب ما يكون للغنج.

وصلني صوت"نازك" و"سعاد محمد" كتمثيل حقيقي لإشكالية الخذلان. فلم يكن صوتاهما يخلو من عبقرية وبلاغة أثر متطرفة. لكنهما لم يكونا جميلتي المُحيا. وللمرة الأولى رغم شيوع انحسار الجمال من ملامح بعض الأصوات الأخرى لكنهما افتقدا الحضور. 

أزعم أن صوت "فيروز" مرض وراثي في عائلتنا. ينطوي على معنى الصوت المركزي. نسمع غيرها ولاشك، لكن سريعا ما يأخذنا الحنين لصوتها من جديد. فأخي الأكبر كان يتصور أن صوتها هو محاولة من السماء لكي تعوضنا هذا الحرمان الأصيل من الأجنحة. فتقاطع غنائها مع حياتنا يجعلنا نفقد الشعور بالجاذبية الأرضية. بينما ظلت شقيقتي فرانكوفونية الهوى، ترى في صوتها آخر ما تبقى لعروبتنا من شموخ. بينما كنت وبشكل شخصي أشعر وأنا أستمع لها أن الزحام قد توارى، ولم يتبق غير صوتها وأنا. والعالم من حولنا محض فراغ. 

الجمعة، 19 يناير 2018

ماذا يحدث هنا ؟؟!!

منذ فترة وأنا أبحث عن إجابة لهذا السؤال. هل تواطأ الطحان بغيابه على مشروعه الشعري؟؟
(رغم كراهيتي المعروفة لهذه الكلمات.. مشروع/منجز).
لكن، ومع الاعتراف بشُح المتابعة أرى تجربة الطحان وكأنها ملقاة في العراء، ينهش فيها المدَّعون والمستسهلون. حتى إنهم لا يكتبونها وحسب، بل يلقوها على مسامعنا بنفس إيقاع إلقائه، وبذات الشجن إن أمكن.

قلت في حديث مع مُحب للعامية: إن أصعب ما حدث في العامين الأخيرين يكمن في انسحاب "الطحان" من جهة، وتوقف "مصطفى إبراهيم" من جهة أخرى. فالأول يمثل بالنسبة لي أهم من أنتج مفارقة في عامية هذا الجيل، والثاني من أهم من ينتجون النص العامي؛ المُحمل بالأنساق المعرفية التي تعطي للنص ثقلا معيناً حال تلقيه.

لستُ في معرض محاكمة غياب الرجلين. بيد أن الأزمة في نظري أسست تغييبا لنموذجين مُهمين، وأزعم أن النموذجين على قدر من الصعوبة إن حاول الشعراء استنساخهم. فاستراتيجية النص عند أحمد الطحان متى تم استنساخها ستؤول إليه في النهاية، فيظهر بجلاء عظيم التأثر. وكذلك فإن قصيدة مصطفى إبراهيم كنسق معرفي وجمالي قد يبدو استنساخها صعبا، لأنها تحتاج شاعرا مثقفا، أو على الأقل يجيد التأمل في تفاصيل مواضيع نصوصه، ويحسن التعامل معها شعريا. هنالك كانت آفة البحث عن نموذج التي أشرت إليها من قبل تتجه لخطابين شعريين آخرين لا يعانيان أزمة وجود. لكنهما لا يقدمان-غالبا- خطابا جماليا أو معرفيا  يستطيع التعبير عن حقيقة شاعر العامية كما أفهمه(رجل يمتلك موقفا من العالم يعبر عنه جماليا). بل وقد أذهب بعيدا إذا قلت: عامية الأمر الواقع، أو الجماهيرية إذا جاز الوصف.

للصدق لست في خصومة مع هؤلاء. رغم تقديمهم لعامية على معايير التقييم الفني قد تبدو ضعيفة أو تكاد. منظومة بأكبر من كونها خلقا إبداعيا. لكن نجاحها في السيطرة على الجمهور يجعلها مقبولة للباحثين عن النموذج الأكثر يسرا من غيره. ومن ثم تجاوز فكرة الاختلاف التي تؤصل فرادة الصوت الشعري وبصمته الخاصة. فحدث على ضوء الحالة هذه ذلك التشابه الملفت.

في حقيقة الأمر وهنا أخاطب المستسهلين، لا المدَّعين؛ لأن الحديث للمدَّعين يظل عبثيا إلى درجة:
إن الوقوع في أسر تقليد نموذج، يوقع النصوص في ذهنية قد تضر بالشعر، بمعنى أن الانشغال بالأسلوب وقاموس الشاعر الخاص الذي يراد تقليده، مؤكد سيغتال أفكارك الخاصة عن موضوع معين تريد الكتابة فيه. ستضطر للإيمان بالشكل وتغييب المعنى. والاستسلام للنظم والصنعة كتعويض لغياب الإبداع. والأصعب تعطيل مواهبك لحساب النموذج الذي تعتقده أشد منك أثرا وقيمة من وجهة نظرك، والمؤسف على موازين السوق، وليس للقيمة الفنية.  

لكن، وعند هذا الحد لم تنتهِ الأزمة. ففي العقل الباطن للشاعر الذي يتم تقليده تحدث إشكالية كبيرة. فعند لقاء شعر مُقلديه تأخذه العزّة أنه مصدر إلهام وغواية. في البداية يحاول أن يخفي هذا الشعور، لكنه يفشل، ومن ثم ينتحل غضبا مصطنعا أن الآخرين يقلدونه. رغم إيمانه أن قراء العامية يدركون هذا التأثر أو القليل منهم. فيحضر طيفه وأثره والآخرون يتلون شعرهم المتأثر به وكأنهم يؤصلون لصوته وعبقريته في إشارة مبطنة لأستاذيته لهذا الجيل. بيد أن ذلك الشعور المغوي، لن يستقيم مع طبائع الأمور. فهو الآن يقلدك، لكن غدا قد يتجاوزك ويجعل من تجربتك شيئا من الماضي. لأنك يقينا لم تتطور. ولم تتخذ من تقليدهم لك دافعا للتجاوز. وهذا المعنى حتى مع توفر أسبابه في محيط الشعراء. أصبحت أشعر به كحالة تواطؤ أكبر من حظيرة الشعراء. بل قد تنسحب على تدشين دور النشر لشعراء يكتبون بهذه الطريقة التي تكتب بها الأيقونات الحالية. في معالجة تجارية لفكرة أعمار جمهور الشعر واحتياجاتهم الضرورية من القصيدة. فنأتي بأصوات جديدة قريبة ومجايلة لجمهور التلقي. وهكذا تدور العجلة؛ لأن الأيقونات مؤكد ستكبر وتنضج، وبالتالي خطاب المُحن لن يكون لائقا إذا صدر منهم. وكأن المحن قد صار علينا قدرا محتوما.


على كل حال. مازلت مؤمنا أن الحقيقيين موجودون، وأن هذا الزحام سينحسر يوما. وأن العامية كالدنيا. من يصارعها هزمته.    

الاثنين، 15 يناير 2018

جليمونوبلو.. شاعرية الإيمان.

ثمة فرق كبير بين الإيمان المطلق، والإيمان المتوتر الذي تحركه الظنون. وفي حياة رجل مثلي لابد من قضية كبرى أحيا من أجلها. خذلتنا السياسة ومآلات الثورة، تسلل العمر من بين أصابع إرادتنا، أرتد القلب إلى حال البراءة الأولى؛ خال من البحث عن الحبيبة المستحيلة. أختطف الموت نصف جيلي أو يكاد، ولم يتبق لي غير العامية والخدرجي.

العامية.. يا الله!! شعر البسطاء والمنسيين. والعالم الأكثر طهرا ورحابة. بيد أن الراهن الذي تعيشه محبوبتي قد أتى عليها بالكثير من التشوهات. باتت تعاني من سيولة النظم والأفكار والاجترار. والتشابه الضاغط والتكرار الكريه.
هنالك كان ذلك الشاب النحيل يقف وحيدا منفردا، يغترف من روحه ودمه مداد هذا الحلم في عامية أقرب للتجلي.

لم تكن تجربة الخدرجي في زعمي تتحرك في عالمها بروح الباحث عن العامية وحسب، بل إنه المغامر القديم الذي يبحث عن الأرض الجديدة والبعيدة، التي تستطيع أن تستوعب أحلامه في الاختلاف. وفي سبيل ذلك مارس طوافا يكاد يصل لحيرة الفراش المولع بملاقاة قدره المحتوم محترقا في يقين الضوء. مؤسسا لشاعرية عالمه الخاص الذي يعيشه بكل تفاصيله. مستندا فيه على الرهافة، والدخول الشفيف لأزمة الذات والعالم. ويعيد ترجمة أصوات المنسيين والمهمشين بصورة أكثر حضورا وتأثيرا.

قد يبدو شعر الخدرجي من أول وهلة متساميا فوق الشعور الحاد بالأزمة، لكن حتى هذا المعنى لا ينفي الواقع المأزوم بطبيعته. بل قد أذهب لكون هذا السمت محاولة أصيلة للإقرار بصعوبة الحياة في تفاصيلها التي تتجلى على هذا النحو المفزع. فقصيدة الرجل في مبناها محاولة لخلق العالم المرجو، لكن في الكثير من معانيها تبدو لي كحصان طروادة، تبتغي اللحظة المناسبة لتحطيم كل مركبات الأزمة التي يكشف عنها الزمن وأهله، بل وأزمة العامية نفسها.

في هذا المنعطف، كان لزاما أن يتبنى الخدرجي خطابا جماليا خاصا يمثل الوسائل التي تمنحه هذا التسامي، وتستطيع بدورها أن تمرر رسائله الممتعضة حيال واقعه. لذا من السهل أن نلقى المجازات العميقة والمدهشة في آن. والحضور الطاغي لأسلوبية تتصاعد بالعامية لإنجاز أهداف شعرية وفنية أكبر منها. الأمر الذي يخلق من لغته مناطق أكثر غواية من لغة العامية في استخداماتها المعتادة. ولن أتحدث عن اللغة، فمتابعو الرجل يعرفون باليقين كيف يستعملها، ولا عن مجازاته المدهشة التي تنتج إحالاتها على أروع ما تكون الإشارات والتأويلات. بيد أن ما يبدو جديدا هنا أن العالم بتفاصيله قد بات متحدثا عن نفسه. الزمن يشكو مستجدات باتت غريبة عنه. والمكان يئن تحت ضغط التشوهات المستحدثة والتي أفقدته معنى أن يتسق مع نفسه، والشاعرية تصرخ من فداحة غربتها.  

"جليمونوبلو" ديوان بطعم العودة لأكثر من طريق. تبدأ من الذات مرورا بالواقع، لكن أي واقع. والماضي في كثير من الصور يحضر كإدانة للراهن الإنساني والشعري معا. حتى لتشعر في لحظة ما أن الشعر هنا قد تحول لاستغاثة رجل يستشعر عظيم الكارثة. يتحدث للنبي(ص)، وإلى الله سبحانه. يتوسل ويقر بذنبه؛ كي ينال التطهر المطلوب. وعلى الضفة الأخرى من النهر. سنصادف مونولوجاته العاطفية الرقيقة، التي تصدر حالة العشق في جلالها المثير، لكنها تعكس-كعادته- استحالة تحقق النموذج المعني بمشاعر الرجل الذي لم يهدأ أو يتوقف عن البحث. يا ربما وجده أخيرا. أو السقوط مجددا في آتون الغربة التي يجوز توصيفها بالغربة المرجعية. العصية على التحطم إزاء نموذج أنثوي على درجة من الغواية تستطيع أن تكسر الحصار الذي يمنع هذه الروح من التحليق في سماوات الحب بالصورة التي تتسق بدوره مع ما يتمنى.


أزعم أننا بصدد ديوان ثري. قد أخذ من روح صاحبه الكثير. لذا أدعو القارئ المحتمل لعامية الرجل أن يلتمس طقوس الشاعر في عرض مواجيده؛ كي يدرك أن العامية ليست هي كل ما يُطرح على ذائقة التلقي.    

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...