الثلاثاء، 26 يناير 2016

غواية العامية في "ترس" أحمد شبكة

غواية العامية في "ترس" أحمد شبكة
أنا كنت تِرس...
الاختلاف بيشقّقه 
حاول زمانة يِعَشّقُه 
قام عَشّقُه... 
في الناس و ليلهم و الغناوي و القمر 
عاشر بشر 
و امّا اتحشر 
كسّر سنون كل اللي سَجَنُه و صَدّقُة
و شَتّ عن كل التروس 
حرّر خلاصات الدروس 
و حلف يدوس 
علي كل جرح و كل طوق 
وعاش بدهشه و عاش بشوق 
و برغم كل حموله... برضو نَطّ فوق
و نادىَ علي كل التروس المُحبَطة 
يا كل مَتروس في الحياه 
يا كل عشمان في الغطا 
عيش و ارتعش 
في مواجهة البرد الحزين
ماتخافش من بُطء الخُطا 
ما تخافش من جَري السنين 
و لا عَصرِة القلب البتول 
و اصرخ و قول... 
شهد البدايات في التعب 
فشل التجارب كان سبب 
للمعرفه 
ثم الوصول 
الاختيار مالهوش اصول 
الاختيار محتاج جنون 
يا تعيش مِعشّق ع الطريق 
يا تعيش عشيق 
من غير سنون 
و انا كنت... ترس
***
رغم إن دوره ميكانيكيا ينحصر في نقل الحركة دورانيا حيث تتعاشق أسنانه مع ترس آخر؛ الأمر الذي يسمح بنقل القوة والحركة بدون انزلاق.. إلا أن في هذا النص (الشعري) ولعلي قد أضطر في لحظة ما لتبرير هذه الأقواس. قد تم استجلاب هذا الجزء الميكانيكي المحض؛ ليعبر عن ديمومة الأزمة والانسحاق، وربما التلف الذي يقاوم في استماتة؛ كي تستمر حركة الذات في هذا الطقس اللاإنساني.

لم يكن "أحمد شبكة" يؤسس نصا بطعم المجانية، ولا على الدرجة نفسها ينحت رمزا مستغلقا لا يمكن تأويله. بل إن مساحة المسكوت عنه تظل في رأيي تفجر دلالات الرمز، والذي يبدأ غالبا من معاناة الإنسان مع حياته، ودراما أزمته التي تبدأ من أحلامه، وسبل تحقيقها. الدراما في معناها الحقيقي، والتي تعني الصراع بما تنطوي عليه هذه الكلمة من دلالات. صراع الوقت والظروف والأقدار، حتى في منحى صراع التعرض المباشر للخذلان والفشل. من هنا كان النص يمهد بالرمز، وبلغة نقية تنسحب مؤقتا لحساب هذا الترس، والذي هو بطل العرض الشعري برمزيته، ومفتتحه.

{ أنا كنت} منطلق كتابي قد يعني خصوصية الحالة، لكنها لم تشأ أن تصادر على الآخر الذي قد يشارك الذات معنى الانسحاق الذي تؤسس له هذه الحقيقة كونه ترسا. لكن، وهنا ودون الانتقال لأحكام قيمة لا مكان لها. ظلت الرغبة في الاتساق هدفا للذات..

الاختلاف بيشقّقه 
حاول زمانة يِعَشّقُه 
قام عَشّقُه... 
في الناس و ليلهم و الغناوي و القمر 
عاشر بشر 
و امّا اتحشر 
كسّر سنون كل اللي سَجَنُه و صَدّقُة
و شَتّ عن كل التروس 
حرّر خلاصات الدروس 
و حلف يدوس 
علي كل جرح و كل طوق 
وعاش بدهشه و عاش بشوق 
و برغم كل حموله... برضو نَطّ فوق

لم تدخل الشاعرية في صراع مفتوح مع العالم. فهو ترس يدرك يقينا حقيقة دوره، لذا كسبت الشاعرية والصنعة الفنية معركتها وهي تصوغ هذا الجناس{ يعَشَّقه / عَشَّقُه} والذي يؤيد محاولة الاتساق أو الانسحاب البريء من آتون هذا الطقس المؤلم، لكن طاقة الزمان تظل أقوى من إرادة الرجل، فألقت به في البشر وتحولاتهم وتفاصيلهم.

في حقيقة الأمر لا أستطيع تجاوز الفطرة التي تجلت هنا (في الناس) كان من الممكن أن تكون بالناس، لكن تظل(في) بكل ظرفيتها تعني الانغماس الكامل مع البشر. لكن ورغم قدرية هذه الحركة الحياتية كونه ترسا، فالرجل قد كسّر السنون لكل من حاول أن يسجنه في سرمدية هذا الدور المُهلك.
على الضفة الأخرى من النهر تم أنسنة الترس الذي تعاطى جيدا مع تراث التجربة، وقرر وأراد، وانتقل طوعا من هذا الدور؛ كي يمارس انفلاتا يرضيه.

بطبيعة الحال في هذا الجزء من النص لا تتجلى وحسب عبقرية الكتابة بقدر ما تظهر عبقرية العامية ذاتها، بل وحساسيتها أحيانا. لأننا لو سألنا –مثلا- أيهما أدق دلاليا{ شت أم شذ} بالضرورة تظل شذ أدق بكثير من شت لسببين يحددان مفاهيم الإحالة. فـ "شت" تعني فردية الانفلات. ولا تفسر معنى الانتماء لشيء. بينما (شذ) فيقيناً تفسر حضور مجموع قد رفضته الذات الشاعرة في وقت ما، مجموع بشري إنساني ذابت فيه إرادات كثيرة حان وقت الخروج على ما كان يحكمها من قواعد وأفكار. لذا لم يكن تجاوزها كمفردة نابعا من حقيقة دورها الدلالي، بل تجاوزها الرجل لسهولة تأويلها على غير هذا المعنى، وهنا أقصد في حظيرة العامية تحديدا{ فشذ} قد تنحرف لمضامين أخلاقية لا يحتملها النص.

{ عاش بدهشة وعاش بشوق} تركيبة شعرية إذا استقرت في يقين قارئ العامية كونها بسيطة، تُظلم ظلما بيـِّنا. رغم مغادرتها لطبيعة المجاز التقليدي. لكنها تنطلق من مفارقة الدلالة قبل مفارقة نظمها على هذا النسق.  سطر شعري يفجر العديد من الأسئلة.. فمتى تعيش بشوق. بعد أن تعيش - يقينا- مندهشا؟؟

أزعم أن الدهشة قد تأتي كضد واضح لكل ما هو نمطي وتقليدي، فالتكرار على وتيرة ثابتة أو تكاد يجهض أي دهشة، ورغم طبيعة الرمز الذي استندت عليه فكرة النص، والتي تؤسس بدورها لكونها "ترسا" فهي بالضرورة منتج حقيقي للنمطي والمكرر، فالرجل لا يؤسس لانفلاته كخروج سلبي من هذا التكرار، بل إن الحياة بعد هذا الدور الوظيفي قد صارت جديدة بالكلية، وطالما هي كذلك فلسوف تنتج دهشتها. وكأن هناك ثمة قطيعة حدية بين أمس هذه الذات {الترس} والذات الجديدة الأكثر تحررا. ولأن الحياة بعد هذه التجربة قد تخلصت من مللها، فلا أقل من أن تحيا هذه الروح بشوق جارف يليق بالحياة الجديدة. فحياة بمثل هذا الشوق تعني الشغف المستمر الذي يراهن على جديد دائما تحت هذه الشمس.

لم تكتف الشاعرية بأن تنفلت منفردة، وتبحث عن حلولها الخاصة التي تدفعها لأن تخرج من كل ما هو نمطي، أو للدقة كل معاني الحياة الآلية والتي يغلب عليها هذا الكم من المعاناة. وهنا..    
و نادىَ علي كل التروس المُحبَطة 
يا كل مَتروس في الحياه 
يا كل عشمان في الغطا 
عيش و ارتعش 
في مواجهة البرد الحزين
ماتخافش من بُطء الخُطا 
ما تخافش من جَري السنين 
و لا عَصرِة القلب البتول 
و اصرخ و قول... 
شهد البدايات في التعب 
فشل التجارب كان سبب 
للمعرفه 
ثم الوصول 
الاختيار مالهوش اصول 
الاختيار محتاج جنون 
يا تعيش مِعشّق ع الطريق 
يا تعيش عشيق 
من غير سنون 
و انا كنت... ترس

اعترف إنها المرّة الأولى التي أصادف فيها(رغم قلة ما قرأته عموما للشاعر} هذه التقنية التي ربما لم تكن لتهتم بالتصوير بقدر ما تهتم بفاعلية البوح، أو السعي لعرض موقفها من العالم قدر ما تسمح الإبانة. فالنصف الثاني من النص عبور خجل على الصورة في حقيقة الأمر{ التروس المُحبَطة} { البرد الحزين} حتى وصلنا لمستوى من الصورة يقترب من الإدهاش الحقيقي { ماتخافش من بُطء الخُطا/ ما تخافش من جَري السنين}{ ولا عصرة القلب البتول} والتي نافست بدورها كل صور النص في التجاوز من حيث تصميمها ودلالتها. لكن هذا لا يمنع بأي حال روعة التصميم، وهنا أعني براعة النسج للجملة الشعرية الواحدة، وتأسيسها الجيد لإنجاز الأفكار العامة للنص وأهدافه.

ربما أستطيع تفسير ذلك فنيا، دون الدخول في متاهات التفسير التي تتجه للشاعر ذاته. والتي عادة ستتجه لاستنطاق نواياه بصورة لا تتسق مع ما نريده هنا من الإشارة الموضوعية لنص أحسبه جيدا. لذلك أقول: إن للترس كرمز ثمة كاريزما قد تغتال الرغبة في التصوير. وحتى إن سعت الإنتاجية الشعرية للتماس مع المجازات المتاحة؛ فلن تكون في قوة ما نشعر به حين نستدعي صورة الترس وإحالتها على حقيقة دورنا في هذه الحياة. لذلك أيضا وجدنا قاموس الرجل ينجز بساطته كأروع ما يكون دون تعالي أو فوقية يمكن الصدام معها. وعلى الضفة الأخرى وجدنا ما تيسر من عناصر الصنعة الفنية. التأسيس على القافية دون افتعال. الدوران على الجناس في محاولة إضافية لرفع مستويات الموْسقة. سيطرة الفعل المضارع الذي يتسق مع الاستمرارية المطلوبة للتحول والمضي فيه.

بطبيعة الحال يُحسب لهذا النص إنتاجه لعلاقات مباغتة في معناها ومبناها. سواء (البرد الحزين). والذي يفسر بدوره النصيحة الغرائبية (عيش وارتعش). (متروس في الحياة) بانغماس مفردة "متروس" في العامية لمستويات عميقة جدا. إنتاج الحكمة دون ارتفاع الصوت( فشل التجارب كان سبب للمعرفة). لكن يظل السؤال إلى أي مدى كانت علاقة هذه التجارب بالقلب؟
اللافت فعلا أن الشاعرية قد استثنت بانسيابية غريبة خضوع هذا القلب لتراث التجربة، وهذا ما يفسر قيمة هذه الصفة المضافة للقلب بكونهِ بتولا. كي تعلن بوضوح عدم خضوعه لعناصر هذه الحياة الكفيلة بأن تجعل من هذا القلب ملوثا بالتجارب الأليمة والطاعنة.

لاحظنا أيضا ثقة مضمرة في غواية فكرة النص، ثقة ربما أنتجت دون قصد رغبة في عدم التعالي على التكرار والسير معه لنهاية الهدف من هذا الديالوج من الذوات التي تتشابه مع مصير الذات الشاعرة هنا. { يا كل/ يا كل، ماتخفش/ ماتخفش، الاختيار/ الاختيار/ يا تعيش / يا تعيش}.

في حقيقة الأمر لا أدعي النجابة، فلو كنت مكان هذه الشاعرية لتوقفت كثيرا عند هذا الترس الإشكالي، ربما لأني-يقينا- أكثر قتاما من شاعرنا. لكنه وعلى ما تيسر من شواهد شعره. يظل الرجل ينتقل في نصوصه بإيقاع فراشة تتلمس الضوء مع يقين الموت إذا اقتربت.. هو على كل حال لا يريد أن يعيش هذه التجربة ويموت في يقين الضوء. لذا أذكر أن قلت في معرض رأي انطباعي إلى درجة: إن قوة النص عند "أحمد شبكة" تكمن في مفتتحه، وبشكل لا يعفينا من الإحساس بأن النهايات لن أقول قد كسبت معركتها مع شاعريته. بيد أن الرجل- ربما- يستجيب للاوعيه وينتج نصوصا غير إنها جميلة، لكنها تريد تعويضا ما؛ لزمن لم تكن الكتابة جزءا منه. لذلك تأتي خواتيم النصوص رغم جمالياتها أقل نسبيا من البدايات. نصوص أحسبها تتوقف قدريا، دون أي مسئولية من صاحبها. وربما هذا ما يفسر غلق النص بنفس الجملة الشعرية التي بدأ بها{ أنا كنت ترس} وكأن إشكالية الترس قد وضعت نفسها كقوسين لمعاناته.

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...