الاثنين، 18 أبريل 2016

كلام بالوقة.. نوستالجيا أحمد شبكة

 كلام بالوقة.. نوستالجيا أحمد شبكة


هي شاعرية تؤسس لإنسانيتها ونبلها، تنطوي على إحاطة شبه كاملة بالواقع وظروفه، وأزماته. أدركت- يا ربما- مبكرا دورها حتى لكادت تبتلعها معطيات حياة تتأرجح بين الضغط العارم لإثبات الذات وسط هذا الركام. وبين أن تمتلك الفرصة لأن تحتج وتصرخ وتعترض.  

بأي حال لا نعتبر"أحمد شبكة" شاعرا إشكاليا، لكن من الإنصاف أن نراه يكتب نصا إشكاليا على قياسات الآن بالضرورة. حيث يتبدى لقارئ العامية المتمرس أن الرجل لا يُشعِر بقدر ما يترنم. يغني غناءً ظل مؤجلا لآماد طويلة. ودون أن يصادر على وجعه الخاص الذي يجعل من هذا الغناء محاولة أخرى للبوح الشجي الذي يمارسه؛ كي يثبت أنه في البعد لم يكن منفصلا بالكلية عن هذا العالم الذي دخل معه في صراع مفتوح، فإما أن يتحول تحت الضغط إلى(ترس) أو ينفلت انتصارا لإنسانيته. لذا فإن كل نص نقرأه للرجل يبدو لي محاولة لتخليق هذا الانفلات الذي يتسق بدوره مع إنسانيته الرفيعة.

"كلام بالوقة" لم يكن ديوانا يحاول إبراز هذا الاتساق الضمني مع العالم وتفاصيله، فلا موقف الشاعر يؤكد هذه الحقيقة ولا نصوصه-غالبا- تحاول ترميم هذه العلاقة المرتبكة. ولا نلحظ بأي حال القصيدة الحلم التي تحاول خلق متواز وجودي يصلح لإقامة الرجل فيه. وإنما نقرأ محاولات مستميتة للصلح أو على أقل تقدير إيجاد أسباب تسمح للذات أن تحيا واقعها. مع البحث الدائم عن هذه البقع الفسفورية في قتام ممتد. الطيبة المختبئة في آتون من التلوث على إطلاقه. الحب الصرف المتسم بالندرة إذا ما قورن بهذا الطقس من الكراهية.

 بطبيعة الحال هناك صنف من البشر لا يطرب لأجواء الحرب وينأى بنفسه عن كل مركبات الجدل الذي لن يؤدي إلا لمزيد الجدل. فإذا كانت الكتابة بديلا للجنون، فهي كذلك محاولة مخلصة للذين ينشدون الراحة والتخفف.

إننا حين نربط الشاعرية بتحقق موقف معين من العالم. كنا فقط نؤسس سياقات نظرية يا ربما تساعدنا في كشف حقيقة المنتج الشعري وأهدافه. لكننا وعلى ضوء هذه التجربة وجدنا دورا آخر للشعر، تتمركز حول ما يشير لمحاولة الترميم للروح، أو مواساة الأحلام التي سبق وأن تعرضت للكسر أو الانسحاق. إننا حين نقرأ لأحمد شبكة. نلتمس كفا حانية بامتياز تتحرك قاصدة كل من يحتاج الدعم والتآزر، هدفها ذلك الكتف الذي أجهدته الإحباطات. أو تسعى لتجفيف دمعة من عين مُسهدة. لا تحقق تعادلية الأزمة بين الذات الشاعرة والقارئ المأزوم؛ كي يصبر ويرضى وحسب، ولكنها تدعوه لأن يرى الدنيا كما رآها ذلك الشاعر الذي لا يراهن إلا على البياض، وهذا النور مهما بدا ضعيفا.

سيقول قائل: إن الحياة قد اغتالت هذه الأنفس وحاصرتها. تواطأت مع حركة أقدار مجحفة؛ كي تُسقط هؤلاء أو تنفيهم. نعم ودون أن أميل هنا لمعسكر هؤلاء أو حزب الشاعر. لكن فقط أسأل. وكيف يتسنى لنا أن نوأد هذا التعاطي الذي يعيد لأرواحنا اتزانا نفتقده؟

إن الشعر هنا ضرب من تخفيف حدة الأزمة دون أن ينكرها. يشبه الدواء الذي يوقف شراسة الأعراض دون أن يشفينا بشكل حاسم. أو ربما يسعى بإخلاص لإحداث معجزة الشفاء. لذا سأقف للنهاية مدافعا عن هذا السمت الذي يتهم هكذا شاعرية بالفصامية، أو غياب المرجعية النفسية التي تستطيع كدأب كل الشعراء تأسيس كتابة مأزومة بطبيعتها، وسأغض الطرف إذا ما وُصفت –فرضا- بالكتابة المترفعة المتسامية التي تتلمس ضوءا في نهاية النفق.    

إن "كلام بالوقة" يحيل الماضي إلى إشكالية، وهنا وفي ظل شاعرية مرهفة إلى درجة كبيرة نجد محاولة ذرائعية لاستدعاء الدفء المفقود . إن مزاج النوستالجيا الذي يتسرب كثيرا في شعر "أحمد شبكة" والمتحقق في ديمومة ذلك الحنين إلى الماضي بتفاصيله. وحكاياته ومفرداته. لا يحمل سوى الإقرار الصريح أو الضمني بجليدية الراهن إذا ما قورن بهذا الماضي الذي يمارس الرجل حياله كل أشكال الحنين. جدلية تشكل عنده أعلى مقدرات وعيه، ورؤيته لهذا الواقع المأزوم. هو يقينا يرفض إلى حين الاشتباك مع هذا الواقع. لكنه برهافة التوجه يشير بأصابع الاتهام إلى هذا الراهن الذي لا يتفق أو يكاد مع هذا الماضي بمكوناته سواء في ضميره الإنساني، أو الفني. فلا يوجد ثمة مقارنة حقيقية بين الآن وهذا الماضي تأتي نتائجها في صالح الأول.

هو يدرك بالفطرة أن المعاني تراجعت. انزوى زمن البراءة البكر. والطيبة والبساطة، جوهر الفطر النقية، يدرك تراجعها، وحين أقول تراجعت أعنيها هنا؛ لأن شاعرية بهذا السمت لا تؤسس شعرا ينتج أحكام قيمة نهائية تنذر بزوال هذه المعاني من حياتنا في المطلق. إذن لنشارك الرجل أنها تقلصت، أو اختلفت، أو حدث ضمور لمركبات البراءة في حياتنا. لذا فإن كل نص أو يكاد يسافر في أهدافه؛ كي يستدعي هذا الدفء في مواجهة جليدية لحظة الكتابة. التي انفصلت الذات فيها واعية؛ كي تنتج شغفها بهذا الفرق الذي يؤسس في يقين القارئ هاجس المقارنة من جهة، وهاجس الأسى الشفيف حيال ما ذهب ولن يعود.

إن التأسيس الجدلي لهذه الحالة من النوستالجيا تأتي دائما بمذاق "أحمد شبكة" لا لكي تعكس مجرد حنين للماضي بكل مكونات براءته، وإنما تستدعي حالة أخرى من حالات الحنين إلى الطفولة ذاتها. لأن مركزية الماضي دائما تنطوي في تفاصيلها عند هذا المنحنى الذي يخلق جماليات الماضي، وما يحمله من ذكريات. حتى لو تماهت هذه الذكريات بدورها مع بعض المآسي العارضة. لكن حتى هذه الذكريات وما يغلفها من حزن. تظل الأحب والأقرب إذا ما قورنت بالأحزان الآن.

في حقيقة الأمر إن ذاكرة الطفولة خشنة بامتياز. تحتفظ بأدق التفاصيل. أحاديث الأجداد والجدات. العبث الطفولي وتجلياته. الأمر الذي ينعكس بدوره على ثراء فعل الاستدعاء لهذه الذكريات. شريطة بالطبع أن يوجد مكون ماضوي ينسحب بدوره كتفاصيل في القصيدة.

لا أريد التحايل هنا كي ما أعيد ربط النص بمفهوم إنساني يخص الطفولة كحالة. أو ربط هذا الحنين للطفولة كمركزية ممثلة لهذا الماضي رغم جدارة الطفولة لإنتاج هذا المعنى. لأن المؤكد هنا أن الشاعرية تقف على رصيد من التجربة الهائلة التي يدعمها عامل العمر، والخبرة بالتبعية. هذا بالإضافة إلى ثراء المكون المعرفي القادر بدوره على استدعاء تراث الذاكرة للتخديم على فكرة النص، والتي تبتغي الاستدعاء على المدى القريب. والمقارنة بين الماضي والراهن على المدى الأبعد. لذا لا نملك حكما قاطعا ونحن نطالع تجليات هذه النوستالجيا حال ربطها بمكونات الطفولة كحالة جالبة للاعتقاد بضغط واقع قديم جعل من الذات لا تشعر قيمتها في وقتها. أو يا ربما تعرضت لتعاطي مجتمع الكبار الذي ما ترك فرصة للاستمتاع بها. أقول ذلك لا لشيء بطبيعة الحال. رغم إيماني بمقولة"لاكان" التي ترى النص الأدبي جزءا أو يكاد من تاريخ صاحبه أو انعكاسا له. بيد إننا في الشعر لا نقرأ نوايا بقدر ما نقرأ حدوسا شعرية هي في الأصل منتمية لصاحبها دون الاحتجاج بها كقرينة لتحليل هذا الماضي نفسيا، وبالضرورة تأصيل شكل علاقة الشاعر بطفولته في إطار هذا الماضي المستدعى.

"كلام بالوقة" ديوان من الإنسان للإنسانية. ودعوة ذات خصوصية لإقامة ولو هدنة عارضة لمحارب تورطت روحه أن يرتدي زي القتال في معركة بالضرورة لم تكن لتشغله. لكن بحسبه أن ينتصر فيها للمعاني في براءتها. وللذكريات في بهائها الإنساني، وللمواقف النبيلة حين تتحدث عن نفسها.      


الثلاثاء، 12 أبريل 2016

وقت أحمد عايد.. 2/1

إذا كان الوقت هو المسافة المقطوعة بين لحظتين أو هو ما نسميه الوقت الفيزيقي. فلِم كان الوقت وقت أحمد عايد؟

في حقيقة الأمر لكل عنوان غواية، قد تفتح المتن الشعري المنضو تحت لوائه، أو إنه قيمة مختزلة لعناصر التجربة المخطوطة بين دفتي ديوان. أو على الأغلب محاولة مخلصة للتحريض. وأزعم أن كل هذه الأهداف بدت متحققة فعلا. لكن في علة الاختيار المسند لاسم صاحب المتن الشعري لا ندري إلى أي جهة نسير؟

نستطيع أن نستلهم خصوصية هذا الوقت بانفتاح إشاراته وربطها بالذات الشاعرة التي أنتجت نصوصها على هذا النحو. أو يا ربما علاقة هذه الذات بالظرفية التي تحتوي حركتها في تفاصيل ذلك الوقت. ولاسيما أن الوقت المعني بهذه الفاعلية لا يغرينا باعتبار أن الزمن والوقت في دلالتهما اللغوية والإشارية مترادفان. بل إن علاقة الوقت بالزمن قد تساوي عندي علاقة هذا وذاك. الأولى للقريب، والثانية للبعيد. وكأن ظرفية الوقت أكثر التصاقا بصاحبها. بينما الزمن تظل ظرفيته أشمل؛ حتى لتتجاوز الذات إلى ذوات أخرى ومضامين أكثر اتساعا.

إن ارتباط الوقت بأحمد عايد صاحب الحالة برمتها قد يؤسس لملامح تتسق دلاليا مع إشارات نفسية تعيد الاعتبار للذات، لا للانتصار لخصوصية هذا الوقت بالإشارة الصريحة للاسم. بل للانتصار للذات التي أنتجت وقتها الخاص من جهة، أو انفلتت بوقتها من عناصر عدة لأوقات لا يُمارس عليها أي إرادة من قبله. أو التأكيد لدوائر التلقي أن هذا وقتي أنا.

في تخريج آخر تبدو لي قيمة الإضافة بربط الوقت باسم صاحبه كردة فعل لسيولة أوقات أخرى سحقت أو انسحقت تحت وطأتها نفوس ذابت أو تلاشت مع هذا الوقت ومكوناته. إذن فذلك الربط في تأويلاته النفسية قد يذهب بنا للاعتقاد بكون الكتابة ذاتها محاولة للحفاظ على هذه الأنوية. التي باتت سياجا يحافظ على "أحمد عايد" نفسه ويحميه من مغبة الانسحاق في ظرفية أوقات أخرى ليس مسئولا عنها. ودون التورط منّا في نعت هذا التوجه لكونه نزعة لنرجسية ينتحلها الرجل؛ كي يؤكد لكون وقته هو الأهم والأبرز إذا ما قورن بأوقات أخرى.

إذن هو وقت أحمد عايد. الوقت المؤشر دلاليا بكل عناصره المتاحة{ الليل/ عصر/ الضحى/ الفجر/ الخريف.. وإن ظل الصباح هو الظرف الذي تكرر كثيرا كإشارة للبدايات وللاستهلال، أو يا ربما نتيجة لمقدمات ليلية لا تخلو من شجن وافتقاد} رغم أن الديوان في علاقته بالوقت يعكس في مجمله إرادة انتخابه، لأنه بالضرورة كان للبوح واستجلاء الرؤى التي قررت في ثنايا هذا الوقت أن تعلن عن كل هذا المخبوء. الغريب أن كل الرهانات التي حاولت أن تصادر على ماهية هذا الوقت قد باءت بالفشل أو تكاد. فالوقت لم يبد مأزوما بالكلية رغم توافر مكونات الأزمة التي يمكن أن نلمسها دون جهد....   

أرفع النبرات مدعيا شجاعة فارس أسطورة
والخوف يملؤني
فكيف سأحرس الأشياء
والأشياء تجهلني وأجهلها.

أزعم وقد يصح زعمي أن الخطة التي سبقت فعل كتابة النصوص كانت على أعلى درجات الانضباط الرؤيوي، وتدرك باليقين ماذا تريد من هذه الكتابة. اتخذت منطق السباحة حول مضامين الأزمة، دون التورط العميق الذي يجعل من النص ضاغطا حد الألم. لا أريد هنا أن أقول: إن محاولات تبسيط الأزمة وعناصرها كان حاضرا، ففي ذلك ظلم ولاشك. لكن ما نستطيع التدليل عليه. هو إعادة توزيع الهموم الخاصة وتحديد شكل العلاقة بين هذه الهموم بمضامين الواقع لحظة لقاءه بتصورات الرجل حياله. لم يكن تهوينا بأي حال، بل أحسبه تساميا فوق الأزمة ومكوناتها الطاعنة. التي من شأنها التعويق الذي ينعكس بدوره؛ كي يُلمح بحضور ذات على قدر من الهشاشة أو تكاد. لذا وجدنا تعاطيا على درجة كبيرة من الرهافة. تخلى طوعا عن هذه اللغة التي تعمق الإحساس ببشاعة الواقع المتماس مع هذه الشاعرية. لغة على درجة من الصفاء البنيوي لا تحمل أنساقا ممتعضة في تطرف، أو كارهة بإلحاح.

بطبيعة الحال ظل الموقف من العالم هنا لا يحمل أي معنى للانسجام الكامل، الاختلاف المتصادم، أو التورط في إشكاليات كبرى، فالرجل يدرك- يقينا- الأزمة، لكنه يؤسس عوالم متوازية قادرة على تجاهلها. أو على أزمات أكثر تخففا وتحللا من عناصرها في ثوب القتام.

إننا نلمس فيوضات تتناول عناصر الرؤية الخاصة حيال مواجيد نفسية تسير بأقدام تكاد لا تلمس الأرض. تسعى بدورها لإبراز معاناة الإنسان ولاسيما المبدع. الذي يريد أن يختط طريقا أقل وعورة، وأخف وطأة، وبأقل خسائر ممكنة للروح. 

إن إشكالية هذه الكتابة – في نظري- إنها لا تنتحل محدودية الرؤية أو أحادية الموقف حيال ما تطمح إليه وطرق تحقيقه. ولا تؤسس لاغترابها كمرجعية تحاكم عالمها. محاكمة تتسم بالإهانة والتشويه. فبحسب الرجل أنه شاعر، يطارد القصيدة والأفكار البكر، التصورات المتجاوزة، شاعرية تسعى لتحطيم النموذج الذي يرى في الاحتجاج العارم مجدا، أو في الصراخ الممجوج قيما فنية تصل بالشعر إلى أقصى درجات التواصل. بل إن هي إلا كتابة تحاول رأب صدع الذات أو إقامة حدا مقبولا من التوائم مع المفردات المأزومة والتوائم الكامل مع مكونات البراءة التي تستطيع أن تنتصر للإنسان في معناه ومبناه قبل أن تنتصر للعالم المرتجى، الذي ينهض فوق ركام كارثة لا تريد الذات الشاعرة أن تقف كثيرا عندها.

هل يكتب الآن قصيدة ً
أم يرتب وقته في دفتر ٍ
أم يقرأ الصحف الرتيبة
أم يداعب قطةً  


في حقيقة الأمر إن الشاعرية التي تستطيع أن تجلب إرهاصات متعددة داخل إطار واحد هي في الأساس تدرك أنها في طور الانفلات من براثن أزمة واحدة إشكالية قد تسيطر على المنتج الشعري إجمالا. لذا لم يساعدنا المتن الشعري على اختلافه وتنوعه أن نتبين ما هو أبعد من المعنى الإنساني للأزمة، ومن جهة أخرى لم يمارس إلحاحا بتفاصيل أزمة واحدة. لذا من الظلم بمكان أن ننعت هكذا معالجة بكونها قد شتت التجربة، بيد أن الإطار العام الذي يحكم الإرهاصة يكمن في وثوبها فوق التقليدي من الشعر الضاغط من أجل عوالم أخرى إنسانية وشفيفة.  

الأربعاء، 30 مارس 2016

أحمد الخدرجي .. شاعرية الضد الجميل

أحمد الخدرجي
شاعرية الضد الجميل

هو واحدٌ من الشعراء القلائل الذين يستطيعون بسلاسة غريبة أن يؤسسوا للمأساة جمالياتها. فيجعل من الغربة وطنا له، ولكل الذين يعانون من شح الونس. وغياب الصحبة. يجعل من الدهشة أمرا عاديا، ومن الانفعال الإيجابي حيال شعره سلوكا مضطردا.

اعترف له بروافد كبيرة ومتشعبة. لم تكن بأي حال مجانية، صنعت منه شاعرا حقيقيا. وحين أقول حقيقيا أعنيها تماما. فالشاعر الحقيقي في زعمي يمتلك موقفا واضحا من العالم، وتفاصيله وأزمته. يحتفظ في كينونته بسرٍ علوي. يجعله يحلم نيابة عنا، ويصرخ ويحتج، ويعاتب زمنه نيابة عنا.  ويؤسس عوالمه التي تتسامى فوق واقعنا المغرق في إحباطه.

لم تكن شاعرية الخدرجي تؤسس لما هو أبعد من وجع خاص. نعم. لكن في آتون العامية ليس كل ما هو خاص متمركز حول الذات يجد صعوبة في أن يجد صداه في الآخر. بل إن الذاتية من شأنها أن تكون هلامية إلى درجة. فالعامية شئنا أم أبينا كتابة يقين. تقترب من كونها حقيقة اجتماعية. تماهت فيها الشاعرية حتى صارت هي ما نعيشه.

قد يلوم البعض الذاتية، وقد تلصق بمواجيده. الغنائية الزاعقة أحيانا. وقد يتهم شعره بغياب القضية والأسئلة الكبرى. التي تعكس للقارئ مفاهيم الكتابة المنطوية على وعاء معرفي، مؤسس على دراية كاملة بكيفية تشكيل الوعي. كذلك الأنساق الثقافية المختلفة من تراث وأسطورة وتاريخ. لكن كل هذه التهم مردودٌ عليها. بل إننا نصادف هذه المكونات. وقد لا يشقى قارئ العامية المتمرس إذا أمعن النظر في نصوص الرجل كي يستنبط هذه الروافد بطبيعة الحال. لكنها لا تبلور موقفا من أزمة كبرى أو سؤالا كبيرا. قدر ما تنتج جماليات خاصة بالسلوك الإبداعي نفسه. فالخدرجي في زعمي يدعونا أن نقرأه هو من جهة. ونتحد مع يقينه الشخصي في قيمة الشعر والقصيدة، التي باتت عنده أطهر بقعة قد يعيش في رحابها إنسان. نعم أتفق مع كل من يرى أن القصيدة عند الخدرجي قد تخلت عن قيمتها الإشارية كمحاولة لتفسير أزمة ما في الواقع المعاش، أو يا ربما رسالة تبتغي أن تلمس المرسل إليه. في خطاطة قد تدعو الكثيرين للعودة لهذه الجدلية: فن للفن.. أم فن للمجتمع؟

لا أريد هنا الاشتباك مع هذه الجدلية، وإنما أدعو من يعتقد في معنى هذه الجدلية ضرورة حتمية لأن يناقش الفن موضوعا قائما. أن يحاكم واقعا على هذا القدر من الارتباك.

 إن جور الواقع، وتجبر أزمته قد تبدو لشاعرية على هذا القدر من الرهافة وكأنها ضد الشعر نفسه. الشعر الذي هو قدس الأقداس في يقين هذه الروح. قد نقبل كرها أن يحطمنا هذا الواقع بتفاصيله المجحفة. وأن يؤسس غربتنا الوجودية والمرجعية. في إشارة هنا لاغتراب ملموس يجعلنا لا نفقد الثقة على التغيير وحسب، وإنما يدعونا أن نفقد جوهر الدور الإنساني الذي يستطيع أن يتفاعل مع هكذا تفاصيل. لذا لا أجد غضاضة إذا رحت لاعتبار القصيدة عند الخدرجي هي حضن ذاك الأب الذي غاب بفعل الموت. أو هي الأم التي لم ترهقها الحياة، وسلبت عطفها الجم حياله. بل وقد أذهب هنا إلى أقصى درجات التصور إذا ما ربطت ضجيج القصيدة؛ بالرغبة في استحداث الونس المفقود والصحبة الغائبة.

من الضروري أن نعترف للقصيدة إنها في مرافئ شاعريته قد تخلصت من كونها إرسالية لمعنى ما.. يضيء أو يفسر أو يحلل. حتى وإن بدت محتجة أو صارخة. فهي منتمية لروح رغم كل ما تعانيه، تلتمس من روح القصيدة ما يعين على تدليلها. أو تنبش رغبة العالم في أن يدللها ولو على استحياء. وربما ذلك ما يفسر حرص الرجل أن تكون أزمته هي المعادل الموضوعي لأزمة آخر لا يعرفه.

لا أحاكم الواقع. لكن أقول لدعاة القضية التي يطرحها الشعر. أو يبحثون عن أسئلة كبيرة تعبر عن الحيرة حيال ذلك الزمن.. أين هو ذلك الواقع الذي يستطيع أن يطرح هكذا مواقف أو أسئلة في وقت فاقد للحد الأدنى من المعيارية المنضبطة.. أو طقس عام  يكشف معاناة سقوط أثينا الفلاسفة أمام أسبرطة الغوغاء؟      

كان من الممكن أن تموت شاعرية هذه مقدراتها. أو أن تكفر باللعبة كلها. لذا عاد الرجل وأحسبها عودة منطقية للذات. للداخل المرتبك، وللأحلام المجهضة، وللغربة القدرية التي ما كان له يدٌ فيها.

إن شاعرية الخدرجي حسبما أفهم لم تكن لتؤسس لنفسها في قالب منتم للنمطي والمكرر والمستهلك أحيانا. فالرجل لا ينتصر يقينا لهذه الأدوات التي تنجز ما يمكن أن نسميه الإنتاجية الشعرية. لا ننفي هذه العناصر بطبيعة الحال. لكننا لا نراها كالنتوء أو كإشارة للامتلاك. نراها ذائبة في تداخل شفيف لاعتراف المذنب الشاعر للكاهن القصيدة.

كنت أرى شاعرية تجافي النهار، تؤسس عوالمها ليلا حين يخمد الصخب وينزوي الزحام، وتأوي الأوجاع إلى مضجعها. هنا يبدأ الشعر الذي يأخذ سمت الممارسة الفلسفية التي تأخذ بالتأمل، تراجع يومها وفق ما تعتقده في تفسير أزمتها. التي تسمو بدورها فوق هذا العالم وتفاصيله. هو الليل إذن الذي لن يموت بإرادة قناص ضعيف النظر؛ كي يأتي بالصباح الجديد. أصبحنا نسمع الوحدة، ويتسلل لنا ذاك الفراغ العاطفي الرهيب، الذي يبحث عن أنثى، أكثر نضارة من الجحيم.

لم يكن الخدرجي في زعمي يسوق الدليل الأكثر حسما في تصوره للحب كأكبر وأطهر حالة قد يعيشها إنسان، في هكذا واقع ينتحل شخصية قاتل مأجور، يغتال كل رغبة حقيقية للبحث عن هذه العاطفة، ومن ثم هذا النموذج الذي يسمو فوق تصورات الخيال، والذي يصاغ بدم الروح. فيأتي دائما أقل من المتخيل، وأقل تأثيرا من هذه القابعة في البعيد تسيطر بصولجانها على كل مفردات الحلم كي تسخر منه.

إن هذا البحث الدءوب هو الذي جعلني في لحظة ما أصف هذه الأنثى على ضوء شعره بالمستحيلة أو الأزمة. وقتها كنت أقع تحت غواية الإنتاجية الشعرية التي تبلور هذا الافتقاد. حتى تمنيت في دواخلي أن يلقاها كي تهدأ نفسه. لكن ماذا عساه أن يكون إذا وجدها.. فيا ربما خمدت فورة البحث التي تنتج هكذا شعر، أو يا ربما فقدت التجربة جزءا كبير من وقودها.

لم أكن وقتها أملك رفاهية النصيحة أن يبحث الرجل عن بديل. أو أن يؤسس متوازيا إبداعيا لهذه الإشكالية التي تشكل جُل طموحه الفني. مع الوقت بدأ الخدرجي يؤكد يقيني في كون المسألة أكبر بكثير من يقين فراشة تتدثر بالعتمة كآخر حصن يعصمها استهداف الضوء لحياتها. وأن السباحة في تلاطم البحث كان شاطئه الأكثر أمانا لروحه أن يستريح خلف عدسة شاعريته، كي يرصد لنا لطف التفاصيل. حين تتآلف في دراما أقل حدة من واقع يتفانى في مجابهة الأنفس المُرهفة التي تعلن في شرف.. ضعفها النبيل في مواجهة عالمها.

كانت شاعرية الرجل محاولة لإعادة ترتيب الفوضى، بخطاب شعري يؤسس جمالياته الخاصة انتصارا للرؤية من جهة، وانتصارا للمهمش الجميل الذي توارى بدفئه وغوايته تحت ركام من قبحٍ لم يكن ليتحمله.

لم تكن شاعرية رد الفعل. حقيقة كان يجب الدفاع عن مشروعيتها من كل ذائقة تماست مع شعره. أو أدركت بشكل طبيعي إلى درجة كنها أزمته.
إن المسافة المقطوعة بين شعر الأريكة والواقع الذي سبق عملية الإبداع ذاتها، لا يغرينا بزوال القضية وهنا أعني المستهدف الرئيس من الكتابة، لأن مشكل البوح الذي ينتخب لحظات الكشف كيما تتعرى الحقائق المسكوت عنها، ولو بالتلميح أو الإبانة.. برموز وإشارات تحاول اختزال الأزمة في خطاب شعري ينتصر لقيمة البحث عن جماليات تستحق التقديس، أو تفاصيل بريئة تعاني الغبن. يُشكل في رأيي منطلقات لحظة التسامي المطلوب والتي غادرت في عناد كل ما يشير لثبات الأزمة التي تمنع بدورها تواصله الشفيف مع العالم الذي بات في فطرة الرجل..  قادرا على إنتاج جماله، رغم يقينه المتحقق في اتساع القبح وثراء شواهده.

كان الانتصار للتفاصيل هو المعادل الرؤيوي إذن. والإقرار برفض الانصياع لهذا التراجع. وكان الحب ولقاءه أعظم الأزمات. والبحث عن هذه الأنثى التي ترضى لأن تكون سمكة السلمون التي قطعت رحلة البحث عن روحه كي تقف منتشية تحت هدير الشلال.
كذلك العودة للذات كآخر محاولة للاحتجاج كونه ضدا، وكآخر صرخة تستفز الأنفس الميتة أو تكاد: إني غريب. ولقد آن الأوان أن يحل الخلاص مادامت القصيدة تنزف فوق الصليب.

ربما يحتاج مشهد العامية أن ينتحل بعض الموضوعية، أو أن يكف نقاد الأدب عن ذاك الامتهان الفصامي حيال هذا المشهد إجمالا. أن ينتهي الاحتفال بالموتى الذين أنتجوا شعرا. له ما له، وعليه ما عليه.

لا أريد بأي حال إنتاج أحكام قيمة لا أحب إنتاجها. فحسبي إنني هنا ليس انتصارا للخدرجي كونه شاعرا يستحق، بقدر ما هو تعويض فقير مني لسلسال طويل من شعراء أحسبهم نجوما كانت تبدد عتمة المشهد. بمجرد أن تعبر أسمائهم الزكية حتى لأكاد أبكي. 

نعم يغتالنا سقف الضرورة، وتشغلنا الحياة بالرخيص من تفاصيلها. لكن يا ربما كان الخدرجي باختلافه بابا للدخول حيث هؤلاء الكبار؛ كي نعفر رؤوسنا في تراب الاعتذار.. يا ربما غفروا لنا غفلتنا وأشفقوا علينا. كوننا صغارا حد التلاشي. 


الأحد، 27 مارس 2016

نوراللات .. غواية الواقعي والمتخيل

لكل خطاب روائي ثمة غواية، إما أن تدفعك لملاحقة نمو الحكاية استنادا للدراما في صعودها؛ كي تصل لمآلات السرد. أو أن تدفعك دفعا للتربص بالمتن. لا لكي ترصد مفاصله، وإنما لتحاكمه أحيانا. ولاسيما أن الصفحات الأولى لم تخذل توقعاتنا. امرأة تكتب، وامرأة هي محور الأحداث التي انصاعت طوعا وكرها لصولجان الراوي العليم المهيمن على كل تحولاتها، يخلع عليها وعلى الشخوص المحيطة بها أحكامه، يتكلمون من خلاله، ويحلمون أحلامه، ويتشكلون كصدى لإحباطه.

لم يكن صعبا بأي حال أن تبحث" مي سعيد" عن أفق زماني أو مكاني. فالواضح أن صوت الراوي قد انتخب 2012 كمنطلق للسرد. ففي إشارة جدا واضحة(ص 14) { طبيعي جدا أن تكون هذه هي طريقة الإخوان المسلمين في الحكم وإدارة البلاد. فلِم العجب!}

في حقيقة الأمر لا أريد محاكمة النية التي تتصدى لنسج حكاية هكذا تبدو أو تكاد. بيد أن هذا التاريخ بعيدا عن إشاراته هنا. كان من الممكن أن يرصد في تشكيل دلالي أبعد أزهى أشكال التشتت والتشرذم الذي يستطيع بدوره أن يستفز كاتبا أن يحكي من منطلقات هذه اللحظة؛ كي يرصد الانقسام والبراجماتية الرهيبة التي مارسها الجميع. لكن هذا لم يحدث. لا لشيء، لكن يا ربما قد وقعت الكاتبة في غواية (نور) لتمرير الأفكار والرؤى التي يراد تصديرها في متن روائي لم يكن قليلا على حساب صفحاته، ولم يكن كبيرا كذلك.

بطبيعة الحال تتحدث الرواية عن فتاة قاهرية من أسرة نرى أفرادها كل يوم في حياتنا. فتاة تمثل منطق الأنثى الأزمة. أو الخطيئة على حد تعبير الكاتبة. هنا يطالعنا أفق المكان. الذي يتشكل مع أزمة الشخصية الروائية، حيث القاهرة بكل ضجيجها وزحامها. الشعور الحاد بالاختناق الذي يجعل من الواحة والصحراء والنخيل مجرد حلم يتكرر كحيلة هروبية من كل عناصر الضغط المحيط بالشخصية المركزية، وعالمها في آن. بالإضافة إلى ضغط الثلاثين سنة والتأسيس الدرامي لهاجس العنوسة. والذي وإن لم يضغطها من ذاتها، فمؤكد يضغطها اجتماعيا. ولاسيما أن آلية التعريف والتوصيف لـ (نور) لا تغري بالاعتقاد أن هذه الفتاة قد تصادف أزمة بوار محتمل، كونها على مقاييس معينة تحوز قدرا من الجمال. هنا تطرح الرواية أول أسئلتها. أين الأزمة؟

إن ثمة علاقة طردية بين المتن والهامش في الخطاب الروائي، والذي يعكس بدوره ثنائية باختين الشهيرة: الأنا السارد، والأنا الكاتب. الأول هو ذلك الحكاء، والثاني هو محور الطابع الإرسالي في الرواية، والذي يحمل على عاتقه مضامين الحكاية وأهدافها. هنا نلتمس ولاشك قيمة أن تحكي من منطلقات لم يكن من الصعب الرهان عليها. فمنذ أن تبدأ سباحة في عوالم الروائية "مي سعيد" حتى تدرك أهم إشكالياتها وشكل تعاطيها الرؤيوي مع العالم.

فلم تكن حكاية (نور) مع عالمها القشوري المستفز يؤسس لأزمة وجودية وحسب، وإنما حضر تأسيس الموقف الأيدلوجي حيال حالة مجتمعية لا يمكن إنكارها، ربما ترتكز على مقطع رأسي وأفقي من حياة هذه الشخصية المركزية، ولاسيما إن السرد لم يسع لأن يرصد ريبورتاجا عن اليومي بتفاصيله في حياة هذه الشخصية. بل أسس في تناول أشهد له هنا بالوعي المدروس في صياغة متواز لهذه الحياة يأتي من تفاصيل حلم يعكس أو يبلور أو يكشف إلى حد بعيد عناصر الكشف والانفتاح للفاعلية السردية. حتى وجدناه هو مبتدأ الحكاية..

{تقف في وسط الصحراء والنخلات تحيط بها من كل جانب، أدركت أنها في الواحات، فهذه هي الصورة التي رسمتها لها من خلال ما رأته من صور. وما قرأته عنها. بينما هي واقفة مرَّ بها العديد من الناس يلقون عليها التحية، ويدعونها باسم آخر غير نور}  

بطبيعة الحال كانت الرواية في متونها السردية محاولة لتفسير هذا الحلم. ففي الإحالة الأولى هو مجتمع بداوة، ولست أدري يقينا كيف يمكن المطابقة بين المتخيل والواقعي الذي يجعل من هذه الواحة الحُلمية مطابقا لِما قرأته أو تسمع عنه؟ رغم يقيننا أن الحلم ضد المنطق في غالب الأحيان.

حاولت جهدي استنطاق قيمة هذا الخلط فوجدت ملمحا من يأس يجعل من الحلم هو منتهى ما تريده الرواية، رغم ما يمكن أن يميل بي ولو بشكل شخصي للاعتقاد أن هذا الحلم نفسه كان من المفترض أن يكون الرواية في أغلب مفاصلها. وليس عندي من دليل لقارئ الرواية المتمرس حين يصادف كل ما يشير لجفاف حياة بطلتها. بيد أن منتهى الحكي يعود بها للواحة لاستدراك قيمة أن نبدأ من هناك إذا كنا يقينا نريد الإصلاح.  

أزعم وقد يصح زعمي أن هذا هو المفتاح الذي يجب من عنده أن تنطلق الرؤية حيال أزمة المتن كاملا. لكن للصدق كان الخطاب الروائي يبتغي في نفس اللحظة  محاكمة نسق التدين الشكلي أو الإشارات الصريحة والضمنية لأزمة تيار بعينه يدعي امتلاك الحقيقة أو للدقة المصادرة على تعاطي الناس مع مفهوم الإيمان، وما يتبعه من سلوك وممارسة. ربما لا يغرينا هذا أن نقول بحدوث تشتت في القيم المراد طرحها؛ لأن الرواية بالفعل على درجة كبيرة من التماسك، لكننا كنا نسبح مع تيار السرد حتى نتعثر في قيمة فكرية أو رأي على درجة من الصدامية كان من الضروري أن نتوقف عنده طوعا أو كرها؛ كي نؤسس علاقتنا الإيجابية بالرواية إجمالا. هذا بالإضافة لصولجان اللغة التي أحسبها على ضفاف هذه الرواية كانت على أعلى درجات الصفاء والشاعرية، وبلاغة الأثر.

{ أصدقاء نور هم انعكاسات متعددة لها، نيجاتيف لصورتها الداخلية، صدى الخفي الجلي}

لا يوجد غضاضة بأي حال أن تكون راويا عليما وتقع في غواية بطلة قصتك. قيمة جمالية أضافتها"مي سعيد" هنا بسلاسة. لكن لن أقول لتماهي الأزمة، أو لكون امرأة تكتب عن أزمة هي جزء لا يتجزأ من أزمتها أو تكاد. بل قد أصل لمنتهى التطرف إذا أدعيت -جدلا-  أن مركزية الأزمة التي تناولها هنا الراوي العليم هي قضية ذات بعد تأصيلي استهلك عمره. ولعلنا نلاحظ هذا الثبات النسبي لعناصر الأزمة الواقع عليها فعل السرد. فالرواية تقريبا لم تبرح شخوصها وثباتهم الرؤيوي، ولا ثبات أماكنهم، هم بالضرورة يخضعون هنا لهيمنة الراوي العليم، بيد أن من الإنصاف بمكان أن يتحركوا في إطار رواية محدودة الصفحات دون أن نلمس نموا استعاريا في أدوارهم المحددة سلفا، بمعنى أن يتوقف رد فعلهم الدرامي الذي ينعكس بدوره على شكل حياتهم والآخرين، حتى وإن خضعت لهذا التشويه المقصود لذاته، متى أرادت الراوية.

 إن الإشارة الدلالية لمجتمع البداوة الذي يؤسس له حضور الواحة، الصحراء والنخيل والتمر، والعابرون الذين لا ينادونها باسمها الحقيقي.  هذه الواحة نفسها تعرضت في إطار واقعها لمحاولة أنثى أخرى بخلاف نور{ لات: روح حرة /محاربة/ قوية/.. وغيرها من صفات}
إن غواية التغيير في بيئات اجتماعية على هذا القدر من الثبات هو مكمن الأزمة التي تنتصر لها الرواية. وأزعم أن إشكالية الربط بين مدنية(نور) وهذه الصحراء بمكوناتها(الواحة) ربما تلقي الضوء على قيمة المثقف والمختلف في بناء التغيير المنشود الذي يستطيع أن يضرب أنساق الخرافة والجهل. وقبل كل هذا محاكمة هذا الثبات. بل إن (نور) في الدلالة الأبعد لمنطق السرد هي نموذج يشير ضمنيا لضرب هذا الثبات الذي تكوَّنت على ملامح شخوص أزمتها كل معاني الدهشة.. حين تطلب بإرادتها أن تنتقل من المدينة بصخبها وحراكها كي تعمل وتعيش في هذه الواحة. في إشارة جدا مهمة لحقيقتين:
الأولى: المسئولية الأخلاقية لحزب المتعلمين والمثقفين حيال أزمات الناس ولاسيما في هذه الأقاليم النائية.
الثانية: التأكيد على أهمية البدايات التي يمكن أن نؤصل نظرياتنا على ضوءها وصلاحياتها للاختبار في مجتمعات بسيطة، دون الوقوع في فخ أن مجتمعات المدينة المعقدة باتت عصية على التغيير إذا ما قورنت بهذه البيئات الاجتماعية.

لاشك إن هذا المستوى من الدافعية هو الذي خلَّص الرواية في رأيي من نمطيتها، وهنا أعني موضوع الكتابة النسائية التي تكتفي فقط بتوظيف السرد لإظهار هولوكوست ذكوري تعيش فيه المرأة إذا جاز التعبير.

لا أستطيع أن أسير مع أصحاب القراءات البريئة للأدب أن الرواية تنتحل مصداقيتها حتى وإن حدث ذلك التماهي بين الواقعي والمتخيل. واستنادا لهذا الامتزاج الرائع بين متون السرد على دفتي الفصحى والعامية. بل يمكن القول أن الفصحى في مكانها المحبب. والعامية في إطار توظيفها الفاعل الذي ينعكس بدوره على مصداقية المتن إجمالا وارتباطه الوثيق ببيئته. وحتى لو ارتديت ثوب المدافع عن عتبات كل فصل والتي قد تأتي كسياق حَكمي، أو مقولة مفتاحية. فإن هذه العتبات في تفسيري لوجودها. تبدو لي إشارات مختزلة لأزمة المتن المنطوي تحت لواءها من جهة، وإشارات مفتاحية من جهة أخرى.      


أزعم وقد يصح زعمي أن بسط معطيات المنطق على عالم النص وتشكيلاته. والتي تدفع بالقارئ لمحاكمة النص وإبراز عيوبه وحسناته لم تعد في الخطاب الروائي الآن ذات بال. رغم صدامية الثلاث عشرة صفحة الأولى. والتي تجعلك تعتقد إنك تقرأ أحكام تتسم بالإطلاق. بل قد أذهب إلى أبعد نقطة إذا قلت: إن هذه الرواية من الممكن أن تظلمها القراءة الأولى. ومن حسن الحظ أنها محدودة الصفحات؛ كي نتمكن من إعادة قراءتها، وندرك تغطيتها الكاملة أو تكاد لأزمة الفعل الروائي نفسه. والذي تسلل في ثنايا لغة أحسبها على أعلى درجة من درجات النقاء.   

الخميس، 10 مارس 2016

حامد صبري: مشروعية المفارقة..

 حامد صبري
مشروعية المفارقة 2/1

(1)

لا تتحول التجربة نتيجة لمفرداتها بقدر ما يحدث تطورها باختلاف البيئة التي تمارس فيها. والزمنية الخاصة التي تشارك في صنعها. ولاسيما أن عبثية قصيدة النثر تنطلق من مضامين الغفلة عن هذه القصيدة وطبيعتها وأهدافها. 

إذا كانت الرومانسية قد أعادت الاعتبار إلى الذات والغنائية، والتوغل في المضامين الفلسفية، وتقديس الطبيعة والجمال، بعد طول إرهاق للكلاسيكية والتي انتصرت بدورها للقديم والمحافظ، وعملت على ترسيخ التصورات الجامدة للحياة وتفاصيلها. وإذا كانت الواقعية قد أسقطت مملكة الحلم الرومانسي من عليائه في استسلام طوعي منها للانطلاق من الواقع وأزماته، أو العودة إليه إذا جاز التعبير. فإن الحداثة وما بعدها كانتا محاولتين لإعادة الاعتبار للهوامش التي أنسحقت تحت استبداد المتون الرئيسية للأزمة في تصورها الكلي المفزع.

لا أريد هنا استنطاق معنى ما يشير لضرورة قصيدة النثر، أو قيمتها في الراهن الرؤيوي، وحساب قيمة الاتساق مع مفردات واقعها وتحولاته. بيد أن من الموضوعية بمكان لفت نظر قراء الشعر على إطلاقهم، أو حتى خصوم هذه القصيدة لحقيقتين: 
الأولى: إن أزمة قصيدة النثر لم تعد أزمة وجود بأي حال. وأن من يذهب خلف هذا التصور ربما يقبع خارج الزمن.
الثانية: إن هرطقات بعض النصوص المنتمية للنثر، أو المدفوعة بتداعيات الاستسهال والمجانية - يقينا -  لا تمثل كل المشهد.
(2)
بطبيعة الحال، ودفعا لذلك التصنيف الكلاسيكي المتجه لكون الشعر معنيا بالوجدان والشعور، والنثر ذلك الأدب المعني بارتفاع قيمة الفكر. وهو تصنيف أتحفظ عليه إلى درجة إنكاره. ولاسيما أن "أرشيبالد ماكليش" في كتابه الأهم{التجربة الشعرية} يقول: إن خطيئة نقاد الشعر، حين راحوا للزعم بأن النثر ضدٌ للشعر. بل إن الحقيقة المجردة أن الشعر ضد للعلم، ولا شيء سواه. بل إن الركون لهذه الجدلية ربما أوعز للبعض بنفي الشاعرية نفسها عن خطاب النثر، وتحويل القصيدة إلى مونولوج عقلي جامد هو أبعد ما يكون عن كونه شعرا.

في حقيقة الأمر لا أملك تعريفا جامعا مانعا لقصيدة النثر يخصني في إطار رؤيتي لهذا المنتج الأدبي، وإن كنت اعتبرها موقف عقلي يمكن تأويله جماليا، بما يتسق مع الحد الأدنى من معطيات العرض الفني الذي يكتسب قيمته من رهافة هذه الرؤية، وطريقة بسط التصورات الذهنية لموقف الذات، وشكل علاقتها بالعالم. من هنا يجوز الاعتقاد أن روح قصيدة النثر تنطلق أساسا من قيمة الموقف، والذي يصطبغ أحيانا بممارسات تشبه إلى حد كبير الممارسات الفلسفية. فالشعر في زعمي ممارسة فلسفية لا تخلو من تأمل، هو يقينا لا يؤسس كدأب الفلسفة تصورات كلية للعناصر المشاهدة، وليس معنيا كذلك بإنتاج أحكام قيمة تخص مجالات الرؤية، لكنه في سبيل إنتاج رؤيته يحاول أن يجعلها أكثر غواية، ربما لن يقترب الشعر؛ كي ينجز حقائق يقينية مسلما بها، لكنه قد يكون أداة أو وسيلة لكشفها أو الاقتراب منها.

كنت أستطيع هنا أن أشير إلى إشكالية الوعي كمحك رئيس يقف خلف أطروحات خطاب النثر، بيد أن مشكل الوعي في ذاته، إذا لم يكن متسقا مع موقف واضح أو يكاد من الأزمة وعناصرها، فإن النص كظاهرة سيتحول إلى ما يشبه الهذيان باللغة.
 (3)

يرتكز خطاب "حامد صبري" على موقف واضح من العالم، يغلب عليه طابع التحفز، الذي قد يصل للتنمر، وربما نستطيع مع أطروحته أن نرى امتعاضا أو كراهية، أو آيات عدم الاتساق. موقف من الصعب أن نحاكمه رؤيويا؛ لأن شواهد الأزمة لا تغري بتبني الضد. لذا تتحرك تجربة الرجل؛ كي تنجز اندهاشها، وفي إطار سياقات هي كذلك مدهشة. تحاول في جهد أن تتلمس معنى واحدا ينتحل بعض المنطقية. وإن كانت شواهد التجربة من نصوصها تحاول ضبط إيقاع المأساة للتخفيف من قتامها. رغم كل ما يتداعى من مظاهر عدم القدرة على الفهم، لا لانعدام أدواته، بل في إشارة لتعملق الأزمة نفسها حيال روحه الشفيفة. وقد أفقد هنا موضوعيتي إذا قلت: إن كتابة الرجل هي الاغتراب في أزهى تجلياته. فقدان تام للمعنى، وإقرار ضمني بعدم الجدوى. مع ثقة متطرفة في أن تتزحزح الأزمة من مكانها يوما.        

أسألها و هي تمسح على رأس الليل العجوز  
و تراقب هذا الذي يجلس أمامها و تضحك
: بدين جدا .. كيف تحتملين بدانته تلك؟
: ليس بدينا، بل العالم  هو الذي صار ضيقا أكثر .

لا يمكن الانفلات هنا من إشارات كاشفة أن المصالحة بين الذات والعالم مستحيلة. بل إن معنى الانسجام المنشود بات أقرب حيال الذات. الأمر الذي يحيلنا لتلمس الزهد في التعاطي مع خطاب وجداني يسعى للبوح الفضفاض. هي شاعرية عابر سبيل ولاشك، أدرك القتام، وحاول تخفيفه، يصادف المأساة فيدير لها ظهره أو يكاد.

أزعم عند التصدي لموقف يماثل موقف شاعرنا هنا، والذي ارتضى أن يعبر عن مواجيده نثرا، فإننا نصادف خطابا شعريا بطعم الأريكة، لن أقول بوح العليل للمعالج، وإنما هذيان إشاري يحمل إحالات هذه الغربة القدرية. لكن في إطار لغة أكثر استقلالية، لكنها مشحونة بالعاطفة المتوترة، والإحساس المرتبك أو العاجز. فالواقع عدائي إلى درجة، لكنه قاهر، أكبر حتى من قدرة ذواتنا على تحمله في غالب الأحيان.  

إن إشكالية قصيدة النثر على ضفاف تجربة كهذه تتحدى نفسها؛ كي تنتصر لأهم مهمش في هذه اللحظة(الإنسان) لكن تظل الآلية الأشد ضراوة هنا كيف يمكن تسريب الموقف بتصوراته الذهنية على تنوعها ومظاهرها. ولاسيما أن المسكوت عنه على ضوء ما لدي من شواهد، يؤسس لنصوص تريد أن تفهم بالضرورة ماذا حدث. حتى مع تنامي عزوف الرجل الشكلي عن طرح هكذا أسئلة. بل قد أذهب لأقصى درجات التهور إذا قلت: إن جوهر تجربة حامد صبري.. كيف أكتب نصا لا أظهر فيه بمثل هذه الهشاشة؟

كانت الحيلة الأولى لدفع هذا الشعور الطاعن أن يؤسس النص مقطعيا. في محاولة واعية لوقف الاسترسال في الأزمة. مقاطع ليست يقينا تتآزر مع غيرها؛ كي تمهد أو تفسر أو تحفز، لكنها زاوية رؤية قد تتوازى مع أخرى، أو تتقاطع معها. دون الإشارة هنا لمعنى الاستقلالية الحاد لكل مقطع، بل إن المعنى الخفي المراد الانسلال إليه إشارة على عدم الاكتمال، فالرجل إلى الآن على الأقل لا يملك حكما نهائيا حيال أزمة واقعه، مع الإقرار الضمني بعد الاتساق معه، وأسبابه الواضحة.

أمي صديقة مقربة لمذيع النشرة
كلما اختلت به سمعت صياحه
وهو يهدئ العراك الصباحي
 بينها وبين كل أمهات القتلة ..

بطبيعة الحال إن الفطرة التي تستطيع تأسيس انفلاتها بعيدا عن مشكل الوصف والتوصيف لهي فطرة جديرة بالتأمل، لأن المسألة جدا ملفتة. فالجمع هنا بين الغنائية والسردية لم تدفع به للإلحاح الذي يشير بدوره للتوصيف المرعب لأزمة عالمه. لذا من السهل أن نشير لمفهوم الهدنة الشعرية ولو من طرف واحد. الشاعر على الأقل. وهذه الهدنة قد تأخذ عند حامد صبري شكل السخرية المبطنة من بعض التفاصيل.

في حقيقة الأمر هناك ثمة علاقة طردية بين السخرية والأزمة. فموسم رواج السخرية هو من يعبر عن رواج مماثل للأزمة. بل إن من يدعي الآن تخليق مفهوم المفارقة عليه أن يمتن للواقع كونه ينتج مفارقاته العجيبة التي تسخر بدورها من أي منطق. فانطلاقا من البدانة في الشاهد الأول هنا. أو العلاقة المرتبكة بين الأم ومذيع نشرة الأخبار، وكل ما يشير له من غموض التفسير. وغيرها من تناقضات.

إن الاعتراف بالانسحاق أمام هذا الواقع لا يؤسس وحسب خطابا شعريا يتسامى فوق مركبات الأزمة، دفعا لعدم الظهور بمثل هذه الهشاشة التي أشرنا إليها. بيد أن من الإنصاف بمكان الاعتراف للشاعرية هنا بمقدرات السخرية التي تخفف من غلواء هذا الشعور. لكن على الضفة الأخرى من النهر، وفي تماس مدروس مع الحد الأقصى من الفهم لطبيعة قصيدة النثر، فإن النزوع للدراما، حيث تتسع عوالم الذات لحضور الآخر في متون هي بالضرورة مأزومة، يمثل حيلة أخرى تبلور هذا الاغتراب من جهة، وتؤسس لمفهوم الصراع على اتساع مظاهره.

أزعم وقد يصح زعمي أن "حامد صبري" يدرك كغيره من الشعراء المجيدين أن مكمن إشكالية قصيدة النثر في كونها تصورات ذهنية قد تكون أكثر تركيبا من العالم، حتى وإن تجلى الأخير في قمة ما يعرض من تناقض. الأمر الذي يؤسس بدوره لقصيدة النثر كحالة جدلية منشأة لصراعات ثنائية ترصد التنافر، والصراع على إطلاقه. مع العالم وتفاصيله وظروفه، وربما مع حركة الأقدار نفسها. من هنا تتأسس الفطنة. فصراع الذات مع عالمها لم ينفِ الآخر. لأن الركون إلى فاعلية الدراما قد يفقد الكثير من بهائه إذا استقر فعل البوح عند مشكل المونولوج الشعري. بيد أن اللافت هنا ترسيخا لدرامية النص ذاك الحرص الذي لم يكتفِ وحسب بالسماح للآخر بالدخول لعوالم الرؤية. وإنما في تخليق حركة تبادلية للمواقع بين تشيؤ الإنسان، وأنسنة الأشياء.
     
الشعب أبو بكر البغدادي : يقيم الحد على ظله ..
هنالك فلانتين حدث في غيابك/ و أنا لا أجد غيركِ في المطبخ/ بجانب السكين سكيني التي لا أستعملها إلا لتقطيع الفاكهة .. تضحك مني باستمرار .. و تشعر بالحنين لأخواتها في برنامج النشرة/ وأنا كلما فكرت بكِ /هوى نصف شقتي و صرت شرفة!!

تقر شاعرية حامد صبري على ضوء هذا الشاهد أن إعادة تنسيق الواقع الخارجي على ضوء مشاعرنا الداخلية مسألة جدا صعبة. فلا الرجل على دراية كاملة بحقيقة العلاقات المرتبكة في ذاتها خارجه، ولا يستطيع إعادة ترسيم مدركاته التي تتجه بدورها لترميم هذه الشظايا. هي أزمة سياقات ولاشك، تخلق بدورها تخريجا جديدا للدراما. تندهش ضمنيا من حضور النظام في اللانظام والعكس. لكنها ترصد واقعية التحولات الحادة التي تثبت يقينا مدى تحقق العبثية كردة فعل حيال عبثية أشد وأعنف. وتعترف أيضا أن ترف توصيف الأشياء بات فاقدا معناه. وكأننا فقدنا دون رغبة منّا معنى الوصاية على الأشياء.
 
(4)

إننا حين نقول المفارقة في شعر "حامد صبري" لا نقصد أن هذا كل ما يمكن أن يقال. وإن كنت أحاول منطلقا منها للإشارة لعدة مفاهيم. يا ربما تمكنا من فض الاشتباك ولو مؤقتا. لأن خطاب النثر قد أوعز لدعاة الاستسهال، واستنادا على المفهوم الأكثر شيوعا الذي يتجه لبناء النص على تصورات ذهنية والذي أغرى البعض للاعتقاد بكونه تأسيسا لغياب الشاعرية.

اعترف هنا أن الصورة الشعرية هي أهم مقدرات الشاعر على الإطلاق، بل قد تكون هي المحك الذي يعبر عن أصالة موهبته، وآليات استخدامه للغة استخداما فنيا.

بطبيعة الحال ومع غياب عناصر الموسيقى الخارجية التي تم تجاوزها مع الوزن وتداعياته، فإن الصورة كضمانة فنية على التناول العقلي وتأويل مواقفه حيال الواقع تأويلا جماليا، قد تدفع بالصورة أو لعبة المجاز في ضرورة أن تتماهى في لحمة النص؛ كي تحمل على عاتقها مضامين التجربة، متجاوزة في ذلك أداء المعنى في صورة مباشرة. كذلك وتضفي من لدنها ذاك التكثيف الشعري الذي يقتل المسافة بين الشعر والواقع.   

كبقعة زيت التصق الشعر بثوبي
هكذا، وبمجرد أن طوى أبي الجريدة
و قرر أن يكون أبا
ولدت مبقعا
 وهكذا ازدحمت حجرتي بالورود والأشجار والجثث والطيور والموسيقا والغيوم و الطلقات
 وجثث ال"أحبك" المستعملة

إن البيئة على إطلاقها حال اصطدامها بالشاعر المطبوع تؤسس لهذا الدرب من الصور. مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة الشاعر إجمالا. لكن هنا أريد الإشارة إلى معنيين على درجة كبيرة من الأهمية. ففي هذا التماهي بين ما هو حسي وذهني في نفس اللحظة. الحسي المُدرك من لغة الحياة اليومية، والذهني القائم على دعائم موقفه الأصيل من الأزمة وحكمه عليها. تتجلي قيم الارتباك. هذا أولا. وعلى صعيد مختلف. فإن القدرة الخاصة على بناء هذا المزج تشير لانعدام قيمة التآزر بين التفاصيل، والتي بدت في خصومة حدية، حتى قبل أن تدخل إلى متن النص.

الصورة إذن في قصيدة النثر حصيلة وعاء معرفي يؤسس لوجودها، لكن يظل السؤال مطروحا على شاعرية "حامد صبري" وبالتبعية على عنصر المفارقة عنده، والمستند في خصوصية على مضامين الارتباك الرؤيوي الداعم لحالة اغترابه.. كيف يمكن تأسيس المجاز مع هكذا موقف؟؟

إن أول ما يمكن ملاحظته سقوط كل ما يحول بين النفسي والمعنوي من المدركات. لذا لم يكن تأسيس المفارقة عنده عفويا رغم تجليات هذه العفوية الزاعقة. بل يمكن القول: إن المساحة القابعة بين النفسي والمعنوي هي التي أوعزت في تناول ذرائعي صياغة المفارقة استنادا على المغامرة المحسوبة باللغة من جهة، أو على تراسل الحواس من جهة أخرى، والذي يؤسس ضمنيا جوهر المفارقات المدهشة. حين تصوغ الشاعرية التماثل في اللاتماثل. وتخليق غرائبية لا يمكن تخيلها في دوائر التلقي.

حين مشيت على أفواههم المفتوحة الجائعة
عشت ككراسة رسم في يد طفل محدود الذكاء
صعلوك يجر كيسا من الأحزان
والصدمات والمخاوف

إن المعادلات النفسية ولاشك على ضفاف هذه الشواهد هي العالم الأكثر حميمية من العالم المتخيل بكل بهاؤه. والتي تنشئ بدورها جدليتها مع الواقع. بمعنى إننا نرى تصويرا يقترب من كونه كابوسا إذا ما قورن بغيره من مجازات تتحرك بقوة وجودها الواقعي؛ كي تنجز تفاصيل هذه الرؤية الكابوسية.

في حقيقة الأمر إن المعنى الإنساني الذي يسير كتفا بكتف مع ضعفنا البشري ما كان حال إسقاطه على مفردات واقعنا بقادر على بسط معطيات تصوير منتمية للحد الأدنى، الذي يعبر عن اتساقنا المفقود. بل إن قمة التجلي لمأساة الاغتراب قد يأتي هنا ليعبر. لا عن تشويه متعمد لمنطق العلاقات التي ينبني عليها المجاز، بقدر ما هي إشارة واضحة لانسحاق المعنى الإنساني في عالم مجحف التفاصيل.

إن العقل الذي يصوغ أفكارا أكثر تجريدا من مدركاتنا الحسية لا يقع في شرك المغامرة أو الرهان على هذه الحزمة من المحسوسات، حتى ونحن نصوغ عالمنا الموازي الكاشف بدوره عن عظيم ما نلاقيه من تيه. لذا فإن "حامد صبري" يقدم لنا تنازلا كاملا عن كابوسه، الذي ساهم في بناء مجازه الخاص ومن ثم مفارقاته، والتي لا تعكس وحسب ارتباك البنية المعرفية أو التعاطي المرتاب مع مدركاته، وإنما تعيد تخريج منطق العلاقة الخاصة مع عالم ومناخ عام يغلب عليه هذا القتام المرعب. والذي يشتت كل محاولة لإقامة تصور يقترب من الوضوح حيال الأزمة. لذا كان طبيعيا أن نرى تلاطما لمفردات البناء المجازي. هو بالضرورة أكبر من منطق المفارقة حتى مع الاعتراف بضديتها لكل ما هو مألوف ومكرر ونمطي. وأقول تلاطما وأعنيها تماما؛ لأن الرجل يقينا بفطرية التعاطي مع منتجه الشعري الثري بتحولاته. لم يكن يريد ممارسة الحشد الكامل لعناصر جمالية ضاغطة أكبر من ضغوط الواقع المعني بمجازاته. بمعنى أن يظل التلاطم أولوية عنده إذا ما قورن بتكثيف المجاز في كتابة تضفي أجواء من عمى قد يفقد الصورة في المطلق قيمتها كإضاءة للأزمة وعناصرها.      

خمسةُ جنيهاتٍ أتحسسها
و هي تجلسُ بمجونٍ في جيبي
وأفكر - ربما -  كنت سأحبكِ أكثر
 لولا ساقاها العاريتان

من أكثر صور المفارقة رهافة تلك التي تجعل من الأشياء تتسامى فوق شيئيتها.
لاشك أن العالم على حالته تلك سيكون منتجا سخيا للمفارقة. ففي حال الفقدان شبه الكامل للمعيارية وغياب الحد الأدنى من الاتساق، مع سيولة الأوضاع. فنحن نعيش في هذا الارتطام الذي تمثله في هذه التجربة. الذات وعالمها. بل إن شاعرية الرجل على ضوء هذه الشواهد القليلة نسبيا تؤسس لغياب الأسباب الواضحة التي تنعكس بدورها، كي تجعل من النص نتيجة هلامية إلى درجة.

إن المنتج الشعري عند حامد صبري هو إقرار بالفشل المتطرف على القيام بأي محاولة للتأليف. وأزعم أن قصيدة النثر الآن هي تجسيد لهذه المعضلة. وإلا لِم كنا نتحدث عن جماليات التشظي، ونؤسس حداثتنا – أحيانا – على الإقرار بالطعن في الأبدي والانتصار للامكتمل؟

{أمي تنام قطعة من الحلوى في ورقة سيلوفان}، { كان قبل اختراع الحديقة  يتكلم عن الغيوم}


لقد قلت مرارا: إن الشاعر المجيد عليه أن يذهب لأبعد نقطة من جنونه، لا لكي ينهل من معين هذا الاضطراب، بل وهنا المأساة؛ كي يحقق حالة من الانسجام مع جنون العالم. إن أبدية المعاناة في رأيي أن تجابه الجنون بخطاب عقلي واع. والتي أحسبها حيلة دونكيشوتية إذا جاز التعبير في التعامل مع واقع طواحين الهواء.  فإذا كان العالم يضرب كل أشكال التوقع، ويسخر علانية من أي منطق، فلا أقل من أن يأتي الشعر وليس هنا تحريا للمصداقية بقدر الحرص على خلق مساحة من الكشف قد تساعدنا في فهم التعقيدات الحادة التي تنبثق من جدليات مجهولة المصدر، أو على الأقل تعجز في نفسها أن تتسق مع حدود رؤيتنا.    

الثلاثاء، 26 يناير 2016

غواية العامية في "ترس" أحمد شبكة

غواية العامية في "ترس" أحمد شبكة
أنا كنت تِرس...
الاختلاف بيشقّقه 
حاول زمانة يِعَشّقُه 
قام عَشّقُه... 
في الناس و ليلهم و الغناوي و القمر 
عاشر بشر 
و امّا اتحشر 
كسّر سنون كل اللي سَجَنُه و صَدّقُة
و شَتّ عن كل التروس 
حرّر خلاصات الدروس 
و حلف يدوس 
علي كل جرح و كل طوق 
وعاش بدهشه و عاش بشوق 
و برغم كل حموله... برضو نَطّ فوق
و نادىَ علي كل التروس المُحبَطة 
يا كل مَتروس في الحياه 
يا كل عشمان في الغطا 
عيش و ارتعش 
في مواجهة البرد الحزين
ماتخافش من بُطء الخُطا 
ما تخافش من جَري السنين 
و لا عَصرِة القلب البتول 
و اصرخ و قول... 
شهد البدايات في التعب 
فشل التجارب كان سبب 
للمعرفه 
ثم الوصول 
الاختيار مالهوش اصول 
الاختيار محتاج جنون 
يا تعيش مِعشّق ع الطريق 
يا تعيش عشيق 
من غير سنون 
و انا كنت... ترس
***
رغم إن دوره ميكانيكيا ينحصر في نقل الحركة دورانيا حيث تتعاشق أسنانه مع ترس آخر؛ الأمر الذي يسمح بنقل القوة والحركة بدون انزلاق.. إلا أن في هذا النص (الشعري) ولعلي قد أضطر في لحظة ما لتبرير هذه الأقواس. قد تم استجلاب هذا الجزء الميكانيكي المحض؛ ليعبر عن ديمومة الأزمة والانسحاق، وربما التلف الذي يقاوم في استماتة؛ كي تستمر حركة الذات في هذا الطقس اللاإنساني.

لم يكن "أحمد شبكة" يؤسس نصا بطعم المجانية، ولا على الدرجة نفسها ينحت رمزا مستغلقا لا يمكن تأويله. بل إن مساحة المسكوت عنه تظل في رأيي تفجر دلالات الرمز، والذي يبدأ غالبا من معاناة الإنسان مع حياته، ودراما أزمته التي تبدأ من أحلامه، وسبل تحقيقها. الدراما في معناها الحقيقي، والتي تعني الصراع بما تنطوي عليه هذه الكلمة من دلالات. صراع الوقت والظروف والأقدار، حتى في منحى صراع التعرض المباشر للخذلان والفشل. من هنا كان النص يمهد بالرمز، وبلغة نقية تنسحب مؤقتا لحساب هذا الترس، والذي هو بطل العرض الشعري برمزيته، ومفتتحه.

{ أنا كنت} منطلق كتابي قد يعني خصوصية الحالة، لكنها لم تشأ أن تصادر على الآخر الذي قد يشارك الذات معنى الانسحاق الذي تؤسس له هذه الحقيقة كونه ترسا. لكن، وهنا ودون الانتقال لأحكام قيمة لا مكان لها. ظلت الرغبة في الاتساق هدفا للذات..

الاختلاف بيشقّقه 
حاول زمانة يِعَشّقُه 
قام عَشّقُه... 
في الناس و ليلهم و الغناوي و القمر 
عاشر بشر 
و امّا اتحشر 
كسّر سنون كل اللي سَجَنُه و صَدّقُة
و شَتّ عن كل التروس 
حرّر خلاصات الدروس 
و حلف يدوس 
علي كل جرح و كل طوق 
وعاش بدهشه و عاش بشوق 
و برغم كل حموله... برضو نَطّ فوق

لم تدخل الشاعرية في صراع مفتوح مع العالم. فهو ترس يدرك يقينا حقيقة دوره، لذا كسبت الشاعرية والصنعة الفنية معركتها وهي تصوغ هذا الجناس{ يعَشَّقه / عَشَّقُه} والذي يؤيد محاولة الاتساق أو الانسحاب البريء من آتون هذا الطقس المؤلم، لكن طاقة الزمان تظل أقوى من إرادة الرجل، فألقت به في البشر وتحولاتهم وتفاصيلهم.

في حقيقة الأمر لا أستطيع تجاوز الفطرة التي تجلت هنا (في الناس) كان من الممكن أن تكون بالناس، لكن تظل(في) بكل ظرفيتها تعني الانغماس الكامل مع البشر. لكن ورغم قدرية هذه الحركة الحياتية كونه ترسا، فالرجل قد كسّر السنون لكل من حاول أن يسجنه في سرمدية هذا الدور المُهلك.
على الضفة الأخرى من النهر تم أنسنة الترس الذي تعاطى جيدا مع تراث التجربة، وقرر وأراد، وانتقل طوعا من هذا الدور؛ كي يمارس انفلاتا يرضيه.

بطبيعة الحال في هذا الجزء من النص لا تتجلى وحسب عبقرية الكتابة بقدر ما تظهر عبقرية العامية ذاتها، بل وحساسيتها أحيانا. لأننا لو سألنا –مثلا- أيهما أدق دلاليا{ شت أم شذ} بالضرورة تظل شذ أدق بكثير من شت لسببين يحددان مفاهيم الإحالة. فـ "شت" تعني فردية الانفلات. ولا تفسر معنى الانتماء لشيء. بينما (شذ) فيقيناً تفسر حضور مجموع قد رفضته الذات الشاعرة في وقت ما، مجموع بشري إنساني ذابت فيه إرادات كثيرة حان وقت الخروج على ما كان يحكمها من قواعد وأفكار. لذا لم يكن تجاوزها كمفردة نابعا من حقيقة دورها الدلالي، بل تجاوزها الرجل لسهولة تأويلها على غير هذا المعنى، وهنا أقصد في حظيرة العامية تحديدا{ فشذ} قد تنحرف لمضامين أخلاقية لا يحتملها النص.

{ عاش بدهشة وعاش بشوق} تركيبة شعرية إذا استقرت في يقين قارئ العامية كونها بسيطة، تُظلم ظلما بيـِّنا. رغم مغادرتها لطبيعة المجاز التقليدي. لكنها تنطلق من مفارقة الدلالة قبل مفارقة نظمها على هذا النسق.  سطر شعري يفجر العديد من الأسئلة.. فمتى تعيش بشوق. بعد أن تعيش - يقينا- مندهشا؟؟

أزعم أن الدهشة قد تأتي كضد واضح لكل ما هو نمطي وتقليدي، فالتكرار على وتيرة ثابتة أو تكاد يجهض أي دهشة، ورغم طبيعة الرمز الذي استندت عليه فكرة النص، والتي تؤسس بدورها لكونها "ترسا" فهي بالضرورة منتج حقيقي للنمطي والمكرر، فالرجل لا يؤسس لانفلاته كخروج سلبي من هذا التكرار، بل إن الحياة بعد هذا الدور الوظيفي قد صارت جديدة بالكلية، وطالما هي كذلك فلسوف تنتج دهشتها. وكأن هناك ثمة قطيعة حدية بين أمس هذه الذات {الترس} والذات الجديدة الأكثر تحررا. ولأن الحياة بعد هذه التجربة قد تخلصت من مللها، فلا أقل من أن تحيا هذه الروح بشوق جارف يليق بالحياة الجديدة. فحياة بمثل هذا الشوق تعني الشغف المستمر الذي يراهن على جديد دائما تحت هذه الشمس.

لم تكتف الشاعرية بأن تنفلت منفردة، وتبحث عن حلولها الخاصة التي تدفعها لأن تخرج من كل ما هو نمطي، أو للدقة كل معاني الحياة الآلية والتي يغلب عليها هذا الكم من المعاناة. وهنا..    
و نادىَ علي كل التروس المُحبَطة 
يا كل مَتروس في الحياه 
يا كل عشمان في الغطا 
عيش و ارتعش 
في مواجهة البرد الحزين
ماتخافش من بُطء الخُطا 
ما تخافش من جَري السنين 
و لا عَصرِة القلب البتول 
و اصرخ و قول... 
شهد البدايات في التعب 
فشل التجارب كان سبب 
للمعرفه 
ثم الوصول 
الاختيار مالهوش اصول 
الاختيار محتاج جنون 
يا تعيش مِعشّق ع الطريق 
يا تعيش عشيق 
من غير سنون 
و انا كنت... ترس

اعترف إنها المرّة الأولى التي أصادف فيها(رغم قلة ما قرأته عموما للشاعر} هذه التقنية التي ربما لم تكن لتهتم بالتصوير بقدر ما تهتم بفاعلية البوح، أو السعي لعرض موقفها من العالم قدر ما تسمح الإبانة. فالنصف الثاني من النص عبور خجل على الصورة في حقيقة الأمر{ التروس المُحبَطة} { البرد الحزين} حتى وصلنا لمستوى من الصورة يقترب من الإدهاش الحقيقي { ماتخافش من بُطء الخُطا/ ما تخافش من جَري السنين}{ ولا عصرة القلب البتول} والتي نافست بدورها كل صور النص في التجاوز من حيث تصميمها ودلالتها. لكن هذا لا يمنع بأي حال روعة التصميم، وهنا أعني براعة النسج للجملة الشعرية الواحدة، وتأسيسها الجيد لإنجاز الأفكار العامة للنص وأهدافه.

ربما أستطيع تفسير ذلك فنيا، دون الدخول في متاهات التفسير التي تتجه للشاعر ذاته. والتي عادة ستتجه لاستنطاق نواياه بصورة لا تتسق مع ما نريده هنا من الإشارة الموضوعية لنص أحسبه جيدا. لذلك أقول: إن للترس كرمز ثمة كاريزما قد تغتال الرغبة في التصوير. وحتى إن سعت الإنتاجية الشعرية للتماس مع المجازات المتاحة؛ فلن تكون في قوة ما نشعر به حين نستدعي صورة الترس وإحالتها على حقيقة دورنا في هذه الحياة. لذلك أيضا وجدنا قاموس الرجل ينجز بساطته كأروع ما يكون دون تعالي أو فوقية يمكن الصدام معها. وعلى الضفة الأخرى وجدنا ما تيسر من عناصر الصنعة الفنية. التأسيس على القافية دون افتعال. الدوران على الجناس في محاولة إضافية لرفع مستويات الموْسقة. سيطرة الفعل المضارع الذي يتسق مع الاستمرارية المطلوبة للتحول والمضي فيه.

بطبيعة الحال يُحسب لهذا النص إنتاجه لعلاقات مباغتة في معناها ومبناها. سواء (البرد الحزين). والذي يفسر بدوره النصيحة الغرائبية (عيش وارتعش). (متروس في الحياة) بانغماس مفردة "متروس" في العامية لمستويات عميقة جدا. إنتاج الحكمة دون ارتفاع الصوت( فشل التجارب كان سبب للمعرفة). لكن يظل السؤال إلى أي مدى كانت علاقة هذه التجارب بالقلب؟
اللافت فعلا أن الشاعرية قد استثنت بانسيابية غريبة خضوع هذا القلب لتراث التجربة، وهذا ما يفسر قيمة هذه الصفة المضافة للقلب بكونهِ بتولا. كي تعلن بوضوح عدم خضوعه لعناصر هذه الحياة الكفيلة بأن تجعل من هذا القلب ملوثا بالتجارب الأليمة والطاعنة.

لاحظنا أيضا ثقة مضمرة في غواية فكرة النص، ثقة ربما أنتجت دون قصد رغبة في عدم التعالي على التكرار والسير معه لنهاية الهدف من هذا الديالوج من الذوات التي تتشابه مع مصير الذات الشاعرة هنا. { يا كل/ يا كل، ماتخفش/ ماتخفش، الاختيار/ الاختيار/ يا تعيش / يا تعيش}.

في حقيقة الأمر لا أدعي النجابة، فلو كنت مكان هذه الشاعرية لتوقفت كثيرا عند هذا الترس الإشكالي، ربما لأني-يقينا- أكثر قتاما من شاعرنا. لكنه وعلى ما تيسر من شواهد شعره. يظل الرجل ينتقل في نصوصه بإيقاع فراشة تتلمس الضوء مع يقين الموت إذا اقتربت.. هو على كل حال لا يريد أن يعيش هذه التجربة ويموت في يقين الضوء. لذا أذكر أن قلت في معرض رأي انطباعي إلى درجة: إن قوة النص عند "أحمد شبكة" تكمن في مفتتحه، وبشكل لا يعفينا من الإحساس بأن النهايات لن أقول قد كسبت معركتها مع شاعريته. بيد أن الرجل- ربما- يستجيب للاوعيه وينتج نصوصا غير إنها جميلة، لكنها تريد تعويضا ما؛ لزمن لم تكن الكتابة جزءا منه. لذلك تأتي خواتيم النصوص رغم جمالياتها أقل نسبيا من البدايات. نصوص أحسبها تتوقف قدريا، دون أي مسئولية من صاحبها. وربما هذا ما يفسر غلق النص بنفس الجملة الشعرية التي بدأ بها{ أنا كنت ترس} وكأن إشكالية الترس قد وضعت نفسها كقوسين لمعاناته.

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...