قد لا يتعاطف معظم
الناس مع التناقض الحاد بين الأسود والأبيض كلونين يمثلان أفق الألوان مُجتمعة.
نبدأ من عند واحدٍ منهما، وننتهي عند الآخر، والعكس قد يكون صحيحا غالبا.
ربما قد أسس هذا التناقض فرط وضوحهما كلونين أساسيين. وظل في يقين الباحثين عن المطلق والنهائي والأبدي يرفضون في حسم ذلك الرمادي الذي يتشكل دائما من اختلاطهما. والذي يعبر بدوره عن مناطق البينَ بين. وفي صورة انعكاس جدا مهم لارتباك الرؤية وضبابية القرار.
قد يكون الجدل الجميل
الدائر بين الأسود والأبيض قد صنعته ثقافة الشعوب، وليس اللونان كمصدرين لإشارة أو
دلالة قد تفسر لنا كيف دخلا اللونان لثقافة الناس وحياتها اليومية فيما بين البهجة
التي يمثلها الأبيض، والأسود كدلالة على الحزن والقتام.
في المبتدأ كان الخيط الأسود والخيط الأبيض من الفجر هو الإشارة الأولى لكون الأسود مرموز الليل، والأبيض إشارة للنهار القادم بعد لحظات في مستهل يوم الناس. الليل وغموضه، سكونه وثباته. والنهار الأبلج الكاشف بدوره لكل التفاصيل. أو يا ربما كان الليل الأسود هو مرتع الألم والسهد والأرق، وكان النهار الأبيض هو من يحمل بشرى زوال هذا الألم حين تتحرك تفاصيل الحياة بصورة أكثر حركة ونشاطا، فيظهر من بيده وضع النهاية لذاك الألم.
إن الليل المنبثق من اللون الأسود لم يلق في روع الناس أن يكون دلالة على الحزن في ذاته. وإن كان الموت هو من يؤسس حاجة الناس للون الذي حضر كثيرا في إشارات الحداد. فلماذا إذن لم يكن الكفن كآخر ما يرتديه الإنسان قبل خروجه من الدنيا أسودا؟
مؤكد على معايير
الإيمان لم يكن من الحكمة في شيء أن ننتقل إلى البرزخ في أول عبور للنهاية، ونحن
على هذه الهيئة الحزينة. فنحن بلقاء الله لا ينبغي لنا أن نحزن من الأساس. لكن
بياض الكفن رغم ارتباطه بفعل الموت والانتقال، هو من يؤسس لون فستان الزفاف والذي
يمثل الفرحة الكبرى لكل بنات حواء وهي تبدأ حياتها الجديدة. فهل يجوز على هذا
القياس أن نعطي للأبيض دورين متناقضين في ثقافتنا. وخاصة أن شعيرة الحج تفترض بنا
أن تكون ملابسنا بيضاء. وغير محاكة بخيط، وكأنها تؤسس كفنا في صورة ملبس لا تمارس الشعيرة
إلا من خلاله؟
لا يوجد هنا حكم قيمة نهائي يحدد الإشارات والدلالات التي تبلور بوضوح قيم التناول لمفهوم اللون الأبيض في حياتنا. بل إنه إذا وضع على طرف معادلة فلابد أن يكون الأسود في ختام نتائجها. بل إن هذه المعادلة هي نفسها من تحقق دراما الحياة ومنطقيتها. فبم نفسر إذن واحدة من مقولاتنا المُهمة: ألا يوجد نقطة ضوء في نهاية النفق؟ أو لنعيد السؤال استنادا على قصتنا: ألا يوجد أبيض( يمثل نقطة الضوء) ينهي ذاك السواد (الذي يمثل عتمة النفق).
حين تصدى علماء اللغة لتعريف كلمة الساري. استندوا للآية الكريمة (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) فعلمنا أن الساري من يسافر في الليل. وإذا سألنا ذاك الساري ما يؤلمك حقا في ليل الصحراء الممتد لقال: يؤلمني غياب القمر. إذن فلقد سافر في العتمة لكنه يشتهي الضوء. وهنا تأتي وظيفة أخرى للضوء لا تعني ضديته الحاسمة لعتمة الليل، لكنه المنارة الهادية في ظلمات الطريق. هنالك لا يبدو الأبيض سوى إطلالة الهدى المُفتقد، وليس مجرد لون أصم يواجه أسودا مستسلما لأقداره.
قد لا يفطن المرء
منا أن التناقض الموجود بين الأبيض والأسود قد يبدو أحيانا تناقضا إدراكيا. يعين
الإنسان أن يؤسس باليقين معاييره الخاصة في تقييم الأشياء، ومن ثم المعارف
المختلفة. لأن انسحاق الأبيض لحساب الأسود هو انسحاق الضوء، والذي ينسحب من مضمونه
معنى اليقين والإدراك السليم. ومن هنا سيتجلى الأسود كسلطة قهر خلقت للإنسان
مساحات هائلة من الغموض. وانسحاق الأسود لحساب الأبيض قد يبدو ضد طبيعة الأشياء،
فلا يوجد يقينا من أشياء في حياتنا يجوز وصفها بمتناهية الوضوح. ثمة جهد كبير على
الإنسان أن يبذله كي يدرك ذاك اليقين. وهذا التناقض هو الذي لن نقول يؤكد مصداقية
معارفنا بقدر ما يمنحنا سلامة المنطق الذي أوصلنا للحقيقة المراد بلوغها. فلقد
أدركنا قسوة العتمة بمجرد أن لاح النهار. ولمسنا ضجيج النهار وقسوته بمجرد أن هبط
الليل بهدوئه وهذه السكينة المتسربة من ساعاته.
إن الأسود المبالغ فيه قد يعني تحكم الضبابية، ووجود ما يعوق فعل الرؤية للأشياء والتفاصيل. وتنامي الأبيض ليسيطر على المشهد كله قد تعني السيولة واللامحدودية، وهذان المعنيان ضدان لما نعتقده عن طبائع الأمور. ورغم ذلك كله، فإن دراما فعل الرؤية نفسها قد تسخر من هذا المعنى رغم جدارته. فالعين السوداء والخالية من مؤشرات البياض هي التي ترى بوضوح. بينما البياض الذي إن أصاب العين لكان هذا دليلا على العمى. من هنا قد يكونان موجودين كلونين يحملان معنى الإطار واللذان يضعان الصورة المقبولة لمدركاتنا. فهما من يكونان الصورة والخلفية. ويبرزان ماهية الضوء والظلال. وحتى على مستوى الخبرات الانفعالية. يساعدان على تبرير العبوس والتجهم في الوجه المسود، والبشر والحبور المتمثل في الوجوه المُبيضة.
إننا لا نجامل الأبيض إذا ما ربطناه لكونه مرموزا للفرح. ولا نخلع على الأسود سمت القتام والشؤم لأنه مصدر لهما. بل قد يكونان هما من حققا ديناميكية الحياة ذاتها. فلم يكن من السهل أن نرى البحر في منتهى وجوده لأننا عاجزون، فانتهى عند خط الأفق بلون أسود بالغ الاستقامة، فرأينا وقتها البياض الساحق الذي حققه شروق الشمس، والغريب أن نفس الخط الأسود الذي كان يمتد في خيط رفيع، هو الذي سيمتد بعدها بساعات كي يتعملق، فيبرز لنا مشهد الغروب الرهيب حين يتحول بياض النهار المبهر لحمرة مشربة بالسواد فينمو وينمو حتى يكتمل سواد الليل.
من منا لا يعرف الأسود الجميل. أتقول الأسود الجميل؟ نعم الجميل، ذلك الأسود الذي يغطي مفارقنا في إشارة جدا بالغة للصبا وعنفوان الشباب. إن الشعر الأسود حين يتجلى مسترسلا هو الدلالة الواضحة لأن العمر ممتد. والقوة للآن -على الأقل- لن تشيخ. لذا كان جميلا إذا ما قورن شعور المرء منا حين يرى أو شعرة بيضاء وقد تسللت كاللص لتعطينا ما يشير لكن العمر قد بدأ أو يكاد منعطف النهاية. ذاك المشيب المهيب الذي يفرض على الإنسان أن يغادر رعونة الشباب ويتحلى بالكثير من الحكمة التي تتسق بدورها مع اشتعال الرأس شيبا. فهل سنخلع ساعتها على سواد الشعر معنى الاندفاع والتهور الذي كثيرا ما يتسم به سلوك الشباب ولاسيما في البدايات وهل ساعتها سيكون الأبيض الذي يعني اقتراب النهايات مقترنا بالحكمة والوقار. إنها جدلية قد نبعت من ذواتنا، والأبيض والأسود منها بريئان.
ربما لم يجد
الإنسان الباحث عن جماليات التناقض جدلية أكبر من جدلية الأبيض والأسود، فرغم
طغيان الألوان تظل الصورة القادمة من عبق الزمن هي بمثابة إطلالة من الآن نحو
الماضي. أو هما التاريخ حين يتجلى لشخوص قد عبرت وأماكن قد اندثرت. بل أحسب أن
الأبيض والأسود الآن يحركان فينا مزاجا نوستالجيا بامتياز. بل وقد يذهب الظن أن
الأبيض والأسود الآن يتعرضان للانسحاق تحت ضغط بهرجة الألوان الأخرى، رغم حضورهما
في كل الألوان تقريبا. وأحسب أن الألوان جميعها قد نبعت من داخل فعل الرؤية. وليست
حاضرة أمامنا كي نستقبلها استقبالا سلبيا يضفي عليها من أحوالنا ما يجعلها متهمة
بجريمة ما لا ذنب لها فيها، رغم إنها على أضعف الأماني قد وُجدت؛ كي تحدد لنا كل
شيء، فباجتماع اللونين معا أدركنا ماهية المكتمل والواضح والجميل في نفس اللحظة.