ليس ضربا من وعظ، أو مبالغة في التدين، لكن أزعم أن تجربة المرض، هي
التجربة الأكثر صوفية، إذا ما قورنت برجل منقطع للتأمل والعبادة. فمناجاة الله مع
حضور الألم مناجاة خالصة، لا يخالطها ريبة أو أدعاء، ولا يضاهيها أي إخلاص آخر
لكونها قادمة من أعمق ما في القلب من أمل ورجاء.
من زاوية أخرى، يحدث للمريض ما يشبه التجلي، فالله هنا أقرب بكثير مما
يعتقد الأصحاء، الذين مازالوا على حال القطيعة. هنالك لا يبدو السقيم مُخلصا لشيء،
أكثر من إخلاصه للشفاء، وحتى جدلية الموت والحياة، لم تعد هي القضية المركزية التي
تشغله، بل إن زوال الألم والأرق مقدم على ما عداه، وكيف لا، والنوم قد صار كالكنز
المخبوء الذي لن يعلن عن نفسه إلا بتدخل مُعجز من الله سبحانه؛ كي تنتهي كل الآلام.
في جزء من هذا الحديث القدسي المُبهر في بنائه اللغوي. يقول الكبير المتعال: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال يا رب كيف
أعودك وأنت رب العالمين. قال: ألم تعلم أن عبدي فلانا مرض فلم تعده. أما علمت إنك
لو عدته، لوجدتني عنده.
إن هذا الوجود في يقيني ليس وجودا طيفيا بأي حال، إن هو إلا وجود حقيقي
بالقوة والفعل. بل قد يكون ذاك الوجود هو الخالق لحالة السكينة والرضا التي تكسو
حال المريض وسمته والذي قد يتناقض مع ما هو معروف سلفا من محبته للحياة والتكالب
عليها. ففي تجارب مرضية تتسم بالقسوة، تبدو عين المريض قريرة كزاهد. أو حكيم قد
خبر الدنيا، وأدرك منها ما يشير لتفاهتها وعبثيتها، وانعدام جدواها، وضلال مسعاها.
قد يظن المرء أن الحياة والموت قد وصلا للمنحنى الصفري، متساويان في
القيمة، والحقيقة أن الموت لن يكون مجرد نهاية حتمية ينفذها القدر بإحكام، بل هو
العلاج الناجع والحاسم؛ كي ينتهي كل هذا الألم. ورغم قسوة المعنى الذي صاغه
المتنبي من ألف عام..
كفي بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكن أمانيا
هنا أعلن المتنبي في إيجاز.. أن أصعب الأسقام، هي التي لا علاج لها غير
الموت، حينها يتحول الموت لأمنية غالية. وأذكر هنا أن تحدثت لأبي في أيامه الأخيرة
عن الموت كعدو لا يمكن منازلته. فضحك وسخر مني، وسألني في لهجة المستنكر.. أين أمي
وأبي وأخي؟ أنا لست جزعا من الموت، ولكن لا أريد أن أراه شاخصا في عيونكم، تطلبونه
لي؛ لكي أرتاح. فهذا المعنى لا يمكن أن أتحمله. لا أدعي أن أبي قد قرأ بيت
المتنبي. فالرجل على ما بدا من حديثه بعد ذلك قال: أريد أن أنام، فلا أقوم من
النوم إذا ما قُدر لي الموت، وأتمناه في هدوء.
في حقيقة الأمر، إن تصوراتي عن الألم، تشبه تصورات سيدنا إبراهيم عن الله
يوم كان يبحث عن هذا الرب في تأملاته كل ليلة.
فيوم أصبت بقرحة المعدة، كان ألمها شديدا جدا، فآمنت وقتها أن هذا هو أعظم
الألم. لكن في عارض من وجع للكلى، قلت: محال، هذا هو الألم الأعظم. وحين عرفت
نوبات المرارة، أدركت أن ألمها لا يضاهيه ألم. وحين راقبت آلام العامود الفقري،
وتداعياتها على أخي.. قلت في السر: لا نسبة ولا تناسب، ولا معنى لأي قيمة تفسيرية
للألم، فكل الألم عظيم، وما أضعف الإنسان!!
في هذه التجربة، تأكدت مزاعمي القديمة، أن الدنيا لم تُخلق لكي نحبها ونخلص
في محبتها. فبأمر الله لآدم أن يهبط، أدركت الفطرة إنها قد انحدرت من عال إلى
متدن. من سمو مُطهَّر إلى حقير مُدنَس. وإننا طالما لن نأكل الموت، بل فقط سنتذوقه{كل
نفس ذائقة الموت} فلا أقل من أن نمضي في هدوء وسكينة، فالعراك على الدنيا مجاني
وبلا جدوى. والتكالب من الناس على المال والمناصب، إن هي إلا محاولات بائسة لإدراك
شيء من لعنة، تكمن في هذا المال وذاك المنصب، والذي هو في يقيني مجرد اختبارات قاسية
للإرادة.
إن مجاورة إنسان في تجربة مرض على قدر متطرف من القسوة، هي اختبار جدا مهم
للفطر السوية، التي تستطيع أن تعود لكي تضبط علاقتها مع الله، وللمعنى الذي خُلق
الإنسان من أجله. فإذا كنا نتحرك في دنيا الله بأسباب الله، فلا أقل من أن نتحلى
بقدر مقبول من إيمان، يجعل هذه التجارب تمر، وهي مشفوعة برضانا حيال أقدارنا التي
انتخبت هذا الألم أو ذاك السقوط، لأننا يقينا لم نختر شيئا، وإنما اختير لنا، لأن
طي هذا الألم رحمة لا يمكن لنا أن نتصور مقدارها أو حكمتها، فالمرض هو المطهر في
كوميديا "دانتي" الإلهية من وجهة نظري، والذي سيجعلنا نلتحق بالأبدية،
ونحن على براءتنا الأولى يوم هبطنا مع أبينا يحركنا التوجس من الأرض الجديدة،
ويسكننا شوق باطني جارف - مهما بلغت معاصينا- أن نعود للفردوس المفقود، الذي هبطنا
منه لمجرد أن أبانا قد نسي عهدا قد قطعه مع الله.