في ثمالة قديمة اكتشفت أن "فايزة أحمد"
هي أجمل صوت نسائي نطق حرف "السين" عبر التاريخ، ومنذ عرف العرب
الأبجدية.
في ثمالة أخرى، حاولت تأصيل هذا الكشف العبقري من
وجهة نظري؛ بأصوات نسائية أخرى، والتركيز على الانطباعات والإحالات التي تحدث وأنا
أسمعهن. فوجدت أن صوت "هدى سلطان" كان يحيلني لحلاوة المولد. وحين أسمع
"شادية" فأنا يقينا في رحلة سعيدة. وحين أذهب مع صوت"صباح"
أرى بيتا للعائلة، تجمَّع فيه كل فرد فيها، يهللون ويمرحون، بينما ظل الانطباع
الأكثر رسوخا مع الوقت إنني مع صوت "ليلى مراد" قد تم دعوتي لحفل عند
ناس أولاد ذوات فعلا.
لم يتعاطف أخي الكبير مع صوت أم كلثوم. ولم أضبطه
متلبسا بسماع واحدة من أغانيها إلا نادرا. وحين امتلكت جسارة مناكفته. سألته عن
السبب. فقال عبارته الخالدة: صوتٌ مستبد، وأنا أكره المستبدين. ولأني كنت أحبه ولا
أريد الانسياق وراء ميوله بلا وعي، كنت أناكفه واستفزه بالراديو، وخصوصا من إذاعة
أورشليم القدس التي كانت تذيع يوميا أغنية لها. وأزعم وأنا أتجاوز الخمسين من عمري
إنها الصوت الذي علمنا نحب، وتجلت في أغانيها متعة الحب وعذاباته، والغريب عبـَّرت
عن كل أحواله بصدقٍ موجع.
لست أدري في بواكير الشباب لماذا لم أتعاطف مع
صوت "وردة"؟
كنت أظنها تغني بالقدرة وليس بالإحساس. أشعر أني
في فرح شعبي، غالبا في الشارع، أو فوق سطح بيت قديم. مع الوقت أدركت أن صوتها صوت
مبروك، يُشعرني أن الدنيا بخير. أما عن "نجاة" وأختها السندريلا
الراحلة، فلقد كانت الكلمة المركزية في صوتيهما هي الحضن. والذي يباغتك غالبا في
الطقس البارد. فصوت "نجاة" كان يعني لي الاحتواء والدفء. بينما ظل صوت
"سعاد حسني" يجعلني أشعر وكأنها تغني في حضني. ولي بشكل حصري، وبغناء هو
أقرب ما يكون للغنج.
وصلني صوت"نازك" و"سعاد
محمد" كتمثيل حقيقي لإشكالية الخذلان. فلم يكن صوتاهما يخلو من عبقرية وبلاغة
أثر متطرفة. لكنهما لم يكونا جميلتي المُحيا. وللمرة الأولى رغم شيوع انحسار
الجمال من ملامح بعض الأصوات الأخرى لكنهما افتقدا الحضور.
أزعم أن صوت "فيروز" مرض وراثي في
عائلتنا. ينطوي على معنى الصوت المركزي. نسمع غيرها ولاشك، لكن سريعا ما يأخذنا الحنين
لصوتها من جديد. فأخي الأكبر كان يتصور أن صوتها هو محاولة من السماء لكي تعوضنا
هذا الحرمان الأصيل من الأجنحة. فتقاطع غنائها مع حياتنا يجعلنا نفقد الشعور
بالجاذبية الأرضية. بينما ظلت شقيقتي فرانكوفونية الهوى، ترى في صوتها آخر ما تبقى
لعروبتنا من شموخ. بينما كنت وبشكل شخصي أشعر وأنا أستمع لها أن الزحام قد توارى،
ولم يتبق غير صوتها وأنا. والعالم من حولنا محض فراغ.