الثلاثاء، 5 ديسمبر 2017

ساويرس.. للإبداع أم للتوازنات؟

جميل أن تـُؤسس للعامية جائزة على هذا القدر من الثراء اللافت. لاسيما وأن العامية كإبداع لا يعني مؤسسة الثقافة(الرسمية) في شيء. فلا ينتصر لها المبدعون من خارجها، تحت داع العنصرية والاستعلاء، ولا أبناؤها أنفسهم؛ أصحاب الطموحات المتواضعة، الذين يكتبونها، لا لتأصيلها كإبداع فاعل ومؤثر، بقدر ما لهم في العامية من مآرب أخرى. لذا، وعلى قياس المحبة اختار "ساويرس" أن تكون الجائزة باسم "أحمد فؤاد نجم" الشاعر الذي ظل لآخر رمق من حياته في خصومة حادة مع المؤسسة الرسمية. لكن ما أفسد يقيني في هذه الجائزة أن المحكمين( لأنهم مؤسسيون أيضا) قد سقطوا في مطب التوازنات ولو في اللاوعي. أو يا ربما سقطوا بحكم العادة.. ولأسباب منها..
-  شروط السن أغلقت الباب لمجاملات الشلة. (أغلبهم تجاوز الأربعين).  
-  معظم من يشاركون في التحكيم أحسبهم بعيدين عن إبداع الشباب وظروفه.
- غياب المظلة النقدية لخطاب العامية ومستجداته، جعلتنا متى عرفنا شخصية المحكمين وأهوائهم أن نراهن على الاختيارات. بيد أن طول القائمة(عشرة شعراء) قد فتح الاحتمالات لتأسيس التوازن. بغض النظر عن الإبداع وجدارته. ورغم كراهيتي للتصنيف. لكننا سنجد بنات وأولاداً، مسلمين وأقباطاً. ومؤكد سنرى شاعرا مؤسسيا أو يكاد. تكرمه مؤسسته الحاضرة في لجنة الجائزة من جيب ساويرس.

المؤسف في الأمر، ورغم أن الجائزة خاصة، ومنفلتة من المؤسسة الرسمية، لكننا نلاحظ نفس ضبابية المعايير التي تمنح على أساسها. قد أستطيع تفسير طول القائمة على اعتباره تشجيعا لشباب المبدعين. لكنك تصر على "ديوان مطبوع" رغم أن آليات نشر هذه الأيام تعتمد على معايير ليست فنية في معظمها. وبالتالي فسوف تنتصر لشعر قد يكسب جائزة، وهو باتفاق من يستطيعون التقييم قد لا يكون شعرا من الأساس. وعلى الضفة الأخرى قد تسقط الجائزة نفسها لو سمحت للمشترك بديوان مخطوط. فهنا سيحدث زحام مؤسف، قد لا يخدم الجائزة، ولن يمنح الإبداع الجيد فرصة الوجود. ولِم لا. فعلى مدار سنوات الجائزة على حداثتها، نطالع دواوين فائزة لا علاقة لها بالعامية، قبل أن تكون منقطعة الصلة عن الإبداع نفسه. لذا أرى ولا أدري كيف ستكون الآلية.. أن يكون لدور النشر آلية الترشيح، ووفق معايير فنية إلى حد مقبول، بل وتـُعاقب بعدم اشتراكها العام القادم إذا لم تحصل على أي مركز من بين العشرة. وأن يكون التقديم للجائزة بطول العام وينتهي في موعده المعتاد.

في حقيقة الأمر رغم سعادتي بالجائزة كونها تخاطب العامية، لكنها لم تقم بدفع العامية للاختلاف. أو الانتصار للقيمة الإبداعية. والدواوين على الضفة الأخرى لم تكن حريصة على هذا المعنى. ولست أدري ما هي دوافع العامية الآن. والتي تكتب بالقدرة والصنعة. ودون أن تمس إنسانية الشعر بمصداقية تؤثر فينا كقراء لا ينقصنا الشغف. وأزعم على ضوء المتوفر من معلومات أن عناوين دواوين هذا العام قد ساعدت إلى حد كبير في خسارة أصحابها للرهان على الجائزة. عناوين خلت من معنى الإشارة والمجاز، والاختزال المُحرض، بل كانت تدفع لأن تتلقى لجنة التحكيم المنتج الشعري بشيء من النفور والتحفز. لأنها بالفعل عناوين مجانية، غريبة وصادمة.

لا توجد ثمة مسئولية يمكن إلقائها على أحد وهنا الأزمة. فلجنة التحكيم تتلقى ما يُطرح عليها من دواوين، والشعراء والناشرون محكومون بقواعد ليست أدبية وإبداعية في معظمها.
إننا لسنا ضد الجائزة كحافز للإبداع. بيد أن العامية نفسها المعنية بالتطوير والوجود كإبداع جدير بالنظر والاحترام ستعاني من النمطية والاجترار، والمجانية، التي لن تخلق التعامل المحترم مع منجزها. ولاسيما أن الأدب الآن قد تخلص من قضيته؛ كي يتقاطع مع ممارسات تجارية أحسبها في خصومة حادة مع المعنى الحقيقي للإبداع نفسه.       

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

لا حيلة في الرزق

آمنت منذ فترة. أن متعة العامية تكمن في سماعها. بل قد تكون إجادة الشاعر في حال المشافهة أعمق أثراً من مطالعتها مكتوبة. والسبب أن لغة العامية تظل مخترقة لدوائر التلقي بأسرع من الفصحى، وخاصة المقعرة منها. وفي كثير من الأحيان نؤسس علاقتنا بالشاعر على ميزان حضوره مسموعا ونسيانه أو نكاد مقروءا.{ الأبنودي مثلا} يملك حضورا شفاهياً يظل أكبر من قراءة منجزه مكتوبا.

على الضفة الأخرى ظلت العامية تقال في ندوات/ أمسيات. أحسبها باردة، وجمهورها على الأغلب شعراء. هنالك تجلت إرهاصة "الجخ" التي حوَّلت العامية إلى ظاهرة فنية، وأجواء إلقائها احتفالية إلى درجة، حتى وإن غلب عليها ما يمكن نعته بالتجارية. لكن، وبعيدا عن معايير التقييم الفني أراها ريادة تـُحسب للجخ، وليس التكسب من الشعر بخطيئة.

الحقيقة أن مشكل التعاطي مع العامية على هذا النحو لم يمنح الجميع فرصا متساوية. لأن الإجادة الفنية ليست وحدها الكفيلة بنجاح التجربة. فلقاء الجمهور بصورة مباشرة. وطرائق الإلقاء، وكاريزما الحضور، تتدخل بقوة كي تؤسس حضور الشاعر كظاهرة جماهيرية. سمات ليست متحققة عند جميع الشعراء. وحتى المجيدين؛ أصحاب مقومات الحضور المؤثر، باتوا يطورون أدواتهم من حين لآخر. تطويرا يستطيع بدوره مساعدتهم في إحداث الأثر المطلوب لأشعارهم متى ألقوها.. فمن الشعر فقط، إلى الشعر مصحوبا بالموسيقى، ومن ثم مؤثرات خاصة تتحرك في خشبة المسرح كي تكتمل عناصر العمل الفني، وفي القلب منها الشعر. ومن هؤلاء ولاشك الشاعر"عمرو حسن". والذي يؤسس لحضوره الإبداعي كشاعر يمثل النموذج الذي تُقاس على حركته الإبداعية حركة جيل كامل من الشعراء الشباب.

بطبيعة الحال عندي - بشكل شخصي- أزمة في قبول مستويات معينة من الإبداع. ولاسيما الذي ينطلق كي يتسق مع حركة سوق التلقي إذا جاز التعبير. لكن ليس من العدل أن توضع الموهبة على المحك طالما لم تمنحنا شعرا يرضينا. فتقييم التجربة الإبداعية لا يطال تقييمنا للموهبة. وخصوصا إذا كان الشاعر في الأساس قد قدم سابقا نصوصا مهمة، مفارقة ومختلفة، وتحتوي على إنتاجية شعرية مبهرة.
إذن أين تكمن أزمة "عمرو حسن" وغيره. وعلام تقاس تجربته الإبداعية؟

في صدفة صاغها قدري، قرأت "بوست" يتحدث عن حفل شعري في قصر ثقافة الفيوم. وحديث من المعلقين على"البوست" يتجهون فيه لسعر التذكرة. وقيمة ما سيحصل عليه الشاعر. وهكذا تفاصيل.        
في الحقيقة لم أكن أتمنى أن ينساقوا وراء أمور من الممكن أن تؤدي لتفسيرات أقل ما توصف به أنها مريضة وحاقدة. بل إن تربُّح قصور الثقافة من هكذا أنشطة أحسبه مطلوبا. للصرف على الأنشطة الثقافية الأخرى. وخاصة وبعد سبعة عشر عاما من الفرجة على المؤسسة لم أسمع من يناقش قضية فنية بأكبر من مناقشة (بون العشاء في مؤتمرات أدباء الأقاليم) أو بدل الندوة أو السفر. والحرب المستعرة بين المحاضر العادي والمحاضر المركزي، أو من يبحث عن فرصة نشر في مجلة الثقافة الجديدة لأن المساهمة قد غلا ثمنها!!

الغريب فعلا ما قرأته من تعليقات تتجه أن بالفيوم شعراء أكبر من "عمرو" فنيا وإبداعيا. حقيقة قد لا أملك يقينا ما يدحضها. لكن فقط أسأل الذين اهتموا بكم ما سيحصل عليه"عمرو" من أجر. فكتبوا ما كتبوا. أين أنتم من هؤلاء الشعراء. لماذا لم تشيروا إليهم، وتلقوا على منجزهم بعض الضوء؟؟   

لم يمنحني الوسط الأدبي ما هو أكبر من أزمة الوجود والتواجد. وأحسب أن المبدعين الذين خرجوا من رحم المؤسسة -إلا من رحم ربي- مشوهون لدرجة مؤسفة. وأظن أن أزمة"عمرو حسن" ومن هم على شاكلته من المتحققين جماهيريا أنهم يضربون النموذج. لا أقصد النموذج الإبداعي فلهذا مقام آخر، بل أعني الصورة النمطية لشاعر العامية. كونهِ إما أن يكون متسولا أو جربوعا. يبحث عن فرصة نشر، أو ندوة تأتي له بعلبتي دخان. أو مؤتمر من هذه المؤتمرات التافهة. والتي لا ندري. وهنا أسأل على سبيل الجملة الاعتراضية: أين تذهب توصيات هذه المؤتمرات، وهل أفادت الطقس الثقافي والإبداعي؟

ليس دفاعا عن أحد. بل إن المقربين مني يعرفون رأيي فيما يحدث. لكن آفة المحيط الإبداعي (العامية تحديدا) أن التنظير قد أصبح مجانيا إلى درجة وفارغا من معناه. ومسوغات الوجود فيه تنطلق من(الشلة) ونشاط المؤسسة نمطي ومقزز. لا يستقطب بقدر ما يُنفر. هنا من السهل أن تغادر وتؤسس صوتك الفرد. تستغل معطيات زمنك(السوشيال ميديا على إطلاقها). وتحقق وجودك الخاص بالمعطيات المتسقة مع إمكانياتك. قد تكتب لزمنك بشروطه. وقد تكتب بشروطك. تنتصر لوجودك وتستثمر مواهبك لكي تعيش. أو تكتب كي تبتغي ما يشبه الخلود. وأزعم أن إدراك بلاغة الأثر والتقييم الجيد للعامية لن يحدث قبل عشرين عاما. وإلى هذا الموعد، لنترك الجميع يضرب بعضه بعضا. وننتظر لنرى، ولكن، دون أن نصادر على السماء في تعاطيها مع مفهوم الرزق. فلن نبتهج ونحن نرى شاعرا عظيما يبيع مناديل على إشارة، أو يلقي أذكار الصباح والمساء لرواد مقاهي وسط البلد.

   

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...