الاثنين، 18 أبريل 2016

كلام بالوقة.. نوستالجيا أحمد شبكة

 كلام بالوقة.. نوستالجيا أحمد شبكة


هي شاعرية تؤسس لإنسانيتها ونبلها، تنطوي على إحاطة شبه كاملة بالواقع وظروفه، وأزماته. أدركت- يا ربما- مبكرا دورها حتى لكادت تبتلعها معطيات حياة تتأرجح بين الضغط العارم لإثبات الذات وسط هذا الركام. وبين أن تمتلك الفرصة لأن تحتج وتصرخ وتعترض.  

بأي حال لا نعتبر"أحمد شبكة" شاعرا إشكاليا، لكن من الإنصاف أن نراه يكتب نصا إشكاليا على قياسات الآن بالضرورة. حيث يتبدى لقارئ العامية المتمرس أن الرجل لا يُشعِر بقدر ما يترنم. يغني غناءً ظل مؤجلا لآماد طويلة. ودون أن يصادر على وجعه الخاص الذي يجعل من هذا الغناء محاولة أخرى للبوح الشجي الذي يمارسه؛ كي يثبت أنه في البعد لم يكن منفصلا بالكلية عن هذا العالم الذي دخل معه في صراع مفتوح، فإما أن يتحول تحت الضغط إلى(ترس) أو ينفلت انتصارا لإنسانيته. لذا فإن كل نص نقرأه للرجل يبدو لي محاولة لتخليق هذا الانفلات الذي يتسق بدوره مع إنسانيته الرفيعة.

"كلام بالوقة" لم يكن ديوانا يحاول إبراز هذا الاتساق الضمني مع العالم وتفاصيله، فلا موقف الشاعر يؤكد هذه الحقيقة ولا نصوصه-غالبا- تحاول ترميم هذه العلاقة المرتبكة. ولا نلحظ بأي حال القصيدة الحلم التي تحاول خلق متواز وجودي يصلح لإقامة الرجل فيه. وإنما نقرأ محاولات مستميتة للصلح أو على أقل تقدير إيجاد أسباب تسمح للذات أن تحيا واقعها. مع البحث الدائم عن هذه البقع الفسفورية في قتام ممتد. الطيبة المختبئة في آتون من التلوث على إطلاقه. الحب الصرف المتسم بالندرة إذا ما قورن بهذا الطقس من الكراهية.

 بطبيعة الحال هناك صنف من البشر لا يطرب لأجواء الحرب وينأى بنفسه عن كل مركبات الجدل الذي لن يؤدي إلا لمزيد الجدل. فإذا كانت الكتابة بديلا للجنون، فهي كذلك محاولة مخلصة للذين ينشدون الراحة والتخفف.

إننا حين نربط الشاعرية بتحقق موقف معين من العالم. كنا فقط نؤسس سياقات نظرية يا ربما تساعدنا في كشف حقيقة المنتج الشعري وأهدافه. لكننا وعلى ضوء هذه التجربة وجدنا دورا آخر للشعر، تتمركز حول ما يشير لمحاولة الترميم للروح، أو مواساة الأحلام التي سبق وأن تعرضت للكسر أو الانسحاق. إننا حين نقرأ لأحمد شبكة. نلتمس كفا حانية بامتياز تتحرك قاصدة كل من يحتاج الدعم والتآزر، هدفها ذلك الكتف الذي أجهدته الإحباطات. أو تسعى لتجفيف دمعة من عين مُسهدة. لا تحقق تعادلية الأزمة بين الذات الشاعرة والقارئ المأزوم؛ كي يصبر ويرضى وحسب، ولكنها تدعوه لأن يرى الدنيا كما رآها ذلك الشاعر الذي لا يراهن إلا على البياض، وهذا النور مهما بدا ضعيفا.

سيقول قائل: إن الحياة قد اغتالت هذه الأنفس وحاصرتها. تواطأت مع حركة أقدار مجحفة؛ كي تُسقط هؤلاء أو تنفيهم. نعم ودون أن أميل هنا لمعسكر هؤلاء أو حزب الشاعر. لكن فقط أسأل. وكيف يتسنى لنا أن نوأد هذا التعاطي الذي يعيد لأرواحنا اتزانا نفتقده؟

إن الشعر هنا ضرب من تخفيف حدة الأزمة دون أن ينكرها. يشبه الدواء الذي يوقف شراسة الأعراض دون أن يشفينا بشكل حاسم. أو ربما يسعى بإخلاص لإحداث معجزة الشفاء. لذا سأقف للنهاية مدافعا عن هذا السمت الذي يتهم هكذا شاعرية بالفصامية، أو غياب المرجعية النفسية التي تستطيع كدأب كل الشعراء تأسيس كتابة مأزومة بطبيعتها، وسأغض الطرف إذا ما وُصفت –فرضا- بالكتابة المترفعة المتسامية التي تتلمس ضوءا في نهاية النفق.    

إن "كلام بالوقة" يحيل الماضي إلى إشكالية، وهنا وفي ظل شاعرية مرهفة إلى درجة كبيرة نجد محاولة ذرائعية لاستدعاء الدفء المفقود . إن مزاج النوستالجيا الذي يتسرب كثيرا في شعر "أحمد شبكة" والمتحقق في ديمومة ذلك الحنين إلى الماضي بتفاصيله. وحكاياته ومفرداته. لا يحمل سوى الإقرار الصريح أو الضمني بجليدية الراهن إذا ما قورن بهذا الماضي الذي يمارس الرجل حياله كل أشكال الحنين. جدلية تشكل عنده أعلى مقدرات وعيه، ورؤيته لهذا الواقع المأزوم. هو يقينا يرفض إلى حين الاشتباك مع هذا الواقع. لكنه برهافة التوجه يشير بأصابع الاتهام إلى هذا الراهن الذي لا يتفق أو يكاد مع هذا الماضي بمكوناته سواء في ضميره الإنساني، أو الفني. فلا يوجد ثمة مقارنة حقيقية بين الآن وهذا الماضي تأتي نتائجها في صالح الأول.

هو يدرك بالفطرة أن المعاني تراجعت. انزوى زمن البراءة البكر. والطيبة والبساطة، جوهر الفطر النقية، يدرك تراجعها، وحين أقول تراجعت أعنيها هنا؛ لأن شاعرية بهذا السمت لا تؤسس شعرا ينتج أحكام قيمة نهائية تنذر بزوال هذه المعاني من حياتنا في المطلق. إذن لنشارك الرجل أنها تقلصت، أو اختلفت، أو حدث ضمور لمركبات البراءة في حياتنا. لذا فإن كل نص أو يكاد يسافر في أهدافه؛ كي يستدعي هذا الدفء في مواجهة جليدية لحظة الكتابة. التي انفصلت الذات فيها واعية؛ كي تنتج شغفها بهذا الفرق الذي يؤسس في يقين القارئ هاجس المقارنة من جهة، وهاجس الأسى الشفيف حيال ما ذهب ولن يعود.

إن التأسيس الجدلي لهذه الحالة من النوستالجيا تأتي دائما بمذاق "أحمد شبكة" لا لكي تعكس مجرد حنين للماضي بكل مكونات براءته، وإنما تستدعي حالة أخرى من حالات الحنين إلى الطفولة ذاتها. لأن مركزية الماضي دائما تنطوي في تفاصيلها عند هذا المنحنى الذي يخلق جماليات الماضي، وما يحمله من ذكريات. حتى لو تماهت هذه الذكريات بدورها مع بعض المآسي العارضة. لكن حتى هذه الذكريات وما يغلفها من حزن. تظل الأحب والأقرب إذا ما قورنت بالأحزان الآن.

في حقيقة الأمر إن ذاكرة الطفولة خشنة بامتياز. تحتفظ بأدق التفاصيل. أحاديث الأجداد والجدات. العبث الطفولي وتجلياته. الأمر الذي ينعكس بدوره على ثراء فعل الاستدعاء لهذه الذكريات. شريطة بالطبع أن يوجد مكون ماضوي ينسحب بدوره كتفاصيل في القصيدة.

لا أريد التحايل هنا كي ما أعيد ربط النص بمفهوم إنساني يخص الطفولة كحالة. أو ربط هذا الحنين للطفولة كمركزية ممثلة لهذا الماضي رغم جدارة الطفولة لإنتاج هذا المعنى. لأن المؤكد هنا أن الشاعرية تقف على رصيد من التجربة الهائلة التي يدعمها عامل العمر، والخبرة بالتبعية. هذا بالإضافة إلى ثراء المكون المعرفي القادر بدوره على استدعاء تراث الذاكرة للتخديم على فكرة النص، والتي تبتغي الاستدعاء على المدى القريب. والمقارنة بين الماضي والراهن على المدى الأبعد. لذا لا نملك حكما قاطعا ونحن نطالع تجليات هذه النوستالجيا حال ربطها بمكونات الطفولة كحالة جالبة للاعتقاد بضغط واقع قديم جعل من الذات لا تشعر قيمتها في وقتها. أو يا ربما تعرضت لتعاطي مجتمع الكبار الذي ما ترك فرصة للاستمتاع بها. أقول ذلك لا لشيء بطبيعة الحال. رغم إيماني بمقولة"لاكان" التي ترى النص الأدبي جزءا أو يكاد من تاريخ صاحبه أو انعكاسا له. بيد إننا في الشعر لا نقرأ نوايا بقدر ما نقرأ حدوسا شعرية هي في الأصل منتمية لصاحبها دون الاحتجاج بها كقرينة لتحليل هذا الماضي نفسيا، وبالضرورة تأصيل شكل علاقة الشاعر بطفولته في إطار هذا الماضي المستدعى.

"كلام بالوقة" ديوان من الإنسان للإنسانية. ودعوة ذات خصوصية لإقامة ولو هدنة عارضة لمحارب تورطت روحه أن يرتدي زي القتال في معركة بالضرورة لم تكن لتشغله. لكن بحسبه أن ينتصر فيها للمعاني في براءتها. وللذكريات في بهائها الإنساني، وللمواقف النبيلة حين تتحدث عن نفسها.      


الثلاثاء، 12 أبريل 2016

وقت أحمد عايد.. 2/1

إذا كان الوقت هو المسافة المقطوعة بين لحظتين أو هو ما نسميه الوقت الفيزيقي. فلِم كان الوقت وقت أحمد عايد؟

في حقيقة الأمر لكل عنوان غواية، قد تفتح المتن الشعري المنضو تحت لوائه، أو إنه قيمة مختزلة لعناصر التجربة المخطوطة بين دفتي ديوان. أو على الأغلب محاولة مخلصة للتحريض. وأزعم أن كل هذه الأهداف بدت متحققة فعلا. لكن في علة الاختيار المسند لاسم صاحب المتن الشعري لا ندري إلى أي جهة نسير؟

نستطيع أن نستلهم خصوصية هذا الوقت بانفتاح إشاراته وربطها بالذات الشاعرة التي أنتجت نصوصها على هذا النحو. أو يا ربما علاقة هذه الذات بالظرفية التي تحتوي حركتها في تفاصيل ذلك الوقت. ولاسيما أن الوقت المعني بهذه الفاعلية لا يغرينا باعتبار أن الزمن والوقت في دلالتهما اللغوية والإشارية مترادفان. بل إن علاقة الوقت بالزمن قد تساوي عندي علاقة هذا وذاك. الأولى للقريب، والثانية للبعيد. وكأن ظرفية الوقت أكثر التصاقا بصاحبها. بينما الزمن تظل ظرفيته أشمل؛ حتى لتتجاوز الذات إلى ذوات أخرى ومضامين أكثر اتساعا.

إن ارتباط الوقت بأحمد عايد صاحب الحالة برمتها قد يؤسس لملامح تتسق دلاليا مع إشارات نفسية تعيد الاعتبار للذات، لا للانتصار لخصوصية هذا الوقت بالإشارة الصريحة للاسم. بل للانتصار للذات التي أنتجت وقتها الخاص من جهة، أو انفلتت بوقتها من عناصر عدة لأوقات لا يُمارس عليها أي إرادة من قبله. أو التأكيد لدوائر التلقي أن هذا وقتي أنا.

في تخريج آخر تبدو لي قيمة الإضافة بربط الوقت باسم صاحبه كردة فعل لسيولة أوقات أخرى سحقت أو انسحقت تحت وطأتها نفوس ذابت أو تلاشت مع هذا الوقت ومكوناته. إذن فذلك الربط في تأويلاته النفسية قد يذهب بنا للاعتقاد بكون الكتابة ذاتها محاولة للحفاظ على هذه الأنوية. التي باتت سياجا يحافظ على "أحمد عايد" نفسه ويحميه من مغبة الانسحاق في ظرفية أوقات أخرى ليس مسئولا عنها. ودون التورط منّا في نعت هذا التوجه لكونه نزعة لنرجسية ينتحلها الرجل؛ كي يؤكد لكون وقته هو الأهم والأبرز إذا ما قورن بأوقات أخرى.

إذن هو وقت أحمد عايد. الوقت المؤشر دلاليا بكل عناصره المتاحة{ الليل/ عصر/ الضحى/ الفجر/ الخريف.. وإن ظل الصباح هو الظرف الذي تكرر كثيرا كإشارة للبدايات وللاستهلال، أو يا ربما نتيجة لمقدمات ليلية لا تخلو من شجن وافتقاد} رغم أن الديوان في علاقته بالوقت يعكس في مجمله إرادة انتخابه، لأنه بالضرورة كان للبوح واستجلاء الرؤى التي قررت في ثنايا هذا الوقت أن تعلن عن كل هذا المخبوء. الغريب أن كل الرهانات التي حاولت أن تصادر على ماهية هذا الوقت قد باءت بالفشل أو تكاد. فالوقت لم يبد مأزوما بالكلية رغم توافر مكونات الأزمة التي يمكن أن نلمسها دون جهد....   

أرفع النبرات مدعيا شجاعة فارس أسطورة
والخوف يملؤني
فكيف سأحرس الأشياء
والأشياء تجهلني وأجهلها.

أزعم وقد يصح زعمي أن الخطة التي سبقت فعل كتابة النصوص كانت على أعلى درجات الانضباط الرؤيوي، وتدرك باليقين ماذا تريد من هذه الكتابة. اتخذت منطق السباحة حول مضامين الأزمة، دون التورط العميق الذي يجعل من النص ضاغطا حد الألم. لا أريد هنا أن أقول: إن محاولات تبسيط الأزمة وعناصرها كان حاضرا، ففي ذلك ظلم ولاشك. لكن ما نستطيع التدليل عليه. هو إعادة توزيع الهموم الخاصة وتحديد شكل العلاقة بين هذه الهموم بمضامين الواقع لحظة لقاءه بتصورات الرجل حياله. لم يكن تهوينا بأي حال، بل أحسبه تساميا فوق الأزمة ومكوناتها الطاعنة. التي من شأنها التعويق الذي ينعكس بدوره؛ كي يُلمح بحضور ذات على قدر من الهشاشة أو تكاد. لذا وجدنا تعاطيا على درجة كبيرة من الرهافة. تخلى طوعا عن هذه اللغة التي تعمق الإحساس ببشاعة الواقع المتماس مع هذه الشاعرية. لغة على درجة من الصفاء البنيوي لا تحمل أنساقا ممتعضة في تطرف، أو كارهة بإلحاح.

بطبيعة الحال ظل الموقف من العالم هنا لا يحمل أي معنى للانسجام الكامل، الاختلاف المتصادم، أو التورط في إشكاليات كبرى، فالرجل يدرك- يقينا- الأزمة، لكنه يؤسس عوالم متوازية قادرة على تجاهلها. أو على أزمات أكثر تخففا وتحللا من عناصرها في ثوب القتام.

إننا نلمس فيوضات تتناول عناصر الرؤية الخاصة حيال مواجيد نفسية تسير بأقدام تكاد لا تلمس الأرض. تسعى بدورها لإبراز معاناة الإنسان ولاسيما المبدع. الذي يريد أن يختط طريقا أقل وعورة، وأخف وطأة، وبأقل خسائر ممكنة للروح. 

إن إشكالية هذه الكتابة – في نظري- إنها لا تنتحل محدودية الرؤية أو أحادية الموقف حيال ما تطمح إليه وطرق تحقيقه. ولا تؤسس لاغترابها كمرجعية تحاكم عالمها. محاكمة تتسم بالإهانة والتشويه. فبحسب الرجل أنه شاعر، يطارد القصيدة والأفكار البكر، التصورات المتجاوزة، شاعرية تسعى لتحطيم النموذج الذي يرى في الاحتجاج العارم مجدا، أو في الصراخ الممجوج قيما فنية تصل بالشعر إلى أقصى درجات التواصل. بل إن هي إلا كتابة تحاول رأب صدع الذات أو إقامة حدا مقبولا من التوائم مع المفردات المأزومة والتوائم الكامل مع مكونات البراءة التي تستطيع أن تنتصر للإنسان في معناه ومبناه قبل أن تنتصر للعالم المرتجى، الذي ينهض فوق ركام كارثة لا تريد الذات الشاعرة أن تقف كثيرا عندها.

هل يكتب الآن قصيدة ً
أم يرتب وقته في دفتر ٍ
أم يقرأ الصحف الرتيبة
أم يداعب قطةً  


في حقيقة الأمر إن الشاعرية التي تستطيع أن تجلب إرهاصات متعددة داخل إطار واحد هي في الأساس تدرك أنها في طور الانفلات من براثن أزمة واحدة إشكالية قد تسيطر على المنتج الشعري إجمالا. لذا لم يساعدنا المتن الشعري على اختلافه وتنوعه أن نتبين ما هو أبعد من المعنى الإنساني للأزمة، ومن جهة أخرى لم يمارس إلحاحا بتفاصيل أزمة واحدة. لذا من الظلم بمكان أن ننعت هكذا معالجة بكونها قد شتت التجربة، بيد أن الإطار العام الذي يحكم الإرهاصة يكمن في وثوبها فوق التقليدي من الشعر الضاغط من أجل عوالم أخرى إنسانية وشفيفة.  

ماذا فعل الله ببلال فضل؟

  في المبتدأ لن أميل لكون ما سأكتبه نقدا أو مراجعة، أو حتى رأي انطباعي، رغم الاعتراف بوجود الغواية الكافية؛ كي أتصدى لقراءة الرجل وأنا مُحمل...