أقنعت صديقي الجاحد بصعوبة أن نرحل لتونس كي
نبتاع بضائع نحتاجها، وكان لي بشكل شخصي مآرب أخرى.
لم يكن لديَّ معلومات، لكن الربح قرين الجسارة.
ألقانا الحظ في طريق واحد من المهربين وسألناه مباشرة، فتعاون معنا.
تحركت في يومين أو ثلاثة البضاعة مرورا من ليبيا
إلى مصر. هنالك لم يفكر صاحبي كثيرا فحرق العودة في تذكرة الطائرة. ورحل براً. بينما
ظل معي أسبوع لا أدري كيف سأنجز فيه ما سعيت له.
لم يكن من أحد محسوب على تونس والمشهد الشعري
التونسي يمنحني التشجيع حين سألت عنه، وخاصة بعد أن وقع بين يدي ديوان
له"حالات شتى لمدينة".
على استحياء ألمحوا لاتهامه بالتعالي والكبرياء
المتطرف. أو ربما كانوا يحسبونه على حزب المتوائمين مع السلطة. والحقيقة أن شعره لم
يمنحني يقين التوائم. ففي شعره ثمّة احتجاج ونقد شفيف للواقع، مع تلميح بأزمة
الإنسان وبخاصة التونسي.
لكن أعترف حين التقيت به كانت ملامحه من ذلك
النوع التي قد تظلم صاحبها. فرغم كونه جميل الشكل والهيئة، لكن بدت عليه أمارات الصرامة.
التي لم يستطع المرض إخفائها.
من مصر حاولت الاتصال به، وبذلت في سبيل ذلك جهدا
كبيرا، فإيماني به جعلني أكتب عن ديوانه قراءة نقدية. وحين اهتديت لبريده الالكتروني
أرسلت له توطئة القراءة التي تسبق تحليل نصوصه. شكرني وألمح إنه يعتذر لكونه تأخر
في الرد لأنه مريض.
أنجزت القراءة وأرسلتها، قلت يا ربما أسعدت روحه،
فاعتراف الرجل بالمرض لا يوحي إنه مرض عادي. وحين قررت السفر لتونس كنت أرسلت في
طلب عنوانه ورقم هاتفه فسوف أرسل له كتبي، والحقيقة لم يكن عندي وقتها غير ديوان
واحد.
كانت خطتي تنقسم بين اتجاهين أبدأ بمحجوب العياري
في "نابل" ومن ثم أتحرك إلى المنستير.
وصلت "نابل" وكان الوصول لبيته أصعب من
الوصول للمكتبة الجهوية. فانتظرته هناك بعد أن هاتفته عن طريق هاتف بالعملة.
وصل أخيرا وبدا لي مريضا فعلا بمرض عضال. تظاهر
بالثبات والتماسك، بيد أن الحركة نفسها كوني أخبرته إنني قد جئت من مصر خصيصا كي
التقي به. حركة قد أسعدته وأحسبها أبكته في انضباط. كما كان ممتنا للقراءة وأثنى
عليها.
عبرت له عن إعجابي. ولم أرد أن أشق عليه. ولكني
ألمحت لمعنى الخصومة التي لمستها حيال أسمه من حزب الشعراء الذين سألتهم عنه. وحين
سألني عن رأيي قلت: قد أغفر نرجسيته مادامت الحقيقة الشعرية مضيئة وقوية.
الغريب في هذا اللقاء أن الرجل ظل
يناديني"شوكت"، والأغرب إنني لم أصحح له الاسم. والمؤلم أن ظننت إنه قوي
وسيقاوم، لكن في منتصف مارس 2010 كنت قد أرسلت له مقدمة قراءة جديدة لديوان"
حرائق المساء حرائق الصباح" ولكنه لم يرد. في نهاية الشهر كنت أقرأ نعيا يشير
لموت"محجوب العياري" ورغم الشعر كمركز للمعرفة ولهذا اللقاء العابر لم
أستطع تفسير لماذا اعترتني هذه النوبة من البكاء. ولاسيما أن خبر موته كان مشفوعا
بقصيدة يرثي بها نفسه.
سأمــوتُ من وَلـَـهٍ... أمــوتُ
،سأموت حقـًّـا، لا مجازا
.ثـُــمّ يطــــويني السّـُـــكوتُ
سيسيرُ خلف النّعش أصحاب قليلٌ
.سوف يمشي أدعيـاءُ وكاذبُـــونْ
سيقول نُـقّــادٌ كلاما غامضــــا
..ليُـوفّـــرُوا ثمنا لكبـش
العيد حتّى يفرح الأطفالُ
سـيهبُّ أكثر من مذيع فاشل
ليبُثّ صوتي عبر حشرجة المساء
ستُـعيدُ بعضُ صحائفٍ نشرَ
القديمِ من الحواراتِ القليلهْ
بعضُ اللُّصوص سيحتمي بظِلال
مسبحةٍ كذوبٍ
...ثمّ يتلو ما تردّد عن عذاب
القبرِ
عُشّاق صغار، ساسةٌ حمقى،
سماسرةٌ، نهاريُّــــونَ، كُـتّابٌ بلا كُتبٍ، وحُجّابٌ بلا حُجُبٍ، وحطّابون في
ليل القصيدة دونما قبسٍ، ومشّاؤون نحو ولائم :السُّــرّاقِ سوف يردّدون جميعُهم
،محجوبُ
مِـنـَّـا-
نحن حذّرناهُ أنّ العشقَ، مثل
الخمر، مثل الشّعرِ قاتلْ
محجوبُ
مِـنـّـا-
...نحنُ أطعمناه من جوعٍ،
وآمنّاه... كان لنا رفيقاَ
..محجوبُ منّا-
لستُ
منكم-
لمْ أُرافقْ غير جُــوعي
لستُ
منكم-
لمْ أُرافقْ غير حُــزني
لستُ منكم-
لمْ تُـرافقني سوى أُنثى أنا
أوغلتُ في دمها... فمعذرةً-
سوى صحبٍ قليل عـدُّهُـمْ
لكنّهم كانوا صباحي
لستُ
منكمْ-
لستُ من أحدٍ
وكفّي هذه بيضاءَ أرفعُها... وما
رافقتُ من أحـــدٍ
أنا رافقتُ جـــوعي
،وقصيدتي جاعتْ وما أكلتْ من
الثّــديَـيْـن... جـاعت
خوّضتْ في اللّيلِ حافيةً،
ونامـتْ
!لمْ تُفتّحْ لارتعاشتها
البـُـيُـــوتُ
سأمــوتُ من وَلـَـهٍ... أمــوتُ
،لكـنّ كاساتي، وكاسات
الأحـبّــةِ فِـضّـــةٌ
.وكــؤوسُ أعــدائي
خُــفُــــــــوتُ
ولنا الصّباحاتُ التي لا تنتهي
.ولهم فواجع أمسهم
.لهم السّـُـكــوتُ
.سأمــوتُ من وَلـَـهٍ... أمــوتُ
سأمــوتُ حـقًّــا، إنّـمــا
،من لحم أغنيتي ستطلعُ كــرْمــةٌ
.سيحـطُّ فــوق جـبـيـنـها حبــقٌ
وتُــــوتُ
سأمــوتُ ؟
وهْــمٌ ما أشاع المـيّـتُــونَ
وهــلْ أخُــو وَلـَـهٍ...
يمُــوتُ ؟
! هــلْ أخُــو
وَلـَـهٍ... يمُــوتُ ؟